الرئيسة \  واحة اللقاء  \  دلالات العودة الروسية إلى الساحة الشرق أوسطية ـ1-2 ـ

دلالات العودة الروسية إلى الساحة الشرق أوسطية ـ1-2 ـ

26.11.2013
حسن نافعة


اليوم السعودية
الاثنين 25-11-2013
    بعد غياب طويل عن ساحة الصراع المحتدم على منطقة الشرق الأوسط وفيها، بدأ في الواقع قبل سنوات من سقوط الاتحاد السوفيتي رسميا في بداية تسعينيات القرن الماضي واستمر لسنوات طويلة بعدها، ها هي روسيا الاتحادية تقرر العودة إليها من جديد وتؤهل نفسها للعب دور رئيسي في توجيه تفاعلاتها بعد أن أصبحت هي المفوض شبه الرسمي بإدارة ملف الأزمة السورية. لكن هل تملك روسيا المعاصرة ما يكفي من المقومات لتمكينها من لعب دور مماثل للدور الذي قام به الاتحاد السوفيتي في زمن الحرب الباردة، خاصة خلال حقبتي الخمسينات والستينات من القرن الماضي؟.
يبدو أن هناك، داخل وخارج روسيا، من يحلم باستنساخ هذا الدور ومن يعتقد بإمكانية إعادة إنتاجه مرة أخرى. وفي مواجهة هذا الفريق يوجد فريق آخر يرى أن إعادة إنتاج أو استنساخ الدور الدولي للاتحاد السوفيتي هو مجرد وهم أو سراب يتعين الكف عن مجرد مداعبته، لأن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفيتي، ولأن بنية النظام الدولي في مرحلة تطوره الراهنة تختلف كليا عن بنية النظام الدولي الذي خرج من أحشاء الحرب العالمية الثانية.
غير أن هذا التباين في وجهات النظر لا يكفي للحيلولة دون وجود ما يشبه الإجماع على أن روسيا المعاصرة تختلف اختلافا بينا عن روسيا عند خروجها من رحم الاتحاد السوفيتي المنهار، وأن هذه الدولة تستطيع اليوم أن تقوم بدور في النظام الدولي أكبر بكثير مما كان مقدرا أو متوقعا لها عند لحظة الولادة الثانية، وأن الأزمة السورية بتعقيداتها وانعكاساتها وتأثيراتها الهائلة على الأوضاع الإقليمية والدولية، هي التي تتيح للدولة الروسية فرصة ذهبية للقيام بدور ما زال عن بطل في تلك المرحلة الانتقالية البالغة الأهمية والحساسية من مراحل تطور النظام الدولي.
لكي ندرك طبيعة وحجم وحدود هذا الدور، علينا أن نتذكر جملة من الحقائق يمكن تلخيصها وعرضها على النحو التالي:
1- ان السياسة الخارجية الحالية للدولة الروسية لا تحركها في المرحلة الراهنة دوافع أيديولوجية، مثلما كان عليه الحال بالنسبة للاتحاد السوفيتي، وإنما تحركها دوافع وطنية وقومية تضفي عليها طابعا براجماتيا، يجعلها أكثر مرونة وقدرة على التعامل مع تفاعلات نظام دولي ما زال يتسم بقدر كبير من السيولة في تلك المرحلة الانتقالية من مراحل تطوره. من هنا صعوبة التنبؤ مسبقا بما يمكن أن تتخذه روسيا من مواقف إزاء مختلف الأزمات المتصاعدة التي قد تشهدها الساحات الإقليمية والدولية المختلفة، خاصة الساحة الشرق أوسطية.
2- أن لدى روسيا «الوطنية» أو «القومية» شعورا عميقا ومترسخا بالمرارة الشديدة إزاء سلوك الدول الغربية تجاهها على الرغم من سقوط وتفكك الاتحاد السوفيتي. فقد ظل هذا السلوك عدائيا في جوهره، متجاهلا الحدود الدنيا لمتطلبات الأمن الوطني والقومي الروسي، وهو ما بدا واضحا تماما في إصرار الغرب على توسعة حدود حلف شمال الأطلسي إلى أقصى نقطة يستطيع الوصول إليها، وسعيه المتعمد ليس فقط لضم دول مجاورة تعتبرها روسيا جزءا لا يتجزأ من مجالها الحيوي وإنما -أيضا- لمد شبكة دفاعاته الصاروخية إلى هذه الدول، وهو ما اعتبرته روسيا تهديدا مباشرا لأمنها الوطني يستحيل عليها قبوله أو الاستسلام له.
3- ظلت روسيا لفترة طويلة اعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي منشغلة بإعادة ترتيب أوراقها وأوضاعها الداخلية، وكان لزاما عليها أن ترسي أولا دعائم لنظام سياسي داخلي قوي ومستقر، أي قابل للدوام والاستمرار، قبل أن تتطلع لممارسة سياسة خارجية نشطة، وقادرة على مواجهة التحديات الإقليمية والعالمية. ولم تتبين معالم هذا النظام بوضوح إلا بعد ظهور بوتين على مسرح السياسة الروسية ووصوله إلى موقع رئاسة الدولة، ثم راحت قواعد النظام الجديد تترسخ تدريجيا مع ظهور الثنائي المتفاهم بوتين-مدفييف وتبادلهما لموقعي رئاسة الدولة والوزراء في تلك المرحلة الدقيقة من مراحل تطور روسيا المعاصرة.
4- ما إن تمكنت روسيا من إعادة بناء مؤسسات نظامها السياسي الداخلي الجديد وبدأت عجلة النشاط الاقتصادي فيها تدور، حتى بدأت تتطلع للعب دور أكثر نشاطا على الصعيد الخارجي. وقد بدأ هذا الدور بوضع خطوط حمراء ترسم حدود الأمن الروسي على الصعيد الإقليمي، وهو ما بدا واضحا في الأزمة التي اندلعت على حدودها مع جورجيا منذ سنوات، قبل أن تتطلع إلى لعب دور نشط على الصعيد العالمي.
غير أنه يتعين الانتباه إلى أن التزايد المضرد للدور الروسي على الساحة الدولية، على الصعيدين الإقليمي والعالمي، لا يعود فقط إلى استقرار النظام الداخلي في روسيا، والتي تعد ثاني أكبر قوة عسكرية في العالم، أو إلى الزيادة المطردة فيما تملكه من عناصر ومقومات القوة الشاملة، وإنما تعود أيضا إلى انكشاف حدود القوة الأمريكية، على الصعيدين الاقتصادي والعسكري، خصوصا في ظل الحماقات التي ارتكبتها إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش حين قرر شن حربين متتاليتين على كل من أفغانستان والعراق.
فقد أدت حالة الانكشاف هذه إلى إحجام الرئيس أوباما عن القيام بأي مغامرات عسكرية جديدة، وتفضيله لتقصير خطوط السياسة الخارجية الأمريكية على مستوى العالم قدر الإمكان، مما ترك فراغا رأت القيادة الروسية أن عليها أن تملأه. ولأن الصين، وهي الدولة المرشحة لاحتلال موقع الصدارة في النظام الاقتصادي الدولي خلال السنوات القليلة القادمة، بدت على أتم استعداد للتنسيق مع روسيا لإحباط المحاولات الأمريكية الرامية للهيمنة المنفردة على العالم، ولدفع النظام الدولي في اتجاه التعددية القطبية، فقد رأت القيادة الروسية أن الفرصة باتت مواتية تماما للمشاركة في قيادة النظام الدولي في المرحلة الراهنة.
لكن لماذا وقع اختيار القيادة الروسية على ملف الأزمة السورية تحديدا ورأت أن الإمساك به هو المدخل المناسب لتمكينها من لعب الدور الذي تتطلع إليه على الصعيد العالمي؟ وما حدود هذا الدور؟ هذا ما سنحاول أن نعرض له في مقالنا القادم.