الرئيسة \  واحة اللقاء  \  دلالات العودة الروسية إلى الساحة الشرق أوسطية (2-2)

دلالات العودة الروسية إلى الساحة الشرق أوسطية (2-2)

03.12.2013
حسن نافعة


اليوم السعودية
الاثنين 2/12/2013
لا جدال في أن ملف الأزمة السورية أصبح يشكل مدخلا مناسبا لإشباع طموحات القيادة الروسية في لعب دور رئيسي على الساحة العالمية، وذلك لعدة أسباب، أهمها:
1- إن الصراع الدائر على سوريا وفيها لم يعد صراعا محليا خالصا، وإنما تحول تدريجيا إلى صراع إقليمي ودولي بامتياز. فقد انخرطت فيه بشكل مباشر أو غير مباشر دول وقوى إقليمية عديدة، على رأسها إيران وحزب الله الداعمان للنظام السوري، وتركيا وقطر والسعودية وغيرها من القوى الداعمة للمعارضة السورية. ولأن الدول والقوى والتيارات الإقليمية المنخرطة في الصراع إلى جانب المعارضة السورية مدعومة بدرجات مختلفة من جانب دول وقوى وتيارات عالمية، على رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فمن الطبيعي أن تنحاز القيادة الروسية إذا قررت الانخراط كفاعل رئيسي في تحديد مسار الصراع، إلى جانب الطرف الذي يتبنى سياسة مناوئة للولايات المتحدة، بصرف النظر عن أي اعتبارات أخلاقية أو مبدئية، لأن الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه يتركز على إرباك المساعي الغربية للهيمنة المنفردة على النظام العالمي.
عندما لاح في الأفق أن ضربة عسكرية أمريكية باتت وشيكة، تحركت روسيا بسرعة على الصعيد الدبلوماسي وتمكنت بالفعل من إقناع النظام السوري بالموافقة على نزع سلاحه الكيماوي تحت إشراف دولي ولأنها كانت تدرك سلفا مدى التردد الأمريكي والغربي في توجيه ضربة عسكرية لسوريا2- تعتقد القيادة الروسية أن سقوط نظام بشار الأسد سيؤدي إلى تزايد نفوذ القوى الدينية المتطرفة ليس في سوريا فقط وإنما في منطقة الشرق الأوسط ككل، ولأنه سبق لروسيا أن اكتوت بنار هذه القوى في الشيشان وفي غيرها من المناطق ذات الأغلبية المسلمة، فمن الطبيعي أن تخشى أن يؤدي زيادة نفوذ هذه القوى إلى تأجيج الصراع من جديد داخل روسيا نفسها، وهو ما يشكل تهديدا مباشرا للأمن القومي الروسي، ويبدو أن هذا البعد في السياسة الروسية لم يحظ بما يستحقه من اهتمام المحللين العرب على الرغم من أهميته الكبيرة لفهم حقيقة ودوافع الموقف الروسي من الصراع الدائر في سوريا وعليها.
3- تنظر القيادة السوفيتية إلى تحالف سوريا مع كل من إيران وحزب الله باعتباره يشكل كلا لا يتجزأ من المنظور الاستراتيجي، لذا تعتقد هذه القيادة أن سقوط النظام السوري سيكون بمثابة ضوء أخضر لتصفية حزب الله في لبنان، وسيفضي في النهاية إلى عزل إيران تمهيدا لتصفية نظامها حين تحين اللحظة المناسبة. ولأن التحالف الإيراني السوري يشكل، من وجهة نظر القيادة الروسية، الموقع الوحيد الباقي من مواقع الممانعة للسياستين الأمريكية والإسرائيلية في منطقة الشرق الأوسط، فمن الطبيعي أن يؤدي سقوطه وانهياره إلى تمكين الولايات المتحدة وإسرائيل من فرض هيمنتهما المطلقة على هذه المنطقة، مما يعني استئصال النفوذ الروسي منها تماما، ولفترة قد تطول كثيرا هذه المرة، وهو احتمال لا تستطيع روسيا أن تقبل به أو تستسلم له.
في سياق كهذا لم يكن مستغربا أن تلقي روسيا بكل ثقلها وراء النظام السوري، مما مكنه من التمتع بهامش كبير من المناورة على الصعيدين العسكري والسياسي. فلم تكتف روسيا، مدعومة في هذا التوجه من جانب الصين، باستخدام الفيتو للحيلولة دون صدور قرار من مجلس الأمن يشكل غطاء يسمح للولايات المتحدة والغرب بتوجيه ضربة عسكرية للنظام السوري، بل ذهبت إلى حد فتح ترسانتها العسكرية لتمكين هذا النظام من الحصول على أنواع جديدة من الأسلحة ذات الأهمية الاستراتيجية، رغم ضغوط هائلة عليها من جانب إسرائيل. وعندما لاح في الأفق أن ضربة عسكرية أمريكية باتت وشيكة، تحركت روسيا بسرعة على الصعيد الدبلوماسي وتمكنت بالفعل من إقناع النظام السوري بالموافقة على نزع سلاحه الكيماوي تحت إشراف دولي، ولأنها كانت تدرك سلفا مدى التردد الأمريكي والغربي في توجيه ضربة عسكرية لسوريا، خوفا من عواقب وردود أفعال يصعب التنبؤ بنتائجها، فقد بدت المبادرة السوفيتية وكأنها تشكل طوق نجاة لأوباما نفسه، المتردد والمتراجع دوما، لتنطلق من جديد الجهود الدولية الرامية للبحث عن تسوية للأزمة السورية بالطرق السلمية. وهكذا ظهرت روسيا فجأة كلاعب رئيسي على الساحة الدولية، يستطيع أن يمسك بمفاتيح ملفات هامة، كما ظهرت في الوقت نفسه كقوة عالمية قادرة على الفعل والتأثير وتغيير اتجاه الأحداث وتعديل مسار الأزمات، بينما بدت الولايات المتحدة قوة متراجعة النفوذ والتأثير، حتى في نظر حلفائها الإقليميين، وبات عليها أن تبرر مواقفها وأن تشرح أسباب عجزها لهؤلاء الحلفاء.
يلفت النظر هنا أن الدبلوماسية الروسية، والتي عكست طريقة تناولها لملف الأزمة السورية وجود إرادة سياسية قوية وواضحة ومصممة، لم تقتصر على هذا الملف وحده وإنما تجاوزته إلى ملفات أخرى عديدة في منطقة الشرق الأوسط، كان في مقدمتها ملف الأزمة المصرية. فقد تحركت الدبلوماسية الروسية بسرعة لافتة للنظر لإعلان تأييدها للعملية السياسية التي أدت إلى عزل الدكتور مرسي وإنهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر في يوليو الماضي، فبدت وكأنها جاهزة تماما لالتقاط الثمار المتساقطة من الأخطاء والخطايا التي ترتكبها السياسة الخارجية الأمريكية المرتبكة والمتراجعة، وما هي إلا اسابيع قليلة حتى كان وزيرا خارجية ودفاع روسيا يستقبلان بحرارة بالغة في القاهرة، ولأن هذه الزيارة تمت عقب قيام الإدارة الأمريكية بالإعلان عن قرارها تجميد الجانب الرئيسي من المساعدات العسكرية لمصر، فقد بدت روسيا من خلال هذه الزيارة وكأنها تعلن عن استعدادها للعب دور المصدر البديل للسلاح الذي يمكن للدول العريية أن تلجأ إليه وتعتمد عليه، وكأنها تستعيد بذلك أجواء الخمسينات من القرن الماضي.
ربما يكون من السابق لأوانه قياس المدى الذي يمكن للدبلوماسية الروسية أن تذهب إليه في صراعها المحتدم حاليا مع القوى الكبرى للحصول على موطأ قدم في منطقة الشرق الأوسط، أملا في استعادة نفوذها القديم ولملء فراغ القوة الأمريكية المتراجعة في هذه المنطقة. وحتى لا ترتكب الدول العربية أخطاء في التقدير والحساب، كما اعتادت دوما، عليها أن تتذكر أن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفيتي، وأنها إذا أرادت أن تستفيد من التحولات الجارية في النظام الدولي حاليا ومن الحرص الروسي الواضح على العودة بقوة إلى الساحة الشرق أوسطية، فعليها أن تقوم أولا بترتيب صفوفها وإعادة تنظيم بيتها من الداخل ونظامها الإقليمي أيضا.