الرئيسة \  واحة اللقاء  \  دور الاستخبارات السورية في اغتيالات لبنان؛ من نسيب المتني إلى الرئيس الحريري 1958- 2005

دور الاستخبارات السورية في اغتيالات لبنان؛ من نسيب المتني إلى الرئيس الحريري 1958- 2005

27.10.2018
أحمد طلب الناصر


سوريتي
الخميس 25/10/2018
في 11 أيلول/ سبتمبر 2018 جددت المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري اتهامها للنظام السوري وحليفه “حزب الله” بارتكاب عملية الاغتيال بحق الحريري في 14 شباط/ فبراير 2005، بانتظار النطق بالحكم النهائي في مطلع عام 2019. ذكر الادعاء أمام المحكمة الدولية في لاهاي: “أن عملية اغتيال الحريري جرت في أجواء رافضة للوجود السوري في لبنان، وأن النظام السوري في صلب مؤامرة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري”، معتبرًا أن “الأدلة التي تدين المتهمين باغتيال الحريري دامغة”. وقال المحامي العام لدى المحكمة: “الأدلة مقنعة وقوية وموضوعية بالنظر إلى الاتصالات وحجمها، وهواتف المتهمين التي توقفت عن التشغيل في وقت واحد تعكس التخطيط لتنفيذ المخطط، وعلى الرغم من محاولات حجب اتصالات المجرمين إلا أننا تمكنا من تحليلها”، واعتبر أن: “لبنان دخل في مرحلة من الظلم والرعب والعنف منذ اغتيال الحريري”(1). نعم لقد دخل لبنان في نفق مظلم ومخيف بعد اغتيال الرئيس الحريري نتيجة هيمنة “حزب الله” وإيران على الساحة اللبنانية خلال الثلاث عشرة سنة الأخيرة، ولكن هل كانت عملية الاغتيال تلك هي الوحيدة التي عاناها اللبنانيون خلال مراحل الأنظمة السورية المتعاقبة التي سبقت النظام الحالي؟ لا شك في أن حوادث الاغتيالات المريرة التي نفّذت خلال حكم الأسد الابن بحق اللبنانيين، كانت وما تزال الأشد قساوة وتأثيراً في المشهد اللبناني منذ منتصف العقد الماضي، إلا أن عمليات الاغتيال التي طالت الرموز الوطنية اللبنانية منذ نهاية خمسينيات القرن المنصرم كان لها وقعها الدامي على تاريخ لبنان والمنطقة، وانعكاسات بعضها ما تزال حاضرة إلى يومنا هذا. فمتى وكيف بدأ مسلسل الاغتيالات السورية في لبنان؟ وما هي الأسباب التي دفعت النظام السوري إلى ارتكاب جرائم الاغتيالات بحق النخب والشخصيات الوطنية اللبنانية، وكيف كانت انعكاساتها على لبنان والمنطقة؟ . – الحلقة الأولى . شهدت الأنظمة السورية خلال مرحلة خمسينيات القرن العشرين مرحلة من الاستقرار النسبي، على الرغم من حالة الانقلابات المتسارعة التي مرّت بها، إلا أن تلك التغيرات التي كانت تطرأ على رأس هرم السلطة أو المؤسسة العسكرية السورية نتيجة الانقلابات لم تكن لتؤثّر بشكل مباشر في الحياة السياسية والحزبية والفكرية داخل المجتمع السوري، ولم تكن لها انعكاساتها المباشرة على أنظمة دول الإقليم ومجتمعاتها، إلى أن تنازل “القوتلي” عن رئاسة سوريا لجمال عبد الناصر وأعلنت “الوحدة” بين سوريا ومصر عام 1958، ليبدأ بعدها عصر الاستخبارات وقمع الحريات والتدخل في شؤون الدول المجاورة خصوصاً لبنان، بالتزامن مع عمليات الملاحقات الأمنية والاغتيالات السياسية التي استمرت بعد الانفصال لتبلغ ذروتها خلال سيطرة حزب البعث على السلطة في البلاد منذ آذار/ مارس 1963 حتى اليوم. . – اغتيال “نسيب المتني” وبداية التدخل الأمريكي في المنطقة . أولى حلقات الاغتيال السياسي الذي ارتكبته الاستخبارات السورية في لبنان كانت من نصيب الصحافي ونقيب المحررين “نسيب المتني” مؤسس جريدة (التلغراف) في لبنان، في 8 أيار/ مايو 1958. اغتيل المتني صباح ذلك اليوم بخمس رصاصات، نتيجة مواقفه المضادة للرئيس اللبناني آنذاك “كميل شمعون” الذي آثر الانحياز إلى المعسكر الغربي في مواجهة المدّ الناصري الذي بدأ يتسرّب إلى لبنان، لا سيما عقب الوحدة، فكان اغتياله فاتحة للحرب الأهلية اللبنانية الأولى، إذ عمّت الاحتجاجات والإضرابات أرجاء البلاد، واندلعت في طرابلس معارك مع الجيش وقوى الأمن الداخلي، ذهب ضحيتها مئات بين قتيل وجريح. وترددت المعلومات لاحقاً بأن عناصر تابعة لاستخبارات “عبد الحميد السرّاج” يد عبد الناصر الطولى في سوريا كانت وراء اغتيال المتني بهدف إشعال نار الثورة ضد شمعون، وكان العقيد “السراج” يدير جهاز استخبارات عسكري في سوريا اسمه “المكتب الثاني”، يتكل على مجموعة نشيطة وموثوقة من ضباط الجيش أبرزهم الضابط “عبد الوهاب الخطيب” و”برهان أدهم” و”نعسان زكار” و”عبدو حكيم”. كان السراج مسؤولاً مباشرة أمام جمال عبد الناصر، يزوده بالتقارير الدورية والمعلومات ويطلعه على التطورات العسكرية ويأخذ منه التوجيهات اللازمة. وكان للمكتب الثاني (الخاص) صلاحيات واسعة في التصرف، وعلاقات واسعة مع أطراف لبنانية كثيرة من أنحاء لبنان كافة، وكان المكتب يتمتع بخبرة كبيرة في الشأن الذي يتعاطى به(2). شارك السراج بشكل رئيس ومباشر في تأجيج الصراع خلال أحداث 1958 في لبنان التي قامت في نهاية حكم الرئيس كميل شمعون ودعم الجبهة الوطنية بالمال والسلاح، ويذكر الصحافي غسان زكريا (عديل السراج) في كتابه “السلطان الأحمر” أن المسؤول الأول عن اغتيال الصحافي نسيب المتني هو السراج نفسه(3) من خلال أذرعه الموجودة في لبنان لاتهام أنصار شمعون باغتياله وإذكاء نار الفتنة. كان نتيجة الاغتيال والصراع الذي نجم عنه أول غزو وتدخّل عسكري أمريكي في الشرق الأوسط، بعد أن طلب شمعون من الأمريكان التدخل؛ فكانت عملية (بلو بات- الخفاش الأزرق) التي مكنت القوات الأمريكية واللبنانية من احتلال الميناء ومطار بيروت. شكّلت تلك العملية أول تطبيق لمبدأ (آيزنهاور) في “ملء الفراغ في الشرق الأوسط” إذ أعلنت الولايات المتحدة بموجبه أنها ستتدخل لحماية الأنظمة التي تعتبرها مهددة من قبل الشيوعية الدولية، وكان الهدف من العملية تعزيز الحكومة اللبنانية الموالية للغرب التي يقودها الرئيس كميل شمعون، ضد المعارضة الداخلية والتهديدات من سوريا ومصر(4). . – اغتيال الحلو، صعود البكداش . فقط لأنه أبدى أسفه لموافقة الاتحاد السوفياتي آنذاك على قرار تقسيم فلسطين 1947 وضع اسمه ضمن اللائحة السوداء للحزب الشيوعي المُدار من موسكو وأداته التنفيذية في دمشق المتمثلة في “خالد بكداش” والمخابرات السورية. وهنا بدأت محنة فرج الله مع عبادة الفرد في الحزب، وتوجّه لائحة الاتهام ضده على اعتبار أنه “مخرب وانتهازي وانهزامي” وتشبيهه بـ(تيتو) الزعيم اليوغسلافي الذي خرج لتوه من التحالف السوفياتي (الكومنترن)، ووجهت إليه أيضاً تهمة “ديمقراطي اشتراكي”، وكانت الديمقراطية الاشتراكية في تلك المرحلة تهمة شنيعة، وتعتبر خروجاً على “الماركسية – اللينينة”. اعتقل فرج الله الحلو عام 1959 على أيدي المخابرات التي كان يقف على رأسها -كما ذكرنا- عبد الحميد السراج، وفور اعتقاله أخضع فرج الله الحلو للتعذيب الوحشي، على يد الضابط “عبد الوهاب الخطيب” الذي سبق وذكرنا اسمه في قضية اغتيال “نسيب المتني”، ومات تحت التعذيب بعد بضع ساعات فقط؛ ولإخفاء معالم الجريمة دفنت الجثة سرًا في البداية في غوطة دمشق الشرقية قريباً من قرية “مرج السلطان”، ووضعت المقبرة تحت الحراسة ولكن في ما بعد وبعد أن شك حراسها في سيارة تحوم بشكل مريب في المكان، وخوفًا من سرقة الجثة وانفضاح الجريمة، نُبش القبر من جديد وجرى تذويب الجثة. بعد انهيار الوحدة بين مصر وسوريا، تشير جريدة الأخبار التابعة للحزب الشيوعي إلى أن عناصر المخابرات الذين اعتقلوا الحلو من البيت الذي توجه إليه في دمشق استقبلوه مرحبين: (أهلاً أبو فياض) كان هذا لقبه الحزبي حينذاك، أي إن الذين اعتقلوه والمسؤولين المباشرين الذين أرسلوهم لاعتقاله كانوا يعرفون من هو “الضحية” قبل -أو على الأقل من- لحظة اعتقاله بالذات. ويستبعد تماماً أن يكون الحلو قد ذهب إلى سوريا بقرار ذاتي، حتى ولو كان حينذاك هو المسؤول عن الساحة السورية، وقرر ذاتياً الذهاب إليها لمتابعة الوضع ميدانيًا على الأرض، فهذا القرار المتعلق بشخص مثله ينبغي أولاً أن يبحث مع الأمين العام وأن ينال موافقته، وكان حينذاك خالد بكداش الذي لم تكن تسقط شعرة من رأس إنسان شيوعي في الساحة السورية بالأخص من دون رأيه وموافقته، وينبغي ثانياً أن يبحث في الهيئة القيادية المعنية المسؤولة مباشرة عن الساحة السورية. وللوصول إلى الحقيقة المحضة يكفينا أن نذكر شهادة بعض الشيوعيين الذين التقوا ببكداش خلال أحد الاجتماعات حين سمعوا ذلك الأخير يردد: “إذا خلص فرج الله من إيد عبد الناصر، ما رح يخلص من إيدنا”. من جهة أخرى في مقابلة له على العربية عام 2006 تحدث “أحمد أبو صالح” رئيس الاتحاد القومي في حلب أيام الوحدة، عن ملف مقتل فرج الله الحلو في تلك المرحلة مشددًا على أن رئيس الاستخبارات آنذاك اعترف بالمسؤولية، ولكن 4 ضباط “بعثيين” هم الذين قاموا بتذويب الحلو بمادة الأسيد(5). . – اغتيالات نظام الأسد الأب إبان الحرب الأهلية . نشبت الحرب الأهلية اللبنانية الثانية، فحملت معها استمرار الصراع واستهداف فئة أخرى من السياسيين والإعلاميين، لا سيما عقب دخول جيش الأسد إلى العاصمة بيروت 1976 بحجة مواجهة الجيش الإسرائيلي وطرده. ومن أبرز الزعماء والقادة السياسيين الذين طالتهم عمليات الاغتيال آنذاك كان الزعيم والمفكّر ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي “كمال جنبلاط” مع ثلاثة من مرافقيه في 16 آذار/ مارس1977. وكان جنبلاط على خلاف سياسي حاد مع نظام حافظ الأسد بسبب مواقف الأخير المعادية للوجود الفلسطيني في لبنان وفرض نظام الوصاية على الدولة اللبنانية. دعا جنبلاط إلى مشروع إصلاحي إداري لكنه تعرض لضغوط من جانب محور أميركي – سوري – إسرائيلي وقيل له: لا يمكنك السير في الإصلاح الإداري إلاّ في حال تخليك عن القضية الفلسطينية وقد رفض ذلك، وهذا الحدث معروف وكتب عنه في وصيته حين قال: “إذا وافقت على التخلي عن القضية الفلسطينية فسيلعنني التاريخ ألف مرة”. أما مشروعه حول إلغاء الطائفية السياسية فقد عمل عليه طوال تجربته السياسية، وأشار جنبلاط في كتابه “في سبيل لبنان” إلى أن الأنظمة العسكرية -ومن بينها سوريا- تتخوف من الحرية في لبنان، ورأى جنبلاط أن الحرية في لبنان تتعرض إلى القمع من بلد مساحة الحرية فيه ضيقة جداً، فكان من الطبيعي أن يتخوف على الديمقرطية في وسط الأنظمة العسكرية، خصوصاً أن اللاعب السوري آنذاك كان له دور كبير في الملف اللبناني(6). “أراد نظام الأسد معاملة جنبلاط بفوقية ولكنه لم يقبل الهيمنة ولا السطوة، كان يبحث عن معاملةٍ ندية، واستدرك الموقف وتصرف بكرامة وشجاعة وهذا ما أدى إلى اغتياله”. بهذه العبارات يختصر “إدمون رزق” أيام كمال جنبلاط الأخيرة(7). بدأ المخطط لاغتيال جنبلاط بمضايقته على الحواجز السورية التي انتشرت في أرجاء لبنان، إذ كان الضباط السوريون يعترضون على وجود مرافقي جنبلاط في سيارة أخرى تواكبه، وعندما كان جنبلاط يؤكد لهم حيازته رخصة لستة عشر عنصراً كان الجواب: “ يجب أن تكون العناصر معك وليس في سيارة أخرى”، وكان جنبلاط يسألهم “وأين أضع هذا العدد في سيارتي؟” حتى ملّ جنبلاط من هذا الوضع وقرر ألا يصحب أحداً معه؛ هذا الأسلوب يشابه تماماً ما حصل من سحب عناصر الحماية من الرئيس “رفيقالحريري”(8). وفي ظهيرة يوم الاغتيال كان جنبلاط في طريقه إلى مقرّه في منطقة “المختارة” بمرافقة الحرّاس الثلاثة حين داهمتهم سيارة كانت تتمركز قرب حاجز للجيش السوري عند مثلث “بعقلين”، يركب فيها أربعة مسلحين نفّذوا عملية الاغتيال ولاذوا بالفرار. وفي آذار/ مارس من عام 1980، اغتيل الصحافي “سليم اللوزي”، الذي كان معروفاً بموقفه المناوئ للنظام السوريّ بعدَ احتلاله لبنان. اللوزي مؤسس “جريدة الحوادث”، عمل بداية كاتباً للتمثيليات الإذاعية في إذاعة الشرق الأدنى عام 1944، ثمّ في مجلة “روز اليوسف” في مصر، قبل أن يعود إلى لبنان ويتابع عمله في الصحافة المكتوبة في جريدة “الصياد”، وبعدها في جريدة “الجمهور الجديد”، وعمل مراسلاً لمجلّتي “المصوّر” و”الكواكب”، وخلال الحرب الأهلية انتقل اللوزي إلى لندن هرباً من تهديدات متكررة من النظام السوري طالته وأسرته(9)، وبدأ بكتابة مقالات ضد النظام السوري واتهم مخابراته بقتل شقيقه “مصطفى” فكتب مقالاً ذكر فيه: “وغداً إذا نجحت المخابرات العسكرية في تنفيذ الحكم الذي أصدرته باغتيالي وهي قادرة على ذلك بوسائلها المختلفة فإني أكون قد استحققت هذا المصير وعزاء زوجتي وبناتي وأولاد مصطفى التسعة أنني أحببت بلدي وأخلصت لمهنتي” ويعني ذلك أنه كان يتوقع مصيره. بعد نشر مقاله هذا نصحه “صلاح الدين البيطار” أحد مؤسسي حزب البعث والمعارض لحكم الأسد بأن يكف عن تعريض نفسه وعائلته للهلاك(10) إلا أنه لم يكترث. ثمّ قرر اللوزي العودة إلى لبنان ليشارك في تشييع والدته، على الرغم من نصيحة أصحابه له بالتراجع عن قراره حرصاً على حياته، فما كان منه سوى القول: “ولو.. ألا يحترمون حرمة الموت؟ أنا ذاهب لدفن والدتي”. وعندما وصل اللوزي إلى بيروت اتصل به الزعيم الفلسطيني “ياسر عرفات” وطلب تخصيص حراسة له ولكنه رفض(11)، ولدى عودته إلى المطار بعيد انقضاء طقوس الدفن، اختُطف على طريق المطار وعُثر على جثّته مشوّهة بشكل فظيع بعد ذلك بأيام. أما عام 1982 فقد رفع نظام الأسد سقف عمليات اغتياله لتطال هذه المرة رئيس الجمهورية اللبنانية “بشير جميّل”، عندما أوعز إلى أعضاء في الحزب السوري القومي الاجتماعي بتنفيذ العملية من خلال الشاب “حبيب الشرتوني” بوساطة عبوة ناسفة أدت الى تدمير مقر حزب الكتائب في الأشرفية وسقوط 32 قتيلاً و95 جريحاً يوم 14 أيلول/ سبتمبر من ذلك العام. قبل ذلك الاغتيال بأربع سنوات استطاع بشير تحرير “الأشرفية” مقر “بيت الكتائب” من جيش حافظ الأسد بعد حرب الـ100 يوم في 1978، وانسحب جيش النظام في إثرها من العاصمة بيروت. إلا أن ذلك لم يكن السبب الرئيس والمباشر في الاغتيال، فقد كان السبب المباشر يتمحور حول الخلاف الذي نشب بين بشير من جهة ورئيس الوزراء الإسرائيلي “مناحيم بيغين” وقائد القوات الإسرائيلية في لبنان “شارون” آنذاك من الجهة الأخرى، وذلك بعد اجتماعهم في “نهاريا”