الرئيسة \  واحة اللقاء  \  دي مستورة والبوح الصامت المشبوه

دي مستورة والبوح الصامت المشبوه

27.09.2017
د. يحيى العريضي


 كلنا شركاء
الثلاثاء 26/9/2017
     لا شك أن المبعوث الدولي لسورية دبلوماسي مخضرم وخبير، بغض النظر عن الأحكام العاطفية وحتى السياسية على أدائه أو نواياه. في اللقاء معه في “اسانة”، قال إن مَن كان متوقَعاً أن يستاء جداً مِن تصريحه ويطالب بعزله هو “النظام” لا “المعارضة”. رافع الرجل عن تلك الرؤية بقوله إن “النظام” كان في عزِّ حملة يسعى من خلالها تكريس نفسه “منتصراً”؛ فجاء تصريحه ليفسد على النظام فرحته المصَنَّعة عندما قال: “لا أعتقد أن النظام يمكنه أن يدعي الانتصار” ما نغّص تلك البهجة المفتعلة. يرى “دي مستورة” أن ردة الفعل التأنيبية للمعارضة، وفِّرت على النظام ذلك الهجوم المتوقَّع والمحتَّم عليه.
     يعتقد المبعوث الدولي أنه بذلك التصريح ألغى المدَّ الإقليمي والدولي في إعادة تأهيل منظومة الأسد المستندة على ادعاء مفاده أن ما من أمر تبقِّى للتفاوض عليه، وما على هذا العالم إلا أن يهرع لاسترضاء نظام الأسد وإعادة العلاقات معه ويشرع بإعادة الإعمار، لأن النظام استردَّ عافيته بحكم أنه يكاد يضع يده على كل التراب السوري؛ أي أنه انتصر (بغض النظر ان الخصم كان الشعب أو أي معيق آخر؛ وخدم العالم بـ “نصره” هذا أنه خلّص العالم من الإرهاب. وها هي تأتي التصريحات الصادمة لهذا المبعوث وتنسف له تلك النظرية وتعري ادعاءه.
     في تلك الجلسة مع دي مستورة، عبّر الرجل بمرارة عن إغفاله لذكر تقرير لجنة التحقيق باستخدام النظام للسلاح الكيماوي أكثر من عشرين مرة. صادقاً أم مدّعياً، قال الرجل: “أشعر بالأسف أنني لم آت على ذكر ذلك التقرير خلال تصريحي”؛ فباعتقاده أنه لوضمّن ذلك في إحاطته الصحفية، لكانت مقولته حول أن أحداً لا يمكنه ادعاء الانتصار أكثر وقعاً وتأثيراً ووضوحاً، ولما كانت أثارت ما أثارت.
     عندما سُئل دي مستوره لماذا لم يقل بوضوح وصراحة إن النظام لم ينتصر- حيث أتت إشارته تلك بمعرض إجابة عن سؤال فيما إذا كان قوله إن المعارضة لم تنتصر يعني أن النظام انتصر، فقال بمواربة إن النظام لا يستطيع ادعاء ذلك- عندها قدّم دي مستورة مرافعته المألوفة بان النظام الذي لم يدخل العملية السياسية حتى الآن، ويتجنّب الدخول في أي مناقشة لعملية الانتقال السياسي، سيجد ذلك فرصة وحجة لنسف العملية السياسية برمتها تحت يافطة تحيّز الوسيط الدولي، وسيجد مَن يرافع ويدافع عن حجته بقوة/روسيا/؛ وأضاف ان مِن بين مهامه أن يبقي القضية السورية حيّةً رغم محاولات دولية كثيرة لإزاحة الأضواء عنها وطيّها في غياهب النسيان.
     لا شك أن السيد دي مستورة يمتلك من المهارات الكثير، ولكن الأمر الغائب في منهجه هو الشجاعة والسليقية والرؤية الفروسية للجوهر. هناك سيطرة لمتلازمة ثنائية مغلوطة على ذهنه وذهن قوى دولية (بقصدية أو غفلة) أن القضية السورية السورية هي مسالة “معارضة” و”نظام”. ومن هنا اللعب بهذه الثنائية وعليها. ربما لا يدرك السيد دي مستورة انه لو ساد رأي ما يُسمّى منصة موسكو بعدم البحث في مصير الأسد تحت يافطة الواقعية السياسية، والتي مهّدت لها حملة النظام وأعوانه، ولو تدهور الفعل العسكري والسياسي للمعارضة، ولو بدأ اللعاب الاستثماري يسيل، ولو اشتد التعب العالمي من القضية السورية؛ إلا أن أحداً ببعض قواه العقلية والأخلاقية لا يمكنه أن يتصور أن هذا النظام قابل لاعادة التأهيل او الحياة، لأن مشكلته ليست فقط في ما ارتكب من جرائم حرب بل مع الشعب السوري؛ ونظام خصمه شعبه لا يمكن أن يعيش، مهما اشتد صلفه ودكتاتوريته. ومَن صمد سبع سنوات أمام هكذا وحشية غير قابل للهزيمة. ففي المناطق التي يعود إليها الهدوء، سرعان ما تشهد السوريين يعودون إلى حراكهم المدني الغاضب والرافض لمنظومة الاستبداد وممارساتها الاجرامية وبكونها المتسبب بالمأسي التي حدثت. تلك الغضبة الشعبية تعود بتاريخها إلى ما قبل أن يكون هناك سيطرة لمن ثار على النظام على شبر واحد من سورية. هؤلاء يعرفون أن أي “انتصار” أو سيطرة للنظام، ليس إلا سيطرة روسية إيرانية لا علاقة للنظام بها؛ وحتى التفاوض في “استانة وغيرها ليس إلا مع تلك القوى المسيطرة لا مع النظام.
     الأمر الأخطر من كل ما سبق هو أنه حتى لو ذهبت المعارضة مع ما يُسوِّق له كـ “واقعية سياسية”؛ إلا أن ذلك لا يقدّم ولا يؤخّر في مصير الأسد محتوم النهاية. فهو بمعيار الواقعية السياسية الحقيقية الوصفة الأنجع لاستمرار الحرب واستمرار الإرهاب واستمرار أزمة اللجوء واستمرار الموقف الرافض لإعادة الإعمار. وهو الداء المحتِّم لبقاء النزف والاستنزاف الإيراني الروسي في حرب مفتوحة لا طائل لهما بها. يبقى رحيل منظومة الأسد الوصفة الأنجع للشروع بحل حقيقي في سورية. وكلما استمر وجود الطغمة يوماً، ضعفت قيمة ورقة المساومة التي يراهن عليها بوتين والخمينائي. إنها الورقة التي تزيد سرطانيتها على حاملها يوماً بعد يوم. حتى دي مستورة، في صراخه الصامت، يعرف ذلك؛ ويعرف أيضاً أن المعارضة على حق عندما تتمترس عند ثوابت الثورة؛ ولكنه يبوح بذلك بصمت.