الرئيسة \  تقارير  \  “ذا دبلومات” الأمريكية : قصة أزمتين.. كيف تختلف الإستراتيجية الأمريكية في كلٍّ من أوكرانيا وتايوان؟

“ذا دبلومات” الأمريكية : قصة أزمتين.. كيف تختلف الإستراتيجية الأمريكية في كلٍّ من أوكرانيا وتايوان؟

16.01.2022
ساسة بوست


ساسة بوست                     
السبت 15/1/2022
نشرت مجلة “ذا دبلومات” الأمريكية تقريرًا أعدَّه سكوت سينجر، مرشح لنيل درجة الدكتوراة في العلاقات الدولية بجامعة “أكسفورد”، وماتياس جيسدال هامر، مرشح لنيل درجة الماجستير في العلاقات الدولية بجامعة “أكسفورد”، سلَّطا فيه الضوء على الدروس المستفادة من الصراع الأوكراني، وما جدوى النظر إلى الإستراتيجية الأمريكية في التعامل مع صراع أوكرانيا وروسيا المحتمل على اعتبار أنها ستؤثر في قضية تايوان.
مصداقية الولايات المتحدة على المحك
في بداية تقريرهما، يُشير الكاتبان أنه على مدار الأسابيع القليلة الماضية، أدَّى نشر روسيا لقرابة 100 ألف من جنودها، بالإضافة إلى الدبابات وأنظمة الدفاع الجوي، على الحدود الأوكرانية، إلى إثارة قلق حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومقرري السياسات الخارجية الأمريكية، وبينما حاول المحللون والسياسيون وواضعو السياسات إيجاد تفسير لهذه الأزمة، لاحت صورة تايوان في الأفق بصورةٍ كبيرةٍ.
إذ دقَّ مايكل ماكول، النائب الجمهوري البارز في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب الأمريكي، ناقوس الخطر للتحذير من أن الفشل في التصدي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يؤدي إلى تشجيع الحكام المستبدين وإضعاف مصداقية الولايات المتحدة بداية “من العاصمة الأوكرانية كييف إلى العاصمة التايوانية تايبيه”.
وعلى نحوٍ مماثل، حذَّر سيث كرودسون، زميل بارز في معهد هدسون، من أن روسيا والصين “تتعاونان إستراتيجيًّا” وأوضح أن تايوان وأوكرانيا مترابطتان بوصفهما جزءًا من “التنافس السياسي الأكبر في منطقة أوراسيا”. وأخيرًا، وصف تحليل إخباري نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية مؤخرًا كيف أن “موقف بايدن من الصراع في أوكرانيا يُعد اختبارًا مهمًّا لمصداقية الولايات المتحدة في الخارج”.
بيد أن كاتبي التقرير يعتقدان أن هذه الادعاءات القائلة إن مصداقية الولايات المتحدة تعتمد على تصرفها مع أزمة أوكرانيا وحدها لا تستند على أسس سليمة، وعلى الرغم من أن كلتا الدولتين لهما أهمية تاريخية كبيرة للصين وروسيا، فإن الدروس الإستراتيجية المستخلَصة من الصراع المحتمل في أوكرانيا محدودة، وربما تكون مضلِّلة، كما أن القرار الأمريكي باستبعاد إمكانية التدخل العسكري في أوكرانيا لا يعكس افتقار العالم إلى العزيمة، بل إنه يعكس، بدلًا من ذلك، افتقار تحديد السياسة الأمريكية للأولويات.
ويُوضح التقرير أن التشابه بين أوكرانيا وتايوان يواجه ثلاثة مآزق أساسية؛ أولًا: أصبحت تايوان أحد أهم الأصول الجيوسياسية للولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ؛ ثانيًا: أن دوافع روسيا والصين لبدء الصراع تختلف اختلافًا كبيرًا على نحو أكبر مما يعتقد كثير من الناس، وهو ما سيؤثر على الطريقة التي ستتصرف بها كلتا الدولتين على الأرجح؛ ثالثًا: أصبحت تايوان مندمجة اندماجًا تامًا في سلاسل التوريد الرئيسة والشبكات التجارية أكثر من أوكرانيا، وبصيغة أخرى، فإن القياس بين أوكرانيا وتايوان يُضلل أكثر مما يُبين.
أمريكا وتجاهل الأزمة
يُؤكد التقرير أن الحسابات الإستراتيجية لبوتين فيما يتعلق بانتشار مثل هذا الحشد الهجومي من القوات الروسية غير معروفة إلى حد كبير، ولم يتضح بعد هل هذه القوات جزء من مناورة دبلوماسية محفوفة بالمخاطر لإجبار الرئيس الأمريكي جو بايدن على الجلوس إلى طاولة المفاوضات؛ أم أن المفاوضات الروسية الأمريكية مجرد تمويه لتنفيذ عملية عسكرية سريعة، وفي المقابل، أوضحت إدارة بايدن أنها سترد بفرض عقوبات شاملة وتقديم الدعم للجيش الأوكراني، لكن دون وجود قوات أمريكية في ساحة القتال، ويرى عدد من المراقبين أن هذا الرد وجَّه رسالة واضحة إلى العالم مفادها: إن الولايات المتحدة تتجه بصورة متزايدة نحو الداخل وغير راغبة في تقديم المساعدة حتى لحلفائها أمام التوسع الروسي والصيني.
ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتي واستقلال أوكرانيا في عام 1991، كانت العلاقة بين أوكرانيا وبين الغرب متوترة دائمًا، وفي الوقت الذي كان فيه حلف الناتو يتمدد سريعًا في أوروبا الشرقية، لم تكن فكرة انضمام أوكرانيا إلى الحلف مطروحة حتى عام 2008، وكان تمدد الناتو في أوكرانيا سيؤدي إلى وصول الحلف مباشرة إلى حدود روسيا، وكان ويليام بيرنز، السفير الأمريكي في روسيا آنذاك، قد حذَّر من أن الوعد حتى بالانضمام إلى الناتو في المستقبل من شأنه أن “يخلق تربة خصبة للتدخل الروسي في شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا”.
ويُفيد التقرير أنه على الرغم من هذا التحذير، ضغط الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش على حلف الناتو لكي يُقدم وعدًا لأوكرانيا في عام 2008 بأنها ستنضم إليه، وهو الوعد التي ظل في حالة جمود فيما بعد، وبحسب ما قاله صمويل راماني، زميل مشارك في المعهد الملكي للخدمات المتحدة لمجلة “ذا دبلومات”، شهدت “رغبة روسيا المتزايدة في اختبار سيادة الدول في أوروبا الشرقية ومنطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي” تغييراتٍ جذرية منذ عام 2008.
وعندما خرج النظام الموالي للغرب في أوكرانيا إلى النور في عام 2014، استشاطت روسيا غضبًا وسارعت في ضم شبه جزيرة القرم، ويبدو أن تجدد وجود قيادة مناهضة لروسيا بقيادة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، بالإضافة إلى الزيادة التدريجية للأسلحة الغربية في أوكرانيا، هما السبب وراء حشد القوات الروسية، هذه المرة، على الحدود الأوكرانية.
الإستراتيجية الأمريكية بين أوروبا وآسيايُنوِّه التقرير إلى أن مصالح الولايات المتحدة الإستراتيجية في عام 2022 الأمريكية تختلف عما كانت عليه في عام 2008، عندما وعد الناتو بحصول أوكرانيا على عضويته، ومن وجهة نظر إدارة بايدن، تُعد منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وليس أوروبا الشرقية ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، الساحة الرئيسة للتنافس على النفوذ الجيوسياسي؛ إذ أكد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين، في خطاب ألقاه في ديسمبر (كانون الأول) في العاصمة الإندونيسية جاكرتا، على الأهمية الإقليمية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، مشيرًا إلى التجارة المزدهرة والاستثمارات القوية التي تجري بين الولايات المتحدة ودول منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ناهيك عن الوجود العسكري البالغ الأهمية للولايات المتحدة.
كما يوضح خطاب بلينكين أن مواقع الخلاف الرئيسة، سواء من أجل النفوذ أو حتى فيما يتعلق بالمطالبات الإقليمية، موجودة في المنطقة، معربًا عن أسفه لمطالبات الصين البحرية “غير القانونية والتوسعية في بحر الصين الجنوبي”؛ وفي الوقت نفسه، استطاعت الولايات المتحدة بانسحابها من أفغانستان تعزيز شراكتها الإستراتيجية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ من خلال الحوار الأمني ​​الرباعي مع أستراليا والهند واليابان، ومعاهدة أوكوس (اتفاقية أمنية ثلاثية بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة).
وألمح التقرير إلى أن الولايات المتحدة لديها موارد محدودة للانخراط في الصراعات، مما يتطلب من قيادتها انتقاء المعارك التي ستخوضها، ولكن إذا كانت الولايات المتحدة ستختار خوض معركة على أساس الأهمية الإستراتيجية فحسب، فإنها على الأرجح ستخوض حربًا في المحيطين الهندي والهادئ أكثر من التي يمكن أن تخوضها في أوروبا الشرقية.
اختلاف الدوافع الصينية والروسية
يلفت التقرير إلى أن المصالح الأمريكية في شرق آسيا وأوروبا الشرقية لا تختلف اختلافًا كبيرًا فحسب، بل إن دوافع المعتدين، الصين وروسيا، ليست متماثلة كذلك؛ فبينما تسعى روسيا، القوة العالمية التي تدهور بها الحال، إلى تأكيد نفوذها الإقليمي والحفاظ على مصداقيتها مع الولايات المتحدة والصين، تريد الصين، القوة الصاعدة التي لديها آفاق زمنية أبعد أمدًا، تحقيق النفوذ العالمي.
وفي هذا الصدد، يُوضِّح راماني قائلًا: إن “تصرفات روسيا في أوكرانيا تحركها إلى حدٍّ بعيد جدًّا السياسات الداخلية والاعتراف الخارجي، في حين أن تصرفات الصين تُمليها السياسة الواقعية وتطلعات الهيمنة”. وفي إطار جهود بوتين الرامية إلى تعزيز الدعم الداخلي بعد الاحتجاجات الجماهيرية التي حدثت في 2011-2012، كان لتأكيد هيمنته على أوكرانيا إستراتيجية مفيدة لكسب دعم الروس المحافظين، الذين ينظرون إلى أوكرانيا على أنها جزء من حضارة أرثوذكسية موحدة.
وفي الوقت الذي تبدو فيه روسيا، بوصفها قوة عالمية تدهور بها الحال، ذات حوافز للعمل بقوة حاليًا، فمن المحتمل أن تلعب الصين لعبة طويلة الأمد، مترقبةً أن تكون نتيجة الصراع في تايوان إيجابية بصورة واضحة تمامًا؛ ووفقًا لما أخبر به ريان هاس، المتخصص في دراسات تايوان في معهد بروكينجز، لمجلة “ذا دبلومات”، أنه “لن تتمكن بكين حاليًا من ضمان تحقيق نصر سريع أو مطلق”، ومن دون وجود هذه الضمانات، فمن المرجح أن تلعب الصين لعبة طويلة الأمد، وتنتظر حتى تصبح نتيجة الصراع المحتمل في تايوان أقل غموضًا.
كيف يتعلق الأمر بالاقتصاد جزئيًّا؟
يُشير التقرير إلى أنه بغض النظر عن الديناميكيات الإقليمية والإستراتيجية الأمريكية الكبرى، من غير الممكن إجراء مقارنة بين تايوان بأوكرانيا بطريقة نهائية وحاسمة: تايوان قوة اقتصادية بينما أوكرانيا ليست كذلك، وتقدم الأرقام نقطة انطلاق مفيدة، إذ كانت تايوان في المرتبة التاسعة لشركاء الولايات المتحدة التجاريين في التجارة ذات الاتجاهين في عام 2020، بينما احتلت أوكرانيا المرتبة الـ67 (في عام 2019). ومع ذلك، فإن ما يجعل اقتصاد تايوان مهمًا للولايات المتحدة ليس حجم التجارة فحسب، بل دور الاقتصاد التايواني الرئيس في سلاسل التوريد الأساسية للاقتصاد الأمريكي.
وتهيمن تايوان على صناعة أشباه الموصلات، في ظل استحواذ شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة على 54% من الحصة السوقية لعقود تصنيع أشباه الموصلات في عام 2020، وتعد أشباه الموصلات مكونات خام ضرورية لأجهزة الكمبيوتر والهواتف وغيرها من الإلكترونيات؛ ولذلك فإنها تُغذي الصناعة الأكثر أهمية للولايات المتحدة لمنافسة الصين فيها؛ وهي التكنولوجيا.
ولا تعتمد واشنطن وحدها على اقتصاد تايوان؛ إذ تعد بكين أيضًا راسخة بعمق في سلاسل التوريد في تايوان، وقد تؤدي أزمة تايوان المحتملة إلى عزل بكين عن صناعة أشباه الموصلات التايوانية وغيرها من المجالات المترابطة اقتصاديًّا في الصين.
ويرى هاس أن الصراع في تايوان “من شأنه أن يكشف نقاط ضعف موارد بكين، لا سيما اعتمادها على واردات الغذاء والوقود وأشباه الموصلات”. لذلك، فإن غزو تايوان سيفرض ضغوطًا اقتصادية غير ضرورية على الصين في الوقت نفسه الذي تسعى فيه إلى توسيع نفوذها الاقتصادي في مناطق أخرى.
عزيمة التغلب على المشكلات
يُشدد التقرير على أن اختلاف الوضع في أوكرانيا اختلافًا تامًا عن تايوان لا يعني أن الصين لا تراقب الأوضاع عن كثب؛ إذ ستوفر الطريقة التي ستتعامل بها الولايات المتحدة مع الأزمة الأوكرانية منطلقًا مفيدًا للصين بشأن مستويات العزيمة الأمريكية، تمامًا كما شاهدنا في الانسحاب من أفغانستان قبل بضعة أشهر، لكنه مجرد منطلق واحد فحسب، وليست برنامج عمل قابلًا للنقل عالميًّا بشأن المصالح الأمريكية في الخارج.
ومع تجاوز العالم اللحظة الأمريكية الأحادية القطب، ستصبح النقاشات بشأن العزيمة والردع أكثر تواترًا، وإذا كانت نقاشات السياسة الخارجية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين قد ركَّزت إلى حدٍ كبيرٍ على قوة الولايات المتحدة غير المحدودة فعليًّا، فإن صعود الصين والتأكيد مجددًا على أهمية روسيا الجيوسياسية لم يعد يجعل ذلك ممكنًا.
وفي ختام تقريرهما، يُؤكد الكاتبان على أن ضمان سلامة الدول المتاخمة لخصوم الولايات المتحدة سيصبح أمرًا صعبًا بصورة متزايدة، وقد يتعين عليها اتخاذ خيارات صعبة استنادًا إلى بعض السياقات المحددة، وفي عالم متعدد الأقطاب، يجب أن يكون الفهم العميق للعوامل الإقليمية والمحلية دليلًا للولايات المتحدة في تدخلاتها الخارجية الانتقائية، ومع ذلك، تشير النداءات الواسعة النطاق للمساواة بين قضيتي تايوان وأوكرانيا إلى أن عددًا كبيرًا جدًّا من خبراء السياسة الخارجية لا يزالون عالقين في التفكير الثنائي لما بعد الحرب الباردة، وتؤدي هذه الحلول ذات المقاس الواحد المناسب للجميع إلى المخاطرة بإغراق الولايات المتحدة في صراعات طويلة الأمد كان من الممكن أن تتجنبها.