الرئيسة \  مشاركات  \  ذكريات مع شاعر طيبة : محمد ضياء الدين الصابوني

ذكريات مع شاعر طيبة : محمد ضياء الدين الصابوني

13.06.2013
يحيى حاج يحيى




قرأت بعض أشعاره و ترنمت بها و أنا طالب في الجامعة و استمعت إليه في مساجد حلب يشدو بمديح المصطفى صلى الله عليه و سلم
ثم قدر الله أن نلتقي بعد ذلك فعرفته عن قرب عام 1973 في مركز تصحيح اختبارات الشهادة الثانوية بحلب ، حيث يلتقي عدد كبير من المدرسين من أكثر من محافظة ، فتكون أيام عمل و تعارف و إفادة علمية و استماع إلى قصائد و أشعار و تبادل و إهداء دواوين و قصص بين الزملاء
أسمعته بعض قصائدي في مديح النبي صلى الله عليه و سلم فسر بها و استمتع بقراءتها و شجعني على جمعها و طبعها و قد كان ذلك
كثيرا من الأوقات في أثناء الاستراحات قضيتها في مجلسه ينشد و يطلب إلي أن ألقي ما نظمته
و في إحدى هذه المجالس عبرت له عن حبي لشخصه الكريم و لشعره الرائع الجميل ، فكتبت أربعة أبيات و قدمتها له و قد هزتني ديباجته الأصيلة ، و معانيه الجميلة
 
نفحاتُ شعرِكَ يا ضياءَ الدينِ     قبَساتُ نورِ ، و انبثاقُ يقيـنِ
جددتَ فيها ما ونى من هِمّتي     وبعثتَ في روحي حَميةَ ديني
و بلغتَ بالحب المقدس ذروةً     فوقَ الذرا  تبدو لكـل أميـن
فاصدحْ-فديتُكَ-بالمديح، فإنما     مدْحُ النبيّ من الضّنى يشفيني
 
و قد ضاعت هذه الأبيات مع غيرها من المقطعات و القصائد في الهجمة اللئيمة التي قام بها جيش الأسد الهالك ، على مدينة جسر الشغور في 10 /3/  1980
و لولا ذكر الأخ أحمد الجدع لها في كتابه [ أدباء و علماء عرفتهم ] لما وجدت إليها سبيلا
ثم اضطررنا بعد إعنات و تسلط إلى الخروج من البلاد و لم يكتب لي لقاء شاعرنا ضياء الدين إلا في عام 1984 في المدينة المنورة ، لأفاجأ بعد تعاقدي مع الجامعة الإسلامية للتدريس في المعهد الثانوي فإذا الشيخ - رحمه الله - هو الموجه التربوي للغة العربية في الدور و المعاهد !
و كان لقاء حارا بعد نأي وانقطاع .. و يحضرني من ذكريات هذه الفترة أننا جلسنا في غرفته نتناشد الأشعار ، و نتذاكر الهموم ، حتى إني نسيت موعد استلام بدل الإيجار فجاءني أحد الزملاء ليخبرني أن أمين الصندوق على وشك الانصراف!؟
و توالت اللقاءات في غرفة التوجيه ، أو في أثناء زيارته لي في الفصل و قد أسند لي تدريس الأدب و البلاغة و كنت قد جعلت من درس البلاغة مجالا للتذوق الأدبي و تقريب المعاني و لا سيما أن أكثر الطلاب كانوا من غير العرب ، و وجدت أن المصطلحات و أمثلتها القديمة المكررة قد لا تنفع فكان الشيخ يُسّر و يثني أمام الطلاب و أمام إدارة المعهد... و في المساء كان يصطحبني أحيانا إلى مجلس الشيخ عبد الحميد عباس  لأستمع و أُسمع منتفعا و في المجلس  أكثر من شاعر و ذواقة للشعر كالشيخ محمد المجذوب و الشيخ عبد الحميد و الدكتور حسين قاسم [ أبو حمزة ] رحمهم الله .
و أذكر أن أحد الشعراء نَفَسَ على الشيخ ضياء أن يردد و يكتب عن نفسه : شاعر طيبة ، و في أبناء طيبة شعراء كثر ؟!
(و كان شاعرنا يستعذب هذا اللقب ، و يحب أن ينادى به ، بل هو يصر على كتابته على صفحات دوواينه و مؤلفاته ، و يشبه نفسه بحسان بن ثابت رضي الله عنه فإذا كان حسان شاعر الرسول صلى الله عليه و سلم فيما مضى فهو شاعره الآن . يقول :
 
هذا الرسول فكن في الشعر حسانا      و صُغْ من المدح في ذكراه ألحانا
 
و استمر يحمل هذا اللقب ، و يعتز به ! و قد ذكر في مقدمة ديوانه نفحات القرآن : أن الشيخ عبد الحميد عباس - أحد فضلاء المدينة .. هو الذي أطلق عليه هذا اللقب [ شاعر طيبة ] لكثرة ما يهجس بجلالها ، و يتغنى بفضائلها ، و بسيد العالمين ساكنها عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم [ من ألقاب الشعراء : شاعر طيبة ، مقاله للدكتور عبد الرزاق حسين - مجلة الأدب الإسلامي العدد 76 ]  . و من ذكريات تلك المرحلة أن الشاعر أكرمني ، فكتبت تقديما لديوانه [ في رحاب رمضان ط1 ] أشرت فيه إلى أنه يطوف ما شاء له أن يطوف ، و لا يزيده التطواف إلا حنينا لطيبة ، و شوقا إلى ربوعها ! و تعبق نفحات القرآن ، و يتجدد ربيع القلوب و يشدو ضياء الدين بأعذب ألحانه ، إذ يقول :
 
شوقي لطيبةَ  دائبٌ تتجـدّدُ      و الحبُّ لا يفنى و لا يتبـددُ
أنا ما سمعتُ بذكرها إلا هفا      قلبي ، و نيرانُ الجوى تتوقدُ
 
ثم كتبت دراسة عنه تحت عنوان : أشواق و ذكريات في رحاب رمضان ، نشرت في مجلة المجتمع الكويتية ، العدد 816 - 8 رمضان 1407 ، كان في خاتمتها استشهاد بأبيات للشاعر ، عبر فيها عن فرحته برمضان في طيبة الطيبة :
 
رمضانُ ! ما أحلى ليالي طيبةٍ     و الذكرياتُ تُهيجنا و المرتعُ
 
و عن سعادته بالعيد و هو في مدينة المصطفى صلى الله عليه و سلم :
 
هذه طيبـةٌ ، و أنتَ محــبُّ      و أرى الشوقَ في الضلوع استبدا
لستُ أنسـى و قد حللْنا ضيوفا      عند خير الورى ، و أكرم رفـدا
 
و عقبت المقالة : ألا يحق للشاعر أن يكون محب طيبة لا شاعر طيبة - كما سماه بعض الأدباء !
لأن كل محب شاعر - و إن لم يقل شعرا - و ليس كل شاعر محبا صادقا فقد عودنا الشعراء أن يكتبوا عن طيبة قصائد معدودات ، و لكن شاعرنا ضياء الدين ،أتحفنا بديوان شعر كامل مع ديوانين سابقين نفحات طيبة و رباعيات من طيبة ! و هذا ما يفعله المحبون ، لا الشعراء !
كان الشاعر - رحمه الله - يهدي إلي و إلى الكثيرين كتبه و دواوينه و كتب أدب و دين يرى أنها نافعة لقارئها
فلا يكاد يوجد كتاب لدي من إهدائه إلا أجد عليه عبارات الإهداء الراقية ، أو أبياتا يرتجلها و يسجلها بخطه و منها على سبيل المثال ما كتبه في الصفحة الأولى من ديوانه نشيد الإيمان :
 
حديثُكَ يا أخي يحيى لذيـذٌ      ويلمسُ كلَّ قلب في الصميم
عرفتكَ مخلصا حـرا أديبا      تسير على هدى النهج القويم
وما أحلى لقاءً في [رحاب]       فيالك مـن أخ ندْبٍ كريـم
 
و بعد سنوات يهدي إلي ديوانه نفحات حب و خلجات قلب : إلى الشاعر .. و الوفي الكريم الأخ ..
 
إن كان للشعر أن يزهو بشاعره      فإنما بكَ يزهو الشعرُ فتّانـا
بيني و بينك يا أسـتاذُ آصـرةٌ      من المودة ، عينُ الله ترعانا
 
و كتبت إليه مرة و أنا في المدينة المنورة و قد غادرها إلى مكة المكرمة للعمل في معهد الدعاة :
لكم يا شيخنا الغالـي      تحياتي وأشـواقي
وملءُ القلب من أدب      زكي وارفٍ راقي
أتى من مكةٍ سَحَـرا      نسيمٌ هزّ أعمـاقي
فقلت و بي صباباتٌ      وتسهيداتُ عشـاق
لقد  حركـتَ أشجانا      و دمْعاتٍ بأحـداقي
حملتَ سلامَ مشـتاق      لصبّ القلب مشتاق
 
فكتب إليّ يقول :
أبا بشرٍ لكم حبــي       و أسمى ما بأعماقي
وملءُ فؤادي اللهفــــان حبٌّ عاصف باقي
و أنتَ أعزُّ ما عندي      و أملؤهم لآمــاقي
أثرتم فيّ تحنانــي      و إحساسي و إشفاقي
و[طيبةُ] حبُها يسري      بأغواري وأعماقـي
لعل اللهَ  يجمعُنــا      وذاك يكون ترياقـي
 
و التقينا في المدينة المنورة على غير ميعاد ، و كان كثيرا ما يتردد إليها ، فأهدى إلي كتابا في الأدب العربي فارتجلت :
أهدى إليّ ضياءٌ أجملَ الكتبِ      في النثر والشعر والأخبار والأدب
 
فقال اكتب في الصفحة الأولى : هدية متواضعة إلى الأخ الكريم و الصديق الحميم الشاعر ..
و ارتجل أبياتا أرّخت لها في 25 رجب 1427

خيرُ الهدية ما كانت من الكتب     فاظفرْ تنلْ باقتناها أرفـع الرتـب
إني أهنيك من قلبي و عاطفتي     فأنت أكرمُ منْ يُرجى لـدى النّوَب
أنت الوفاءُ بعصـر لا وفاءَ به     يحيا بك الأدبُ السامي مدى الحقب
يا شاعرا وهب الهادي مدائحَه     إني أهنيـك في مدحٍ لخيـر نبـي
 
و من جميل الموافقات التي لا تنسى أنني كنت في زيارة لمسجد النبي صلى الله عليه و سلم ، ثم توجهت إلى قبره الشريف للسلام عليه ففوجئت بالشيخ ضياء ثم بالأخ سليم عبد القادر ، و لم يكن المجال يسمح لأكثر من سلام عابر ، و لكن الشيخ كعادته دس في يدي و يد الأخ سليم ورقة فإذا هي قصيدة له عن العراق - رد الله غربته - و رحم الله الأخوين العزيزين الحبيبين و قد فقدتهما في أسبوع واحد و لم يكن بين وفاتيهما إلا أيام أربع .. أسأل الله لهما المغفرة و الجنة ، و أن يجمعنا بهم تحت لواء سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم ، كما مَنَّ علينا في الدنيا بأن هدانا و جمعنا تحت راية دينه.