الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ذوبان الحدود

ذوبان الحدود

14.08.2013
ربيع بركات

السفير
الاربعاء 14/8/2013
لم يتضح بعد حجم ارتدادات الزلزال السوري على دول الإقليم، إذ ان هذه الارتدادات لم تأخذ مداها بعد، تماماً كما لم تصل الحرب السورية إلى ذروتها حتى اللحظة. التفاتة سريعة نحو محيط الشام تظهر تفاوتاً في حجم الضرر، أقله راهناً. في الأردن، ما زال النظام قادراً على الإفادة من جغرافية المملكة، ذات الحدود الأطول مع إسرائيل، للتخويف من شقاق بين أهل الضفة الشرقية وجارتها الغربية وانعكاس عدم الاستقرار على المحيط، بمثل قدرته على تخويف الخليج (أو معظمه) من فزاعة «الإخوان». لبنان، في المقابل، لا يملك الحدود الأطول مع العدو لكنه، أو قسم منه، يملك السلاح الأمضى والأكثر فاعلية تجاهه، وانفجاره يعني اتخاذ اللهيب وجهة الجنوب. أما تركيا، فقد عبرت تفجير (ريحانلي) قبل أشهر من دون أن تطوي صفحته تماماً. إذ ان الاستهداف الأكبر من نوعه منذ نشأة الدولة التركية دق جرس إنذارٍ ما كان أكثر المتشائمين في أنقرة يتوقعه: نذر طائفية في بلاد أتاتورك. بينما الأثر كان مدوياً في العراق، فمنذ شهر أيار الفائت وعدد الضحايا يلامس عتبة الألف أو يزيد، ليزاحم بذلك الأرقام التي سجلت في ذروة الحرب الأهلية بعد تفجير مرقدي سامراء في العام 2006.
ورغم عدم اتضاح الصورة النهائية بعد، يمكن القول إن تداخل الدول الأربع مع الحدث السوري اكتمل بعدما أصبح كل منها مصدّراً لأدوات الحرب وللمقاتلين أو معبراً لأي منهما، وبعدما طالت كل منها شظايا على شاكلة تفجيرات أمنية أو أمواج بشرية تمثلت بمئات آلاف اللاجئين. وقد تحول الكيان السوري إلى ساحة تدار فيها حرب أهلية وأخرى موازية لها بالوكالة عن الخارج بعد تدريب الجيش الحر في تركيا والأردن وتدفق آلاف الجهاديين من الجهات الأربع، في مقابل دخول «حزب الله» اللبناني وتشكيلات عراقية على خط المواجهة، وما أعقب الأمرين من إعداد الأكراد عدة البشمركة مؤخراً لمؤازرة مقاتلي حزب «العمال الكردستاني».
ويرى مشروع دراسي نظمه مؤخراً المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (مركز أبحاث يضم في عضويته مسؤولين أوروبيين وأمناء عامين سابقين للناتو وأكاديميين وصحافيين) بعنوان «سوريا: رؤى من المنطقة»، أن الكلام الذي يروج خوض المنطقة حرباً دينية تحركها سياسات هوية متنازعة، أداة دعائية شديدة التأثير، لكنها توظف أساساً في صراع «تقليدي» يتمحور حول الهيمنة الإقليمية والطموحات الإستراتيجية. ويخلص تقرير المشروع إلى القول إن حرباً طويلة الأمد تعني مزيداً من التجزئة وصولاً إلى تفكك سوريا بحكم الأمر الواقع de facto break up وهو ما يبدو الاحتمال الأكثر قابلية للتحقق.
ويمكن أخذ حالة أكراد سوريا كمثال لفهم المسار العام للأمور، ليس فقط لناحية القول إن التفكك احتمال بالغ الجدية، بل للإشارة إلى حجم التداخل بين كتل بشرية كانت تحول بينها حدود الدولة الحديثة في المشرق. إذ يصعب فهم المسألة الكردية في بلاد الشام راهناً من دون الأخذ بالاعتبار كلاً من مركزي القوة الكرديين الرئيسيين في المنطقة: إقليم كردستان العراق وحزب «العمال الكردستاني». وبالرغم من صراع النفوذ بين المجلس الوطني الكردي المقرب من حاكم الإقليم مصطفى البرزاني (يضم 16 حزباً كردياً وتشكل في تشرين الأول 2011 في أربيل برعاية البرزاني) وحزب «العمال الكردستاني»، فإن البرزاني تحدث بوضوح تام عن نية قوات البشمركة الدخول على خط المواجهة في حال استفحلت الحرب بين القوى الكردية من جهة (وعلى رأسها حزب العمال)، وجماعات الجهاديين وحلفائهم في المعارضة السورية المسلحة، علماً أن حاكم كردستان كان قد اعترف قبل عام بتلقي أكراد سوريين تدريبات عسكرية في إقليمه، ما يعني أن التداخل كان قائماً قبلاً فيما هو اليوم يشارف على الاكتمال.
ويأتي هذا التداخل بين كتل سكانية ذات قواسم مشتركة وعابرة للحدود، معطوفاً على عامل تصدع الاجتماع السوري، ليضاعف من أثر الحرب على دول الجوار.
لقد تحدثت «الإيكونوميست» قبل أيام عن «زوال الدولة السورية» وتفككها إلى ثلاثة أجزاء: واحد بيد النظام وآخر بيد المعارضات المسلحة، فيما الثالث بدأ يتشكل على نحو كيان كردي وليد. وفي هذه الكيانات، كل شيء بدأ يتخذ لنفسه هوية خاصة. فباتت تحكمها وضعيات تنظيمية تتراوح بين قوانين الدولة الرسمية والشريعة الإسلامية وغياب القانون التام، وتعلو أبنيتها ثلاثة أعلام مختلفة (العلم الرسمي وعلم الإنتداب/الاستقلال والعلم الكردي)، وتسيرها دورة اقتصادية أنتجت ميكانيزماتها المحلية القائمة أساساً على اقتصاد الحرب.
غير أن الأثر الأبرز لإطالة الحرب في سوريا، وهو الأمر المتوقع، يتمثل بخلق جيل جديد من أبناء المنطقة ممن تجاوزت بناهم الثقافية والاجتماعية والنفسية حدود الدول التي عمرت عشرات السنين. والقضية هنا أكثر تلقائية من محاولة واعية، للأكراد مثلاً، تقضي بإصلاح «الخطأ التاريخي» الذي حرمهم كياناً تحت الشمس. وهي أكثر عمقاً من قرار داخلي في دولة عربية ما يقضي بإعادة إنتاج العلاقة مع أقلية قومية أو طائفية أخذت تعلن عن نفسها اليوم بعد طول انطواء.
القضية، اليوم، عبارة عن تطبّع تلقائي مع أمر واقع يزداد رسوخاً بمرور كل يوم، ببساطة لأن ديناميات الحرب التي تعاكس الهويات الوطنية السائدة تملي هذا الرسوخ.
هكذا، تذوب الحدود في المنطقة بأسرع مما تقدر الدول المعنية على الاحتواء. وتتجاوز سرعة الأحداث صانعيها نتيجة عجز مركز قرار إقليمي أو أكثر عن ضبط سيولتها. وفيما تُوازن القوى المتنافسة بعضها بعضاً وتتمسك بسياسات هجومية ليقينها أن الدفاع انكفاء، يتزايد تحلل كياناتها أو كيانات من هو أكثر انغماساً بينها في الحروب الدائرة. وتكون النتيجة أكبر من مجرد انهيار كبير لمنطق «وستفاليا» المؤسس للدولة الحديثة وحدود «سايكس بيكو» المحددة لدول المشرق، لتصل إلى حد تفكيك هويات سكان الإقليم وإعادة صهرها من جديد.
ومع ذوبان الحدود اليوم، تتشكل أكثر من ذاكرة جمعية وتكتب كل مجموعة مقاتلة سرديتها الخاصة. وسيكون لأهل المنطقة، غداً على الأرجح، أكثر من رواية، لأنهم أعجز عن تقديم قراءة مركبة للأحداث. وسيكون لجماعات المشرق أكثر من تاريخ، كما كان لديهم على مدار أربعة عشر قرناً انقضت... أو لعلها لم تنقضِ بعد.