الرئيسة \  واحة اللقاء  \  رأس السنة السورية

رأس السنة السورية

08.01.2015
سوسن جميل حسن



العربي الجديد
الاربعاء 7-1-2015
بينما كانت الشاشات تعرض احتفالات العواصم العالمية بالسنة الجديدة، كانت المفرقعات، بمختلف أنواعها وعشوائيتها ومخاطرها، تتحول إلى رصاص حي في مدينة سورية، تغص بالقاطنين بين سكان ونازحين من أهل الوطن المنكوب، كانت جادة الإليزيه تشع بالألوان والألعاب النارية، فتحول سماءها إلى لوحات فنية متتالية، كذلك ساحة ساعة غرينتش، والساحة الحمراء وساحات نيويورك، وغيرها.
هذه اللحظة الفاصلة بين اثنين من المصطلحات الدالة إلى الزمن، والتي وضعها الإنسان من أجل ضبط حياته، وتسهيل إدارتها، تعني الكثير للبشر، فهم يتفاعلون معها بطرق مختلفة، تحددها الدوافع والنوازع التي تستبطن نفوسهم. شعوب قادرة على الفرح والبهجة، تحتفل باجتياز جسر يتوجون معه حقبة من أعمارهم عامرة بالحياة، التي يتفهمون أن فيها من الفشل ربما بقدر ما فيها من النجاح، فالحياة هي تجارب يسعى الإنسان إلى جعلها أقرب إلى النموذج، ليتمتع بنجاحها وإنجازاتها.
وهناك شعوب لم يبقَ للفرح والبهجة، أو التفاؤل، مطرح في وجدانها، فهي تعيش في خضم الموت، بعد أن عاشت قروناً وعقوداً من التغريب، شعوب لم تعد تعرف أن تحتفل بالحياة في حضرة الموت والتجارب التاريخية الفاشلة والمدمرة.
لعلع الرصاص، بدلاً من أهازيج الفرح وزغاريد الحياة، فتحولت الفضاءات خلف النوافذ المغلقة إلى جبهات حرب، كانت الحركة قليلة في الخارج، والشوارع شبه خالية. زمجر الرصاص، وجنّ مدة ساعة تقريباً، ثم صمت، وصمتت المدينة معه، مثلما لو أنها تحولت إلى مقبرةٍ، تضج بصمتها في ليل حالك. كانت المحطات الرسمية، والموالية لها، تبث برامجها لسهرة رأس السنة، وفق الصورة النمطية ذاتها، بعيدة عن الحيوية والجذب، لا تمل من التكرار، عاجزة عن الابتكار، فهي تعيد وتجتر خطابها، حتى في برامج يفترض أنها ترفيهية، كان لا بد من التعريج على سيرة المؤامرة ورؤوس الفتنة والشعب السوري الواحد، وسورية دولة الممانعة، وأميركا قاتلة الشعوب والصهيونية الماسكة والراسمة للسياسات العالمية. كما أن إحداها كانت ترصّع برنامج السهرة ببث تقارير المراسلين من بعض المدن السورية، أو بعض الأحياء في مدن منكوبة، مثل حلب، لتبدو الحياة في سورية طبيعية، والشعب السوري بخير، وقادراً على الفرح والسهر والاحتفال، وكأن النكبات التي تلم به، وتحصد الآلاف بين ضحايا ومشردين ومهجرين، وبيوتهم مدمرة، حصلت في زمان غابر، وفي بقعة أخرى، وصارت نسياً منسياً.
 كيف لشعب أن يكون قادراً على الفرح، وهو يزحف من عام بلون الدم، عام توّج عقوداً وقروناً من الظلم والاستبداد المتنوع المتضافر، بقيام دولة تريد ليّ عنق الحداثة، وتطويع الحياة البشرية بكل ما مرت فيه من تطور، وحكمها بقوانين وقوالب كانت قبل أربعة عشر قرناً، وهو يدخل نفقاً مظلماً بلا نهاية؟ كيف لشعب يرزح من بقي منه تحت رحمة الجوع والبرد والتشريد والفقدان أن يفرح بعام ينقض عليه موحشاً، ظالماً مجحفاً، كل المؤشرات تدل على أنه امتداد لما سبقه؟
انقضى عام كان الأشرس في ميدان الحياة وساحات الموت على السواء، على مرأى العالم كله. وقف العالم متفرجاً على مآسينا، وتحالفت دول كبرى، مهددة هذا الوحش غير العابئ بكل التهديدات، وحش داعش بدولته التي ولدت مكتملة، لها جيش بخبرات قتالية، لا تتناسب مع
"كيف لشعب يرزح من بقي منه تحت رحمة الجوع والبرد والتشريد والفقدان أن يفرح بعام ينقض عليه موحشاً، ظالماً مجحفاً، كل المؤشرات تدل على أنه امتداد لما سبقه؟" المتطوعين والمرتزقة الوافدين إلى أرضنا في مهمة الجهاد المقدس، جيش يتحدى أعتى القوى العالمية، ويستمر في قتله وانتهاكه الأرض والعرض، أينما حلّ، مخلخلاً ومدمراً البنية الاجتماعية السورية التاريخية المتعددة الغنية. كيف لمن وقع تحت حكم داعش أن يحتفل برأس سنةٍ ابتدعها الكفار؟ من يجرؤ على النطق بمناسبة كهذه؟
وكيف لشعب يهجم عليه غول الشح، واعداً في العام المقبل ومتوعداً، أن يفرح ويحلم؟ الشعب السوري يعيش على أرض زلقة، ينحدر معها في مستوى العيش بشكل مضطرد مع تقدم الأزمة. الإنفاق الاجتماعي يتراجع، المواد التموينية، حتى المدعومة منها، أسعارها تكوي، وهي غير متوفرة بأسعارها الحقيقية، بل تحت رحمة اللائحة التي يتحكم بها تجار الحرب. الأسر السورية تعيش تحت سطوة الرعب من سحب أبنائها إلى ميادين القتال، على كل من هو في عمر السلاح أن يحمل السلاح، ويقاتل لصالح جهة ما، إن كان في جيش النظام، أم في الكتائب المسلحة الأخرى. الأطفال الباقون على قيد الحياة هم خارج مجال النمو والتطور الطبيعي للأفراد، ليس هناك مبررات لنشوء جيل مسلّح بقيمة ما غير السلاح.
حياة تتردى، وبلاد باتت مجزأة ومقسمة ورازحة تحت أشكال الاستبداد كلها، حتى استبداد اللقمة والعيش القلق، لا يمكن أن تحتفل بمناسبة فرح، والمؤلم أكثر والمحبط أكثر هو الإصرار على خنق أي مبادرة سياسية، قد تعد ببصيص أمل في وقف النزيف السوري. ليس العالم جاداً في اهتمامه بقضية شعبنا. الأنظمة تسعى إلى تأمين مصالحها، القوى المتصارعة تدير حربها ومساوماتها فوق أرضنا، والنتيجة عام ينطوي محققاً أرقاماً قياسية في عدد الضحايا والمهجرين، والمدن المدمرة والمجتمع المنكوب، والشعب الممزق المشرذم، والهوية المنتهكة، والتراث الثقافي والإنساني المشوه والمسروق، والمهدد بطمس معالمه وتاريخه.
سورية مقطعة الأوصال صارت بحاجة اسعافية لإجراءات عاقلة وجادة، من أجل إخراجها من عنق الزجاجة، قبل أن تختنق بالكامل. آن الأوان لأن يفسح المجال لمجموعة من السوريين، قادرين على التعاطي مع فن الممكن. نحن بحاجة إلى الممكن، وليس إلى وضع العصي في دواليب الحل. إذا كانت الأعوام تُحاسب في خواتيمها، فلا بد من استغلال الوقت والسعي إلى أن يكون العام الذي دخل علينا بمثابة طاولةٍ، يجتمع حولها السوريون، من دون إغفال القوى الفاعلة في الصراع، بعد أن أفلتت الأمور من أيدينا. لماذا لا تكون السنة الجديدة سنة سورية خيّرة؟