الرئيسة \  واحة اللقاء  \  رحيل المفكر العربي الكبير نديم البيطار آخر الوحدويين الكبار!

رحيل المفكر العربي الكبير نديم البيطار آخر الوحدويين الكبار!

30.08.2014
بول شاوول



المستقبل
28-8-2014
أحد كبار المفكرين العرب "العروبيين" و"الوحدويين" نديم البيطار، رحل في أحد منافيه الطويلة، القاسية، الناضحة بالغربة. رحل بعيداً عن أمته. في ديترويت بالولايات المتحدة الأميركية عن عمر يناهز التسعين عاماً. كان نديم البيطار (مواليد عكار اللبنانية) من آخر المفكرين الذين انضووا، والتزموا، التنوير العربي المفتوح، والقومية العربية الحضارية، المشرعة على الفكر الإنساني والسياسي والسوسيولوجي. غَزُر في كتاباته. وانخرط في عمله النهضوي، في مشروع الوحدة القائمة على تنامي الشعب "وحدة الدكتاتوريات"، التي كانت في بعض ملامحها، نوعاً من الفوقية، والاستقواء على الشعب العربي. هذا ما حدث في الوحدة المصرية السورية عندما أنجبت عبدالحميد السراج، وأنظمة القمع، والاستخبارات، بحيث بدت الوحدة على أيدي هؤلاء (القذافي أقام عدة "وحدات" عربية. ما شاء الله)، وكأنها أخطر من تباعد مكوّنات الشعب العربي، الذي كان في الثلاثينات وحتى "انقلابات العسكر" ينمو في اتجاه بعضه، محاولاً، بمثل الأفكار الوحدوية، والتغييرية، والعدالة، والتنوير، الخروج من تاريخ طويل من الركود تحت وصايات الاستعمار والانتدابات، والاحتلالات. وها هم طغاة "العروبة" يضربون أفكارها وأدواتها ورموزها، استكمالاً لضرب مجمل الأدوات المدنية والمجتمعية. اغتال القذافي (باسم الوحدة والعروبة) كل الوحدويين والعروبيين رموز العروبة؛ أما النظام السوري البعثي الذي أدرك السلطة بانقلابات دموية، فلم يوفر رمزاً من رموز القومية العربية (أو اليمينية أو اليسارية) من اغتيالاته. اغتال صلاح البيطار في باريس، (وكمال جنبلاط اليساري في لبنان)، وكذلك نظام صدام حسين الذي تآمر والولايات المتحدة على الحضور اليساري، والقومي، بإفراغ الأخير من مضامينه الديموقراطية، والتعددية، وتصفية إرثه التنويري الكبير، ليختزل (كما حافظ الأسد والقذافي) كل هذه الإنجازات الشعبية والثقافية والفكرية والتقدمية في دكتاتوريته، وليفرغ (مع أقرانه الدكتاتوريين) المجتمعات الخصبة من تطلعاتها، وآمالها، وأحلامها، وانطلاقاتها إلى الحداثة المتنورة، التي صاغ نصوصها وأفكارها، عرب كبار كفرح أنطون وميشال عفلق وأكرم الحوراني، ومحمد عبده، وشبلي الشميل، وعلي عبدالرازق، وقاسم أمين وطه حسين ورئيف خوري وأمين الريحاني وأحمد فارس الشدياق وقسطنطين زريق وساطع الحصري (من دون أن ننسى جبران وميخائيل نعيمة...) وسواهم. هذه الدكتاتوريات الشعبية أطاحت كل هذا الإرث، وبدلاً من تقريب الشعب العربي من بعضه، ورّطوا جموعه بمعاركهم السلطوية، وصراعاتهم الحزبية.
وبدلاً من رعاية المفكرين العروبيين واليساريين والنهضويين والديموقراطيين، والوحدويين، شردوهم، أو نفوهم، أو قتلوهم، أو سجنوهم، أو طاردوهم، بحيث خلت الساحات من كل هؤلاء، ومن الأحزاب، والنقابات، وبقيت شعاراتهم معلقة فوق منصات الطغاة. هرب مؤسس حزب البعث ميشال عفلق من طغيان البعث السوري، إلى طغيان البعث العراقي (ولم يوفر الرئيس النميري الرموز السودانية العروبية واليسارية والديموقراطية... وكذلك علي صالح).
هنا بالذات يمكن استحضار المفكر العروبي الكبير نديم البيطار، الذي لقي مصير مفكرين كبار، لأنه كشف في مواقفه وكتاباته الغزيرة، مواقع هذه الأنظمة الإنقلابية وتداعياتها خصوصاً في مؤلفه الأثيري "الإيديولوجيا الانقلابية" (1964) مشرحاً الحقائق الخلفية التي تكمن وراء "الثورات" العربية، بعمق جمع بين الثقافة الفكرية السخية، وبين الالتزام العملي؛ محولاً ظواهر التجزئة التي أصابت العرب و"الثورة" (التنويرية) واضعاً اقتراحات وتصورات، للانتقال من هذه الحالات التقسيمية على مستوى الأنظمة، والمجتمعات، والبنى الفكرية ـ الى حالات "الوحدة" المرتكزة على تفاعل الظواهر، والاتجاهات، والاحتمالات، مع عمق الأحداث، (وما وراءها)، ومع التحولات وما في تضاعيفها، والانتكاسات وما في زواياها، ومع الاندفاعات وما في دوافعها، وأشكال التخلف وما في اسبابها، وانحطاط السياسة وما في شوائبها، تمهيد لأي فكرة وحدوية قابلة للحياة أي محاولة النزوع نحو مجتمع جديد، بأفكاره ونواحيه وتعقيداته وارتباطه بعمق المعطيات الظاهرة والامنة. ونظن ان نديم البيطار الذي دفع ثمن مواقفه المبدئية، ورهاناته، وتطلعاته، اثماناً باهظة، بدءاً بمحاولة اغتياله وصولا الى المنافي أحزنه وأحبطه كثيراً سقوط المثقفين العرب إما بتنكرهم لأفكارهم أو خيانتها، أو الارتماء في احضان الطغاة، وها هو نديم البيطار، بعد مسيرة شاقة وبعيدة ومتباعدة، يموت في المنفى، لكن كل ذلك لم يثنه عن حلمه الوحدوي، عندما أوصى بالاستغناء عن مراسم الدفن التقليدية والاستعاضة عنها باحراق جثمانه ونثر رماده على الحدود بين مصر وليبيا.
الطغاة أبعدوه عن ارضه العربية، وها هو برماده المنثور بين حدودين، كأنه يوقظ احلاما لم تمت فيه.