الرئيسة \  واحة اللقاء  \  رخاوة أميركية مقلِقة في موضوع "داعش"

رخاوة أميركية مقلِقة في موضوع "داعش"

22.11.2015
جهاد الزين



النهار
السبت 21/11/2015
أُعْجِبْتُ دائما بمستوى باراك أوباما وأهميته كرئيسٍ تاريخيِّ التغييرِ في الولايات المتحدة الأميركية وعبرها في العالم واحترمتُ على الدوام خيار انسحابه من التورط في حروب ورثها عبر وقف أو التخفيف من إرسال شباب بلاده العسكريين إلى الخارج، ورأيتُ في ذلك ليس مجرد تغيير في الاستراتيجية الأمنية الأميركية في الشرق الأوسط بل أيضاً ما يرقى إلى أن يكون التزاما شخصيا أخلاقيا لديه يحاول الحفاظ عليه بأكبر قدر من المناورة داخل التعقيدات السياسية والأمنية الضاغطة.
 
باستثناء خطبهِ في الموضوع الإسرائيلي الذي يتضاءل ذكاؤه الشديد حين يتناوله كأنه لا يصدر عن الشخص نفسه الذي لا أشك بأن خطبه المتميّزة ستتحوّل إلى نصوص أساسية في التاريخ الأميركي "النصوصي" الممتد من جورج واشنطن إلى أبراهام لينكولن إلى جون كينيدي... كما كتبتُ بعد عودتي من جولة تغطية ميدانية في عدد من الولايات الأميركية لحملته الانتخابية الرئاسية الأولى عام 2008.
التهمة التي تقول إن أوباما رئيس ضعيف في السياسة الخارجيّة غير صحيحة وتهدف عند البعض إلى تحقيره فقط بسبب الاختلاف في المواقف. ورأيت دائما أنه رئيسٌ قويٌّ جدا ولكنه منتمٍ ٍإلى "فلسفة" سياسية لديها عمق في الرأي العام الأميركي بعد كل التجارب العسكرية الأميركية، ويبدو أن المؤسسة الأمنية والعسكرية الأميركية تدعمها أو هو يعبِّر عن تحوُّلِها، أي المؤسسة، في اتجاهها. وهي فلسفة أن الديبلوماسية قادرة على تحقيق ما لا تستطيعه الحرب أو أن ما يمكن تحقيقه بالسياسة يجب تلافي تحقيقه عبر الحرب. يلتقي الالتزام الأوبامي الأخلاقي (والانتخابي أي البرنامج الانتخابي) مع هذا الاتجاه الذي سلكته الاستراتيجيا الأميركية بعد مرحلة الرئيس جورج دبليو بوش.
رغم كل هذا الإعجاب والاحترام المديديْن أشعر كمواطن ومراقب من الشرق الأوسط والعالم العربي بقلقٍ كبير من موقفه أو من طريقة عرض موقفه بعد مجازر باريس. لا بل لديّ ارتياب بأن هذا الموقف، في توقيت وطريقة إعلانه، يؤدي ليس فقط إلى طمأنة "داعش" بل أيضاً إلى منع إنهاء ازدواجية العديد من الدول حيال "داعش" و"مجتمع" التنظيمات الذي تأتي منه "داعش" وهي ازدواجية تسمح لهذا الوحش الإرهابي لا بأن يصمد فقط بل بأن يزدهر وينقل ويعولم إرهابه إلى مستويات غير مسبوقة أيضاً.
الارتياب الأساسي بعد مجازر باريس، باختصار، هو أن يكون وراء الموقف الأميركي من الإسراع المثير في إعلان الرئيس أوباما رفضه القاطع لإرسال جيشه إلى المنطقة مجدداً لضرب "داعش"، أن يكون ذلك تعبيرا عن استراتيجية أميركية ستؤدي إلى إطالة "الستاتيكو" الحالي في المنطقة أي إلى استمرار "داعش" وروافدها المختلفة المعلنة وغير المعلنة.
هذا الموقف الأميركي سيتيح من الناحية العملية إضعاف التحالف المفترَض أن مجازر باريس بعد موجة التفجيرات التي سبقتها في أنقره ومصر وبغداد وبيروت ستُنضِج لديه قرارَ الاستئصال البري النهائي لمناطق وجود "داعش" وستشجِّع، وهذا مهمٌ جدا، عددا من الدول على إبقاء أولوياتها المختلفة السابقة غير الداعشية مستمرة وهو ما أسميناه ازدواجية التعامل مع الموضوع.
كان بإمكان الرئيس أوباما بدل أن يتسرّع مبكراً جداً في التشديد على عدم إرساله أي قوات برية، ولم يطالبْهُ أحدٌ بذلك أصلاً في تلك اللحظة، كان بإمكانه أن لا يمنح "داعش" شعورا مجانيا بالأمان وأن ينتظر الموقف الفرنسي بحيث يمكن لاحقا أن يُولد تعاملٌ غربي إقليمي حاسم مع الموضوع تكون القوات المهاجمة مدعومةً من واشنطن دون أن تشارك فيها واشنطن سوى بالتنسيق الجوي والمخابراتي والفني بوجود 3500 جندي وضابط أميركي حالياً في العراق.
لا أتحدّث بنظرية المؤامرة حتى لو أن منطقتنا تحتشد بوقائع يصعب معها أحياناً تلافي هذه النظرية. ولكن لا بد من السؤال هل تريد واشنطن منع بلورة موقف جذري من "داعش"؟ وكيف يمكن في هذه الحالة أن لا يعتبر البعض هذا الموقف الأميركي مشجعاً على استمرار السياسة الملتبسة نفسها فيما لا تزال الحدود التركية مع سوريا تمثل مشكلة كبيرة جدا كما كتبت افتتاحية "النيويورك تايمز" أمس الأول ودعت إلى استراتيجية مكافحة طويلة الأمد ل"داعش" منحازةً بذلك إلى موقف الرئيس أوباما ولكن من زاوية النقاش الداخلي بين الجمهوريين والديموقراطيين وليس في النقاش الخارجي. والأدق هنا القول: منحازة في النقاش الداخلي على قضية خارجية.
هناك من يقول في أميركا دعوا العرب والمسلمين أنفسهم يقاتلون "داعش" فكفانا نحن قتالا عنهم.
هذا نوع من الآراء القديمة ليس وقتها الآن لأسباب عديدة. أولا لأنها مستهلكة، وثانيا لأن الموقف الأميركي يفتّ من عضد الدول العربية والمسلمة التي يمكن أن تقاتل "داعش" في جو دولي ملائم، وثالثا لأن فرنسا وأوروبا وصلتا إلى وضع حرِج لا يحتمل هذا النوع من التحاجج، ورابعا لأن العرب والمسلمين يقاتلون ويتقاتلون هذه الأيام وبعضهم كالأكراد في قلب قتال "داعش"، وخامسا حتى دول "الازدواج" تقاتل "داعش" بصورة من الصور وإن كان ليس بالشكل الكافي بسبب هذه الازدواجية.
باختصار ثمة ميوعة أميركية في الموضوع مثيرة للقلق إن لم يكن للارتياب، والتهمة الأساسية هنا هي أنها تؤدي إلى تشجيع إطالة الصراع من الناحية العملية أيا تكن نوايا الرئيس أوباما الشخصية.
أمن العالم المدني في خطر متجدّد ومحقَّق ولهذا فالميوعة والازدواجية ساهمتا في اتساع ظاهرة"داعش". وهذه الملاحظة ليست بالضرورة تأييداً لتدخّل أميركي بري وإنما دعوة إلى ضرورة أن لا تساهم الولايات المتحدة في تأخير حماية "داعش" من العقاب عبر هذه الميوعة.