الرئيسة \  واحة اللقاء  \  رسائل من "الربيع الألباني" الى "الربيع السوري"

رسائل من "الربيع الألباني" الى "الربيع السوري"

19.07.2013
محمد م. الأرناؤوط

المستقبل
الجمعة 19/7/2013
قبل أسابيع التقيت الأكاديمي السوري د. محمد حبش في مؤتمر دولي لحوار الأديان في الدوحة، حبث بادرني بمجرد رؤيتي عن السؤال عن "النموذج الألباني" وكيف أمكن للشعب الألباني أن يتخلص من أعتى نظام شمولي بعدد لا يذكر من الضحايا خلال 1990-1992 بينما الشعب السوري فقد خلال 2011-2013 حوالى مئة ألف قتيل لأجل نيل نظام ديموقراطي يستحقه، فوعدته أن أكتب المزيد عن ذلك.
وبالصدفة كان معنا في المؤتمر الكاتب الألباني المعروف بسنيك مصطفى الذي يعتبر من محركي "الربيع الألباني" وأصبح من رموز "ألبانيا الديموقراطية" الى جانب صالح بريشا وغيره بعد أن دخل البرلمان في أول انتخابات حرة في 1991 وأصبح سفيراً لألبانيا في باريس خلال 1992-1997 ثم تولى وزارة الخارجية 2005-2009، والذي كتب في حينه ذكرياته وانطباعته عما حدث في ألبانيا خلال 1990- 1992 بعنوان "ألبانيا بين الجرائم والأوهام". وقد صدر هذا الكتاب في الفرنسية ( باريس 1992) وفي الايطالية (1994) وفي الألمانية ( 1997) بالإضافة االى عدة طبعات ألبانية كانت الأخيرة في 2009، وحرص مؤلفه الذي يشغل الاآن منصب رئيس "الشبكة الأوروبية المتوسطية الثقافية" خلال زيارته الى بيروت في نهاية 2012 أن يترك أكثر من نسخة من كتابه بالفرنسية على أمل أن يوجه رسائل من "الربيع الألباني" الى "الربيع العربي". ولكن للأسف لم يصدر أي عرض للكتاب حتى الآن بينما يستحق الكتاب أن يترجم الى العربية مع ملحق خاص بالطبعة العربية.
في الكتاب لدينا ما يمكن اعتباره "رسائل" من "الربيع الألباني" الى "الربيع السوري" مع أن المؤلف كتب كتابه هذا قبل عشرين سنة ولكن حدّثه مع كل طبعة جديدة.
الرسالة الأولى تتعلق بدور المثقفين في التغيير. فقد كان النظام الشمولي في ألبانيا قد تخلص من الانتلجنسيا الموجودة لدى وصوله الى الحكم في 1945 وشكّل انتلجنسيا جديدة تسوّق النظام الشمولي باعتباره الأفضل في العالم. ومع ذلك يميّز بسنيك بين جيل الكبار في الانتلجنسيا وبين جيل الشباب (الذي كان ينتمي اليهم بسنيك)، حيث كان الكبار مثل دريترو أغولي رئيس اتحاد الكتاب يحذر الشباب من تحول ألبانيا الى لبنان آخر! ولكن الكتّاب الشباب (بريتش زوغاي وتيودور كيكو وإلسا بالاوري الخ) كسروا حاجز الخوف والتحموا بالمعارضة الطلابية في كانون الأول 1990 التي أرغمت الرئيس الألباني وقتها رامز عليا على القبول بالتعددية السياسية في 9/12/1990. وفي تلك الليلة تأسس في المدينة الطلابية بتيرانا أول حزب غير شيوعي (الحزب الديموقراطي) من قبل بسنيك مصطفى وصالح بريشا وحازم حيدري وغيرهم الذي قاد لاحقاً تحول ألبانيا من نظام شمولي الى نظام ديموقراطي.
الرسالة الثانية تتعلق بنقص الثقافة السياسية للمعارضة الجديدة. فبسنيك يعترف أن النظام الشمولي الذي احتكر الحقيقة والسياسة لمدة تزيد عن أربعين سنة جعل المعارضة الجديدة من الكتّاب الشباب والطلاب يكتشفون أنهم يفتقدون لثقافة سياسية مغايرة عن الثقافة السياسية التي حرص النظام الشمولي على تكريسها باعتبارها الوحيدة التي لا بديل لها. وينقل بسنيك هنا كيف أنهم عندما قرروا تأسيس حزب سياسي غير شيوعي لم يكونوا ليعرفوا شيئاً سوى أن يكون لديهم "حزب ديموقراطي"، حيث لم يعرفوا كيف يكتبوا أفكاره وبرنامجه، ولذلك اكتفوا بتسميته "الحزب الديموقراطي" على أن يستكملوا لاحقاً بلورة أفكاره وبرنامجه.
الرسالة الثالثة تستعرض تأثير نقص تأثير الثقافة السياسية للمعارضة على مسير الأحداث ومصير النظام الديموقراطي الجديد. فصالح بريشا كان طبيبا متخصصاً بالقلب وأستاذاً في كلية الطب ولم يكن لديه أي تجربة معارضة مثل ليخ فاليسا أو مثل فاكسلاف هافل، وقد برز فجأة لسبب بسيط ألا وهو أن زعيم التحرك الطلابي حازم حيدري كان من منطقته (تروبويا) ولذلك طلب منه رئيس الحزب الشيوعي رامز عليا الذهاب الى المدينة الطلابية والاجتماع بالطلاب لكي يستوعبهم. ولكن بريشا أدرك هناك "اللحظة التاريخية" التي منحت له وبرز منذ تلك اللحظة رمزاً من رموز المعارضة المطالبة بالتغيير الديموقراطي.
الرسالة الرابعة تتعلق أيضاً بنتائج نقص الثقافة السياسية بعد وصول المعارضة الى الحكم. فقد وحّد المعارضة الصاعدة "الحلم" بالتغيير ولم تصدق أن النظام الشمولي الذي كان يعتبر "قدراً أبدياً" لألبانيا أن يستسلم بسهولة وأن يقبل بتعددية سياسية وانتخابات ديموقراطية برقابة دولية. ومع هذه السرعة التي وجدت نفسها المعارضة نفسها في الحكم بدون ثقافة أو تجربة سياسية سابقة كان من الطبيعي أن تبرز المصالح الشخصية والفئوية لرموز الحكم الديموقراطي الجديد وأن تبدأ الخلافات على المصالح بين أركان الحكم الديموقراطي وتأخذ شكل "انشقاقات حزبية" (تأسيس أحزاب جديدة منشقة من "الحزب الديموقراطي") مع أن الدافع لها كان مجرد عدم توزير فلان أو إبعاد فلان من الحكومة لصالح آخر أقرب الى رئيس الحكومة. وقد أدت هذه الحالة الى التحول في العلاقة بين مؤسسي "الحزب الديموقراطي" من الندية في الحلم والتغيير الى الرئاسة والمرؤسية، وهو مادفع بسنيك نفسه الى الاستقالة من منصبه كوزير للخارجية في 2009 وحتى اعتزال الحياة السياسية والعودة الى الادب.
الرسالة الخامسة التي تتعلق أيضاً بنقص الثقافة السياسية تكمن في الاخطاء التي ترتكبها المعارضة خلال سعيها الى الحكم بادعائها أنها تمثل "الشعب". فعلى الرغم من سوء النظام الشمولي الذي لا يقارن بما كان موجوداً في العراق وسوريا إلا أن لهذا النظام كان له أنصاره وخبرته، ولذلك عرف كيف يستثير مخاوف بعض المحافظات التي تحتوى الأقليات في جنوب ألبانيا (المسيحيون والعلويون/ البكتاشيون) ضد المعارضة الديموقراطية التي تمثل الشمال (بغالبية سنية) في أول انتخابات حرة تشهدها ألبانيا في آذار 1991، حيث احتفظ الحزب الاشتراكي بغالبية المقاعد (169 مقعداً من أصل 250)، بينما احتاج الأمر الى احتجاجات ومظاهرات وانتخابات مبكرة في آذار (مارس) 1992 حتى يفوز "الحزب الديموقراطي" بغالبية المقاعد وينتخب البرلمان أول رئيس غير شيوعي لألبانيا: صالح بريشا.
الرسالة السادسة والأخيرة تتعلق بتجربة ألبانيا في أن التخلص من الحكم الشمولي أسهل من التحول الى الحكم الديموقراطي نتيجة للتغيرات العميقة التي أحدثها النظام الشمولي لأكثر من أربعين سنة في البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى النفسية. فالحماس الديموقراطي للتغيير تضمّن تسريع التحوّل من النظام الاشتراكي الى النظام الرأسمالي وهو ما هدّد وهدم مكاسب لشرائح اجتماعية وجدت نفسها فجأة في الهامش وأثار تمرداً اجتماعياً في 1997 بتحريض من "الحزب الاشتراكي" (كما أصبح يسمى الحزب الشيوعي منذ 1990). وهكذا ينتهي بسنيك الى أن ألبانيا التي خرجت من "الحلم الشيوعي" في 1992 هي نفسها التي خرجت من "الحلم الرأسمالي" في 1997، بعدما استفاد "الحزب الاشتراكي" من أخطاء "الحزب الديموقراطي" وعاد ثانية الى الحكم في 1997. وفي هذا السياق فقد عاد بدوره "الحزب الديموقراطي" الى المعارضة حيث اكتسب خبرة سياسية جديدة مكنته من الفوز في انتخابات 2005 وانتخابات 2009.
وبالاستناد الى كل هذا اختار بسنيك مصطفى لكتابه عنوان "ألبانيا بين الجرائم والأوهام"، حيث أن جرائم النظام الحاكم في ألبانيا الذي لم يكن يقارن بأي نظام شمولي في أوروبا الشرقية دفعت الطلاب والكتّاب الشباب الى كسر حاجز الخوف التاريخي وبروز أحلام بنظام ديموقراطي عادل، ولكن بعض هذه الأحلام على الأقل تحولت الى أوهام بفعل جرائم النظام التي بقيت آثارها مستمرة وأخطاء المعارضة بعد وصولها الى الحكم، وهكذا تحولت ألبانيا الى بلد "بين الجرائم والأوهام" لعله يفيد غيره بذلك.