الرئيسة \  واحة اللقاء  \  رسالة إلى الأمير السوري الصغير ورفاقه المهاجرين

رسالة إلى الأمير السوري الصغير ورفاقه المهاجرين

13.09.2015
عقل العويط



النهار
السبت 12/9/2015
 
أما وقد شارفت نهايتَها، حفلةُ التفجع عليكَ، وعلى أترابكَ، وعلى سكّان برّاد الموت الجماعي، من أهل الهجرة السورية القسرية، فأجدني لا أرثيكَ أيها الأمير الكردي الصغير، بل أرثي سوريا كلّها، وأحوالنا الشرقية مطلقاً، من بلاد ما بين النهرين حتى بلاد الشام وصولاً إلى بلاد الجليلَين اللبناني والفلسطيني.
 
ألم تكن تعرف أن العالم بلا قلب، وبلا ضمير! كان على والدكَ عبدالله، المنكوب بالفجيعة هذه، وعلى والدتكَ ريحانة، وشقيقكَ غالب، المستريحَين الآن معكَ، ومع سائر المهاجرين، أن تدركوا منذ أربع سنوات، وفوراً بعد الستة الأشهر الأولى من الثورة السورية البهية المجهضة، أن لا أمل لأحدٍ من المضطهدين والممعوسين والأحرار السوريين، ولا ضوء لهم يُرتجى، من "سوريا الأسد - الأبد"، ولا من التكفيريين، ولا خصوصاً من إدارة العالم. لقد سبق لهذا العالم نفسه أن مارس المهانة الوحشية العلنية نفسها، مشغوفاً بذبح فلسطين ولبنان والعراق، فكيف لا يشغف بذبح سوريا!
لقد خرجتَ أيها الأمير الصغير مع أترابكَ السوريين الذين خرجوا ولم يعودوا. كنتم كثراً وتشبهون الهواء. ذهبتم في الأوقات التي تلي رأفة منتصف الليل، وكانت العتمة شديدة الحلكة، حدّ أنكم نسيتم عيونكم حيث كنتم. لم تأخذوا معكم آثاراً تدلّ على عبوركم، ولم تتركوا وراءكم عطوراً توحي أنكم قد ترجعون. لم أشأ أن أوقظ نومكم لأنكم كنتم تحلمون. وقد ألقيتُ عليكم شغاف قلبي لكي لا تشعروا بالاغتراب، وألقيتُ بعضاً من أغصان النعناع والورد لإشعال الحدائق بالحكايات. عندما استيقظتم، أخذتكم الدهشة لأنكم لم تعرفوا كيف تحصدون سنابل الشمس في تلك الديار الغريبة، فآثرتم أن تعودوا إلى نومكم.
كنتم أطفالاً وكباراً، وكان ينبغي لكم أن تأخذوا معكم أشياء كثيرة، لكنكم آثرتم أن تكتفوا بالضحك كلّه، والنوم كلّه، وأرغفة الحياة المغموسة بدمع المهانة.
كنتُ أسأل نفسي كيف يمكنني أن أخاطب أمهاتكم وأنا لا أملك ضحكةً واحدةً تُخطرهنّ بأن الأولاد سيأتون بعد قليل. وكيف يمكنني أن أفعل شيئاً لذيذاً لهنّ وأنا لم يعد في مقدوري أن أطلب نجمةً واحدة تُرشد الأمهات إلى أول النوم أو إلى بعضه الكثيف، أو حتى إلى آخره المتلجلج.
عندما رأيتُكَ أيها الأمير الكردي الصغير نائماً على ذلك الشاطئ، ظننتكَ متعباً بعض الشيء من فرط الحرّ، وقد شئتَ أن تبلّل جبينك بأحلام الموج. لم أشعر بأنكَ بكيتَ قليلاً قبل أن تنام. أو بأنكَ أردتَ أن تبني لكَ ولأترابكَ كوخاً من رمل في ذلك المكان الغريب. جلّ ما فعلتُه أنني أحببتُ أن أرى عينيكَ المغمضتين لأرى جيداً مأساة الشرط الوجودي السوري في أزمنة المهانة هذه.
ليتني لم أفعل. لو تركتكَ مستلقياً على تراب مشقتكَ، لظللتُ موقناً أنكَ قد تستفيق من غفلتك المريبة. يا لسذاجتي!
قبل نومكَ كنتَ تضحك أيها الأمير، على ما قيل لي. أحدٌ ما، وعدكَ بسمكة تخرج من البحر لتلاعبكَ على الشاطئ، لكنها تأخرت كثيراً، فآثرتَ أن تستسلم للنوم. كان الصباح ثقيلاً عليكَ وكان مجحفاً في حقّكَ. لقد شئتَ أن تحلم فلم تعثر على مكان تطلق فيه العنان للطيف حلمكَ، فتركتَه في عهدة الموج الخفيف لئلا يذهب بعيداً ويضيّع الطريق. لكن الموج الخفيف من طبائعه أن لا يراعي أحداً بل يتعامل مع كل شيء وفق أمزجته وإيقاعاته. وهو في سبيل ذلك قد يأخذ كل شيء إلى البعيد المفجع، وعندما يعيده ينسى المكان الأول الذي كان فيه، فيركنه في أمكنةٍ أخرى غريبة وموحشة، بحيث لا يعود من الممكن استعادة الوقت الذي عبر قبل قليل، أو استرجاع رنين ضحكةٍ كانت مشغوفة بفتنة الياسمين.
يمنعني عنكَ أيها القتيل العزيز، وعن أمثالك من شهداء المصير السوري، أنني لم أعد قادراً على أن أرفع يداً في الهواء بعد عزوف الهواء عن رئتيكَ. كنتُ على وشك أن أصرخ طلباً للنجدة لكن صوتي آثر أن يبقى كتوماً فلم يصعد إلاّ الرحيق المملّع من حشرجاته الهشة.
عندما رأيتُك هناك، عكفتُ على اللامرئيّ من جروحكَ لأشمّها ولأجعل لها أمكنةً طريةً في ذكرياتي. وقد قلتُ لعواطفي إني آخذٌ بطفولتكَ إلى حيث أعثر لكَ على ضريحٍ لائقٍ في قعر الرأس. هناك حيث تقيم مشاعري والجمّ الكثيف من الخيبات ويطمئن الموتى والمفقودون من أهلي وأحبابي.
لن أجد لكَ مكاناً في العالم. أترابكَ الكثر يهيمون على نظراتهم في تعاسة الحضارة، غير مدركين أن النفوس أمّارةٌ بأقدارها. وهي، كأجسادها، لا ترضى بشعاعٍ لئيمٍ، كالضئيل الشعاع الذي كان يتسرّب مسموماً إلى تلك الشاحنة - البرّاد التي أقلّت سوريين، من شقوق الموت المبعثرة في الأنحاء.
إنه العالم، أيها الأمير الصغير، وهو حيوانٌ لئيم. العالم هذا، لم تعد تؤلمه أقدار الشعوب المفجعة. إنه معنيٌّ بأشغاله أيها الجميل اللطيف كشعوذات الندى الممطرة في الجميل الفجر. ليس لعالمٍ أن يفتح لكَ نافذة تطلّ منها على غد الأطفال. فلن يكون لكَ مكانٌ بين هؤلاء. صدِّقني. لا أستطيع أن أكذب عليكَ، أو أسمح لأحد بأن يوهمكَ بأن الفجر سيطلع بعد قليل عليك. ما من فجرٍ لكَ بعد الآن سوى بين الضرائح التائهة في رأسي. في مقدوركَ هناك أن تعثر على كائنات لطيفة، وعلى أوجاعٍ وجودية، وكوابيس، وأسرار، وكلمات. ما أصعب الكلمات حين تكون مجروحة بصفاء الموت. من شأنها أن تأوي إلى صمتٍ يشبه أحوال السكارى المفجوعين بهلوساتهم المريرة.
لكنكَ مستريحٌ هناك، في حين أن والدكَ الكليل لا يزال غير مصدِّق بأنكَ نائمٌ، وشقيقكَ وأمّك، نومتكم المديدة، وهو قد رأيته للتوّ يبحث في الخرائب عن قميصٍ زائغ بين العينين المرتدّتَين على أضغاثهما. أعرف أين هي أمّكَ في هذه اللحظة بالذات، وماذا سيفعل شقيقكَ غالب بنهاراته ولياليه. يحزنني أنني لا أملك ثياباً ناشفة من الدموع. أو حذاءً من شأنه أن يسعف قدميكَ الرخوتين. كما يحزنني أن لا أستغيث لاعتقادي ان لا أحد يأبه لاحتجاج كهذا.
من وراء عينيكَ الرافلتين بالعتمة، ألمح سوريا كلّها، بين أنياب الأسد المهيض، وبين أنياب الوحوش التي تقف في الجهة المقابلة، وألمح نساءً وفتياتٍ وأمهاتٍ سوريات، في أيديهنّ شموسٌ وأقمارٌ ودموع. أيكون في مقدور الكلمات أن تظلّلهنّ والبلاد برأفتها. أم يكون في مقدوري أن أرتّب لهنّ من نسيج قلبي المناديل التي يتفيّأن بأشعارها.
أيها العالم الجبان، أيها الرئيس المخلوع الجبان، أيها التكفيريون الجائرون، أنا اللبناني الموصول بجروح المصائر والأقدار الشرقية المشتركة، أحتقركم وأبصق عليكم. كنتُ قد وعدتُ نفسي بأن أرسل إلى الآمهات والآنسات السوريات فضائل الخزامى واليانسون ليبلسمن الليالي برحيقها. لكني لم أعثر على مرآة إلاّ مغمسةً باليأس والدم.
في مقدوري أن أكتب بانسحاقٍ غاضبٍ ومرير، لكنْ بجموحٍ في الحبّ والفروسية. في مقدوري أيضاً وخصوصاً أن أكتب، ويجب أن أفعل دائماً، ضدّ اليأس. أكتب لأشهد ضدّ هذا العالم. سلامٌ من قلبي إلى العذاب السوري العظيم! وسلامٌ إلى الأحرار!
* * *
 
... أما اللبنانيون، المستغرقون في أفكارهم ونفاياتهم ومياههم الآسنة، والممعنون في انقساماتهم واقتتالاتهم الكريهة، والمشغوفون - بعنادٍ مذهل، وكلٌّ على طريقته الفذة - بمعاييرهم وأساليبهم وحلولهم المستحيلة، فقد لا يعرفون ربما أن الحرب التي خاضوها في الربع الأخير من القرن الفائت، ولا تزال مفاعيلها المأسوية مستشرية في أوصالهم وأوصال البلاد، هم على وشك أن يستأنفوها. ولات ساعة مندم، عندما يعاودون الكرّة!
* * *
كلما أمعنتْ امرأةٌ في ابتعادها، أو في غيابها، أمعنتُ في الإقامة في أسفل رأسي!