الرئيسة \  واحة اللقاء  \  رسالة مواساة إلى أم عباس خان

رسالة مواساة إلى أم عباس خان

25.12.2013
عيسى الشعيبي


الغد الاردنية
الثلاثاء 24/12/2013
كم وددت لو أني سمعت بالحكاية أو قرأت عنها. غير أن سوء الطالع كان لي بالمرصاد، حين شاهدت على الشاشة حطام امرأة بريطانية، من أصول هندية، تتحدث بكلمات تخالطها الدموع ويعلوها النشيج عن موت ابنها البكر في أحد مقرات الأمن السورية، قبل يوم واحد من موعد الإفراج عنه، وفق ما كان قد تقرر عبر سلسلة من الاتصالات والوساطات المكثفة، قام بها أساساً النائب البريطاني الشهير جورج غالوي، صاحب المنزلة الأثيرة لدى النظام الممانع.
كانت فاطمة خان، أم عباس، تغص بين كل جملة وأخرى وهي تروي بعضاً من فصول مأساة ذلك الطبيب الشاب، الذي تأثر بهول المشاهد التي لم تنفك عن بثها شاشات التلفزيون منذ أكثر من سنتين، فحمل مبضعه وقسم أبقراط، وذهب لمعالجة المصابين في حلب. ولم يمض على مكوثه في ذلك الموضع الرهيب من الجحيم السوري سوى بضعة أيام، حتى قبضت عليه مفرزة أمن سورية، أودعته في أقبية التعذيب، أو قل المسالخ البشرية، بتهمة معالجة "الإرهابيين".
ويبدو أن السيدة المفجوعة بمقتل ولدها، وهو أب لطفلين صغيرين، كانت تحت تأثير أشد ترويعاً من القتل ذاته، عندما عممت السلطات السورية نبأ انتحار عباس في زنزانته لحظة استلامه؛ وكأن لسان حالها يقول: لقد قتلتم ابني مرتين، وحطمتم قلبي المحطم من جديد. فمن يصدق أن سجيناً كان يترقب موعد خروجه من الأقبية الباردة النتنة المعتمة، يقوم بإنهاء حياته التي دب فيها الأمل مؤخراً، بالعودة إلى حضن عائلته الصغيرة، ومعانقة ولديه، ومن ثم استعادة حريته؟!
وليس لدي شك في أن عويل هذه الأم الثكلى قد بلغ مسامع كثير من الأمهات السوريات اللواتي لم يحظين بفرصة مماثلة مع الإعلام المرئي، لسرد حكايات قد تكون أشد هولا مما وقع لأم عباس خان وابنها، في عدد لا يحصى من السراديب المماثلة، حيث ماتوا تحت التعذيب، بعد أن تعرضوا لقلع الأظافر، والانتهاكات الجنسية، والصعق الكهربائي، وأصناف أخرى من الترويع لا تتفتق عنها إلا خيالات أناس لم يرتقوا بعد إلى مصاف الإنسانية، إن لم نقل إن الوحوش الضارية هي أرحم منهم مع الطريدة.
وأرجو حقاً ألا تكون السيدة فاطمة خان قد سمعت ما قاله نائب وزير خارجية النظام، في رده على سؤال لمراسلة غربية استفسرت من فيصل المقداد عن سبب "انتحار" الطبيب الموعود بإطلاق سراحه؛ إذ قال إن السبب سوف يدفن مع الجثة. وأكد أنه عومل في معتقله "معاملة لطيفة"، وأنه لا وجود لشبهة قيام مرجع أمني بمخالفة تعهد رئاسي بالإفراج عن الطبيب المعتقل؛ إذ كان جورج غالوي يود استثمار الواقعة في حقل العلاقات العامة، لإعادة إنتاج صورة طبيب العيون في الفضاء الغربي، بعد أن تدمرت تلك الصورة المزيفة.
إلا أنني أرجو، في المقابل، أن تعلم أم عباس خان، ولو في وقت لاحق، أن مسألة انتحار المسجونين في سورية الأسد مسألة قديمة؛ وأنه لكثرة حدوثها باتت تثير السخرية المريرة، حتى قيل إن رئيس وزراء سابق في عهد الأب، اسمه محمود الزعبي، انتحر بطلقتين أفرغهما في رأسه، لسبب دُفن هو الآخر مع الجثة الهامدة، تماماً على النحو الذي انتحر به غازي كنعان صاحب السلطة المطلقة في لبنان أيام الوصاية السورية، وغيرهما ممن ارتكبوا بحق أنفسهم ذات الفعلة، جراءالاشتباه بضعف ولائهم لسيد اللعبة المافياوية.
ولا يجد المرء كلاماً مناسباً لتعزية السيدة فاطمة خان، يعادل حرارة دمعها والتياعها، أو يوازي حس الأم بفقد فلذة كبدها. غير أنه يمكن القول إن فجيعتك أيها السيدة المكلومة ما هي إلا قطرة في جدول ما يزال يترقرق بدموع أمهات سوريات بالآلاف المؤلفة، تقطعت نياط قلوبهن مثلك، بكين على حالهن، وأبكين كل من لديه ضمير إنسان سوي، إلا تلك القلّة القليلة التي ترى أن ذلك كله يمكن غض البصر عنه والتسامح معه، بل وتبيحه في سبيل الدفاع عن قلعة الممانعة، والذود عن ثقافة البراميل المتفجرة، ومن ثم هزيمة المؤامرة الكونية.