الرئيسة \  واحة اللقاء  \  رشاوى الصفقات الدبلوماسية بدائل عن حقوق الشعوب الثائرة!

رشاوى الصفقات الدبلوماسية بدائل عن حقوق الشعوب الثائرة!

12.11.2013
مطاع صفدي



القدس العربي
الاثنين 11/11/2013
يرفض عرابو جنيف (2) أن يكون مؤتمرهم ذاك غير قابل للنجاح منذ البداية، فقد أعلنوا عن مواعيد لعقده عدة مرات، واضطروا إلى تغييرها. ثم عندما عزموا على تحديده نهائياً في نهاية الشهر الحالي، أجبروا سريعاً على إلغاء الموعد، بحجة التأجيل، صار الوسيط الإبراهيمي، وسيطاً للتبشير فحسب بحتمية المؤتمر كما لو كان سيأتي حاملاً لمعجزة ما، يدعوها بالحل السياسي للمقتلة السورية المستعصية، إلا أن هذا الدبلوماسي المحنك والمجرب يعلم في قرارة نفسه أن مؤتمره العتيد ذاك بات عملياً مؤجلاً إلى موعد غير مسمّى، حتى لو تحقق له يوماً شكلٌ ما فلن يكون أكثر من تظاهرة مصطنعة، فقد يحضره أقطاب كثر، دوليون وإقليميون، ويغيب عنه، رجال الثورة الحقيقيون، فماذا سيفعل كل هؤلاء الناس (الأغراب) إن غاب عن موائده العامرة الملتبسة أصحابها المدعوون الأصليون.
الإبراهيمي لا يزال مصمماً كما يبدو على التمسّك بمن دعاهم بممثلي المعارضة المقنعة، لذلك حين أعلن عن إلغاء موعد المؤتمر عزا الأمر إلى أن هذه المعارضة تعاني من (مشاكل كثيرة) حسب تعبيره، لم يقل شيئاً عن السبب الحقيقي، لم يقل أن المعارضة المقنِعة ليست مقتنعة بعْد بجدوى هذا المؤتمر، فليست هي الحجة الذائعة عن تشرذم الفصائل وخلافاتها هي المعرقلة للتدابير الدولية من نوع الموتمر وسواه، بل لأن النواة الحقيقية والصلبة لعلة هذا التأجيل المضطرد هو أن ثورة الشعب السوري لاتزال مستعصية على عمليات استيعابها تحت عباءة الصفقة الأمريكية الروسية، إذ يدرك ثوار الميادين المقاتلة أن صيغة جنيف (2) مصنوعة لاغتيال سابقتها المتمثلة في قرارات جنيف (1) على العكس من كل ادعاء دبلوماسي يريد أن يصور المؤتمر الثاني كأنه سوف يجترح الإجراءات العملية لتحقيق تلك القرارات، فالصفقة الدولية لم يكن لها أن ترى النور لو لم تكن أجندتها الضمنية تنصّ على بند واحد، هو الإجهاز على ثورة سورية، من دون أية مكاسب عامة لشعبها وقادتها، هذا البند لعب، حتى اليوم، دور الرشوة السياسية الغادرة التي تبرعت بها أمريكا لإيران من أجل أن تقدم هذه الدولة بعض التنازلات الشكلانية في معضلتها النووية، واستعادة المفاوضات مع الغرب إجمالاً؛ هنالك أكوام من مصالح متعددة بل متضاربة، يتم تبادلها بين أقطاب الصفقة، الظاهرين منهم والمتوارين، لكن الجميع متهافتون على اختطاف حصص رشاوى منتزعة من أرصدة الثورة الميدانية السورية، ومن لحم وعظم شهدائها وأبطالها المجهولين.
تسلك دبلوماسية (أوباما)، بعد انقلابه الدولي من منهج الحروب بالضربات القاضية، إلى منهج التفاهمات الدبلوماسية على قاعدة المقايضة بالمصالح كرشاوى تشتري المواقف المتبادلة. غير أن المفارقة الكأداء التي تواجه أقطاب الصفقة الراهنة حول سورية. هي أن أحداً منهم لا يمتلك إلا النزْر القليل من (البضاعة) التي يتخاطفون مصيرها. فإذا كان القطب الروسي قادراً على التأثير في سلوك حليفه (الأسد)، لا يمكن لأمريكا أن تنعم بمثل هذا الامتياز إزاء، تيارات الثورة السورية، بعد أن تجاوزت حدود تنظيماتها لتصبح حالة شعبية معقدة ومتشابكة، لمن يكون بمقدور أية فئة من قادتها في الداخل أو الخارج، أن يتنطع للنطق باسم سورية الثائرة، أو المنكوبة، أو المحترقة. فالقرارات الدولية التي ستهبط على رأسها تحت عناوين اتفاقات أو مصالحات أو تفاهمات مع قاتليها ستذهب أدراج الرياح، هذه حقيقة بديهية، لن تغيّر منها أيةَ سلطة عليا لا تتمتع إلا بقوة الصَلَف الدولي وحده؛ لذلك مهما تتابعت أنماط الحراك الدبلوماسي، فلن تشكل قراراتها سوى غيوم عابرة في سماء القضايا المركزية لشعوب المنطقة، وتحديداً لشعوب بلاد الشام والعراق، فالمنطقة بأمرها منخرطة في نوع مختلف من حركات التحرير الوطنية التي يمكن نقلها من الصفة الوطنية والسياسية وحدهما إلى الصفة الاجتماعية بل الوجودية، إنها تخوض صراعات التحرر من سلاطين أساطيرها المترسّبة في العميق من سلوكها الفردي والجمعي.
الدبلوماسيات التقليدية المتحكمة في الفهم والتصرف السياسي لقادة الغرب لا تفهم، أو لا يريد أقطابها أن يفهموا ما تعنيه هذه النقلة في البُنية العميقة للتطور العربي المعاصر، لذلك لا يكفون عن تكرار حلولهم التقليدية ماداموا مصرّين على أن يظلوا فاعلين ومؤثرين ومتدخلين. وهم اليوم يفرضون لتدخلهم الاعتباطي أشكالاً من الشراكة القسرية على التحولات الكبيرة المحلية، اعتقدوا مثلاً أن عصر الربيع العربي لن يأتي مضاداً لعصرهم، إن هم بادروا سريعاً إلى التطفل على مجرياته بشتى وسائل البراعات المتراكمة في ذاكرتهم الاستعمارية التقليدية. مازالوا واثقين خاصة بالنجاعة اللامحدودة لمبدأ (التفْرقة) وتقنياته المتنوعة، باعتباره يأتي في رأس التدابير المجرّبة، وسوف يحتاجه كل سيناريو هادف إلى تفتيت كل ما هو ذو طابع جماعي كتلوي، سواء كانت مفرداته أحداثاً عمومية مداهمة، أو جماعات بشرية صاخبة مائجة؛ هذا مع العلم أن عوامل التفرقة كامنة في أنسجة الأحداث وأصحابها من البشر أولاً، قبل أن يخترعها وينظمها مهندسو التخريب السياسي والبنيوي.
وفي اللحظة الراهنة تفتك هذه الهندسة الخبيثة في كيانات الثوار العربية، وتبرز سورية كأخطر مسرح مشرقي، تعبث بثورته رياح التمزيق والتفريق والشرذمة، لن يكون لدبلوماسيات المؤتمرات، في جنيف أو سواها، ثمة من أدوار إلا أن ينضم أفرقاؤها، مع قراراتها، كعناصر أخرى من عناصر هذا المسرح. لن تكون لهم مهمة اختتام التراجيديا، وإسدال الستار على المسرح. هذا بالرغم من الحاجة الملحّة التي تدفع بالقطبين الأمريكي والروسي خاصة، إلى الانتهاء من براكين الثورة السورية ومضاعفاتها المحلية والإقليمية، تمهيداً لتركيز خارطة جديدة من توازن القوى في المنطقة، تكون بديلة عن خارطة ‘سايكس بيكو’ العجوز المستنفدة. كل ما يخشاه زعيما العالم، أوباما وبوتين، هو أن تتساقط صفقتهما المشتركة، المدعوة بصفقة القرن الواحد والعشرين، في حضيض خاتمة فاشلة مفروضة على الأزمة السورية، بدءاً من إغلاق ميادين القتال التي لن تغلق عملياً، ما يعني أنه مثلما كانت الثورة السورية ـ خلال العدوان الأسدي بالكيماوي ـ هي المدخل إلى صفقة الزعيمين، فهي ستكون كذلك هي المدخل الثاني إلى نكسة هذه الصفقة وبداية تهلهلها، حينما لن تستسلم الثورة لأية نهاية تتساقط على رأسها من فضاء.. العالم.
ربما يتخيل بعضهم مثل هذه النتيجة البائسة، ومن أجل تفاديها ولاشك تتضاعف حركيات الدبلوماسية من قبل أطرافها الرئيسيين جميعاً، إنهم ينشطون جاهدين، عاملين على دعم الصفقة الزعامية الأولى، بهذه الصفقة الأخرى بين المجتمع الدولي وإيران، ما أن يوضع حد سلمي لنشاطها النووي تمهيداً لإعادة تأهيل الدور القديم لإيران ماقبل الثورة، كوكيل أمين لاستراتيجية الغرب في ضبط الشرق العربي؛ كأن إعادة التأهيل هذه أمست بيتَ القصيد من كل هذا الصخب الهائل الذي يعم دوائر صناعة القرارات الدولية المصيرية المحتكرة حتى هذا اليوم بأيدي زعيمين، أحدهما يصفّي إمبراطورية أمريكا، والآخر يبعث إمبراطورية القيصرية الروسية البائدة.
يصير السؤال إذن عما سيحدث للآخرين، لهؤلاء العرب، الذين يكادون يعيشون هوامش وجودهم وهم في الصميم من هذا الوجود كما يتصورون، من هنا قد نفهم غضباً عربياً فجائياً، ربما فات أوانه أو كاد، ومع ذلك قد يكون صراخ الغضب أحياناً أفضل من كبته والانطواء على جروحه النازفة؛ عسى أن يصبح لهذا الغضب ثمة جسد هائل يوماً ما، بدلاً من أن تضيع أصواته القليلة النادرة في فضاء صحارينا المجدبة..
 
‘ مفكر عربي مقيم في باريس