الرئيسة \  مشاركات  \  رقة قلوب ورهافة أذواق

رقة قلوب ورهافة أذواق

10.11.2015
إبراهيم العجلوني





جمع رسول الثورة الفرنسية نابليون بونابرت ثلاثة آلاف يافاوي على شاطئ المتوسط, وأمر عساكره بقتلهم جميعاً, بعد أن كان اعطاهم الامان. ولم يرف له رمش وهو يأخذ قراره بتصويب نيران البنادق والمدافع الى صدورهم.
واحرق ورثة نابليون في هذه النزعة الانسانية (!) آلاف الجزائريين في الكهوف دون تردد, وتوالت منهم مواقف (الحرية والاخاء والمساواة) في سوريا والمغرب وتونس وفي اقطار افريقية اخرى, على نحو جعلنا نحن العرب والمسلمين نفهم المعنى الحقيقي لرسالة فرنسا في العالم. وكذلك هو الامر في بريطانيا ووريثتها في (الانسانية) الولايات المتحدة, وايطاليا, واسبانيا, وغيرها من دول «العالم الحر» الذي يهتم بحقوق الانسان, وحقوق المرأة, وحقوق الطفولة وغير ذلك من معجبات الحقوق.
ملايين من البشر في اسيا وافريقيا وامريكا تمت ابادتهم تحت رايات الاخاء والحرية والمساواة وحقوق الانسان.
حتى القاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي وجد من يتعاطف انسانياً (على الطريقة الغربية) معه, ومن يكتب عن (القلق الوجودي) الذي انتاب الطيار الاميركي الذي قضى, في دقائق معدودات, على مئات الآلاف من اليابانيين, وجعل اراضي شاسعة من بلادهم قاعاً صفصفاً وصعيداً جرزاً..
ففي مقالة لنعوّم تشومسكي - الذي يبدو لبعضهم مثال الموضوعية - نجده يثمن لحظات القلق التي انتابت الطيار الاميركي قبل الجريمة الفادحة, وكيف أنه ارتبك وتردد ثم حزم أمره, ثم نفذ ما قد يكون رآه دفاعاً عن «الحضارة» أو بالاحرى عن الرأسمالية التي تريد لتحكم العالم كله وتشكمه وتتمتع بخيرات شعوبه.
انها مواقف رسل «الانوار» الغربية يسجلونها بالذرة والحديد والنار, ويضحون على مذبحها بملايين من العرب والمسلمين والزنوج والهنود الحمر وغيرهم.
ثم إن تهمة «التطرّف» و»الوحشية» و»الكراهية» لا توجه الى احد من مرتكبي هذه المجازر. إذ هي مقتصرة على العرب والمسلمين. هؤلاء الذين نجد في تراثهم الاعتقادي (على سبيل المثال الدال) ان «اطفالهم واطفال مخالفهم من المشركين في الجنة» كما نقرأ في تاريخ فتوحاتهم التي كانت في حقيقتها تحريراً للشعوب, أن «العدل» و»الرحمة» و»الرفق» هي السمات التي تحلّوا بها. كما أنهم كانوا, وحدهم قديماً وحديثاً, هم اصحاب الدعوة (بالحكمة والموعظة الحسنة) الى كلمة سواء قوامها حرية الانسان «أن لا يتخذ بعضنا بعضاً ارباباً من دون الله» وكرامته «وكرّمنا بني آدم».
لقد صقل الاسلام أنفس العرب بحيث صار يؤرقهم مصير الاطفال في الآخرة. وصار مما يتجادلون فيه ويتناظرون, حتى إن «المعتزلة» اجمعوا على انه «لا يجوز أن يؤلم الله سبحانه (تعالى الله علواً كبيراً) - كما جاء في «مقالات الاسلاميين» للامام الاشعري - الاطفال, في الآخرة ولا يجوز أن يعذبهم, سواء أكانوا اطفال المسلمين أم اطفال غيرهم من البشر..
تلك رقّة قلوب ورهافة أذواق لم يعرفها نابليون وهو يُبيد ثلاثة آلاف فلسطيني عن آخرهم على شاطئ يافا بعد أن حَلَفَ لهم بمبادئ الثورة الفرنسية على الامان، ولم يعرفها طيار هيروشيما وناجازاكي، ولم يعرفها الاستعمار الانجليزي ولا الايطالي، ولا اي استعمار غربي ولَغَ في دماء الشعوب باسم التحضر والمدنية والتفوق وما شئت بَعْدُ من أكاذيب.
إن تاريخا حقيقيا للحضارة ينتظر ان يُصار الى كتابته، فإن كان ذلك، ولا بد ان يكون، بعد ان تتابعت نُذُر انهيار الغرب اخلاقيًا - وهو اول انهيارات الامم - فإن العرب والمسلمين هم اولى الناس بأن يكتبوه او بان يُملوا على المؤرخين المنصفين فصوله.
لقد سقطت اقنعة الحضارة الغربية وتبدّى عُريها حتى للحكماء من ابنائها قبل الضحايا من شعوب الارض التي بدأت تصحو من ضعفها وانبهارها وتكف عن مضاهأة مستعمريها وجلاديها.. وثمة تباشير فجر للانسانية يلوح، وثمة وعود ومبشرات وثمة عِبَر ومَثُلات ودروس لمن يعقلون.