الرئيسة \  واحة اللقاء  \  فرنسا وسورية: ثورة ذوي السراويل الطويلة

فرنسا وسورية: ثورة ذوي السراويل الطويلة

07.08.2013
مازن كم الماز

القدس العربي
الاربعاء 7/8/2013
لم تكن الثورة السورية ثورة بيضاء، بل كانت دموية بامتياز، ربما بنفس درجة سابقتها، الثورة الفرنسية .. دفع هذا بالكثيرين ممن يدعون تأييد أفكار وشعارات كتلك التي رفعتها الثورة السورية في الحرية ووقف استباحة المجتمع لصالح سلطة ما إلى التذمر من تحولاتها تلك أو ‘أخطائها’ ..
حدث هذا من قبل في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر: كثيرون ممن رحبوا بالثورة الأمريكية اتخذوا موقفا مغايرا من الثورة الفرنسية، إما أنهم انتقدوا دمويتها أو وقفوا ضدها .. يمكن طبعا الاستطراد طويلا عن مبررات تطور الثورة السورية نحو هذا المسار الدموي : النظام نفسه، الأكثر وحشية ودموية حتى من نظام لويس السادس عشر، وخصوصيات الوضع السوري الداخلي وطبيعة حلفائه وأعدائه الإقليميين الخ..
لا شك في أن كل تلك العوامل كانت مؤثرة بالفعل في دفع الثورتين السورية والفرنسية نحو مسار أكثر دموية من مثيلاتها، لكن هناك أيضا عاملا آخر، لا يقل أهمية ربما، هو الدور الفاعل في كلتا الثورتين لمن كانوا يسمون في فرنسا 1789 بذوي السراويل الطويلة، البروليتاريا الباريسية الفقيرة، ونظرائهم المهمشين السوريين .. على غرار الثورة السورية، لم تكن الثورة الفرنسية ثورة ‘واحدة’، بل كانت ثورات .. التقت في المعسكر الثوري قوى اجتماعية مختلفة بل متناقضة في كثير من الأحيان، كان هناك ذوو السراويل الطويلة، الفقراء، الثوريون ‘المتطرفون’، وذوو السروايل القصيرة، الحريرية :
البرجوازيون، الثوريون ‘المعتدلون’ .. بينما دعا الأولون إلى موقف أكثر حزما من ‘النظام القديم’، وإلى شكل أقل نخبوية وأكثر شعبية من الديمقراطية، ورفعوا مطلب العدالة الاجتماعية، وطالبوا بأسعار منخفضة وثابتة للمواد الغذائية وبفرض ضرائب ضخمة على البرجوازيين، دعا الأخيرون إلى ديمقراطية تمثيلية تضع السلطة في أيديهم ‘نيابة’ عن الشعب وإلى سوق ‘حرة’ من أية قيود … يتهم مؤرخو الثورة الفرنسية ذوي السراويل الطويلة بأنهم كانوا وراء كل المجازر والمشاهد الدموية في تلك الثورة، خاصة مشاهد قطع رؤوس الأرستقراطيين ورجال الكنيسة وعرضها علنا في الميادين .. صحيح أن ذوي السراويل الطويلة تعاطفوا مع القمع الذي مارسه اليعاقبة، روبسبير وسانت جوست، ضد الملكيين والجيرونديين أنصار المساومات مع النظام القديم وأعداء أي تغيير جذري في العلاقات السياسية والاجتماعية السائدة، لكن ذوي السراويل الطويلة لم يدعموا اليعاقبة بالمطلق بل كانوا يعارضونهم في الواقع، يعارضون ترددهم أو رفضهم لتطبيق سياسة اجتماعية تقوم على العدالة وعارضوا أيضا محاولة اليعاقبة فرض دين جديد مؤسساتي مكان الكنيسة الكاثوليكية، عبادة الكائن الأسمى كما سماه روبسبير .. لم تكن مؤسسات السلطة الجديدة، كلجنة السلامة العامة اليعقوبية هي التي تعتمد على دعم ذوي السروايل الطويلة، بل كومونة باريس التي أصبحت معقلا للقوى التي كانت على يسار اليعاقبة، خاصة مجموعة الغاضبين، وكذلك أتباع جاك هربرت الأكثر ‘اعتدالا’ .. وخلافا لمحاولة المؤرخين البرجوازيين وصف القمع الذي مارسه اليعاقبة بأنه كان عنفا ثوريا وأنه كان موجها في الأساس ضد خصومهم اليمينيين من ملكيين وجيرونديين ،
فإن ما جرى في الواقع هو أن اليعاقبة قد مارسوا القمع بنفس الحماسة والشراسة ضد القوى الواقعة على يسارهم والتي كانت أقرب إلى ذوي السراويل الطويلة، وضد ذوي السراويل الطويلة بالذات .. انتحر جاك رو زعيم الغاضبين بينما كان ينتظر محاكمته التي كان من المتوقع أن تنتهي بإعدامه على مقصلة روبسبير، وحتى جاك هربرت وغيره من قادة التيار الثوري الأكثر ‘اعتدالا’ من ذوي السراويل الطويلة قضوا على مقصلة روبسبير نفسها.. كان قمع اليعاقبة قمعا مؤسساتيا، ممنهجا، دولتيا، وكان رمزه سلطويا بامتياز: المقصلة، على العكس من مجازر ذوي السروايل الطويلة، الطقسية والعفوية، والتي كان الشارع مسرحها ورمزها الرئيسي .. أقضت تلك المجازر مضاجع الجميع، وأثارت مخيلتهم في ذم وحشية ذوي السروايل الطويلة، كما في كل مرة يقتل فيها البشر بعضهم البعض، ليس بأمر من نخبة أو سلطة ما، وليس في سبيل قضية ‘سامية’ ما، كما في معظم حروب ومجازر
البشرية طوال آلاف السنوات المنصرمة .. بالعودة إلى الثورة السورية، لا شك أن للنظام السوري النصيب الأكبر في دفع هذه الثورة إلى أن تصبح ثورة مسلحة ثم صراعا أشبه بحكايات كافكا الغرائبية السوداء والعبثية، لكن الدور الرئيسي لذوي السروايل الطويلة السوريين في هذه الثورة كان أيضا عاملا مساعدا إن لم يكن رئيسيا في هذا التحول … كما أن الثورة الفرنسية لم تكن تحققا لنبوءات فلاسفة التنوير، بل أقرب إلى خيالات الماركيز دي ساد عن طقوس عنف منفلتة، كتلك التي وصفها في كتابه 120 يوما في سودوم، فإن الثورة السورية لم تكن تجسيدا لأي من إيديولوجيات القوى السلطوية من الماضي، على العكس تماما.. ليس فقط أن الثورة السورية ليست ثورة ‘إسلامية’، بمعنى أنه لم يكن لرجال الدين أي دور حقيقي في إطلاقها أو استمرارها، بل أكثر من ذلك، أنها ليست ثورة نخبوية، لقد كانت في
تيارها الأكثر فاعلية ثورة شعبية، ثورة ذوي السراويل الطويلة .. ولهذا تحاول القوى ‘الثورية’ السلطوية لجم تلك القوى التي انفلتت من عقالها في آذار/مارس 2011 بأساليب مختلفة، بمحاولة تأطيرها أو تكميمها بإيديولوجيا نخبوية أو بآليات سيطرة نخبوية كصناديق الاقتراع، تحاول النخب أن تكرس فكرة أن هدف ذوي السراويل الطويلة السوريين من صراعهم المرير مع مضطهديهم الحاليين هو إنتاج السلطة التي سيخضعون لها وفقا للطريقة البرجوازية التقليدية: التنافس الحر بين النخب على السيطرة على مؤسسات القمع المرتبطة بالدولة، وبالتالي السيطرة على المجتمع .. تكمل هذه المحاولات من النخبة عملية التبقرط الواسعة التي تجري بتسارع بين قادة الثائرين السوريين، الذين يتحولون بسرعة اجتماعيا وإيديولوجيا إلى جزء من النخبة، ومعها عملية قلب التدين الشعبي العفوي والثوري ضد سلطة غاشمة استعملت قناعا وشعارات ‘علمانية’ لإخفاء أو تجميل استبدادها إلى دين مؤدلج دوغمائي كهنوتي، سلطوي.