الرئيسة \  واحة اللقاء  \  روح الوطنية السورية

روح الوطنية السورية

01.06.2016
د. طيب تيزيني


الاتحاد
الثلاثاء 31-5-2016
في هذه الأيام السوداء يطلع علينا البعض يوماً بعد آخر ليبشر بسوريا جديدة أو "سوريا مفيدة".. إلخ، معلناً أن التحول والتطور التاريخيين لهما حق الاعتراف بهما، وبما تضخه نتائجهما ومدخلاتها من قبل من يرغب الاستمرار في العيش، كائناً من كان، وفي المذلة وهدر الكرامة، إذا اقتضى الأمر! ولكن "ما هكذا تورد الإبل" أيها السامعون والعارفون، وما هكذا يصنع بالأوطان وبالشعوب، بل لدينا مثال فريد في عمقه ونبله هو ذاك الذي قدمه إلينا رئيس مجلس البرلمان السوري في حينه، الرجل الوطني الكبير فارس الخوري، فهذا السياسي المرموق رفض طلباً وجه إليه من فرنسا تدعوه فيه إلى قبول "تشريفه" بحماية فرنسا له بمثابته "مسيحياً". لقد أجاب طلب الغزاة السابقين بتأكيده على أنه يحتمي بوطنه سوريا بكل طوائفها وإثنياتها وأعراقها، كثيرين كانوا أو قليلين، بحيث إنه كان لفترة ما على رأس إحدى المؤسسات الإسلامية الشرعية.
وقد جاء ذلك كله رداً على المشروع الفرنسي البريطاني الاستعماري بتقسيم سوريا عام 1916، ذلك المشروع الذي حمل تسمية "سايكس- بيكو" والذي أتى في أساسه بوصفه ثمرة مؤامرة دولية إجرامية، ولكن الشعب السوري الأبي ناضل ضد هذه المؤامرة، وأسقطها ومرّغ أنوف الاستعمار وأتباعه في الرغام، وعمل بكل مكوناته من أجل تحقيق استقلال بلده، فكان له ذلك.
أما المفارقة الفظيعة التي راح شعب سوريا يواجهها في أيامنا هذه، وفي ما قبلها فقد تمثلت فيما حدث مرافقاً للوحدة السورية المصرية، أي لحلم السوريين والعرب جميعاً، ونعني إنهاء المجتمع السياسي المدني في سوريا الذي تمثل خصوصاً بتفكيكه، أي بتفكيك المجتمع الذي كان عليه أن يحمي الوحدة الناجزة ويطورها ويجعلها نموذجاً حياً لوحدة محتملة للعالم العربي.
لقد سقطت، في هذا وذاك، الوحدة بين القطرين، وفتحت أبواب جهنم مجدداً في القطرين المعنيين، وأعادت النزعات القطرية في بلدان عربية أخرى إلى سابق عهدها. وتحت هذه النزعات الانفصالية عادت إلى سوريا الانقلابات العسكرية، لتنهي ما تبقى من حراك وطني وقومي باسم "قانون الأحكام العرفية رقم 617". أما الناتج الذي تمخض عنه ذلك كله، وغيره فقد تمثل في ثنائية "إغلاق الداخل على نفسه، وفتحه على الحدود مع الخارج".
ذلك ما انتهينا إليه غير عالمين أو عالمين بأن هذا يعني ضمن ما يعنيه بذور كثير من مظاهر الإخفاق اللاحق، أما المأساة التي قد تتجاوز كل مآسي التاريخ العربي، فربما لا يدرك بعض من يدخل غمارها مبدأ وسياقاً وناتجاً، وهذا بدوره خط عريض من خطوط هذه المأساة، وهنا نواجه بلاءً أو البلاء الأعظم. وفي التعليق على هامش ذلك، فإنه يتشخص، بكل مفاعيله واحتمالاته وآفاقه، في الحكمة الشعبية العميقة، التي يدركها الجميع، وتعلن نعم ها هنا بالضبط، وهذا البلاء الأعظم.
نحن ومعظم الناس داخلاً وخارجاً نعلم أن الشعب الذي أبدع الأبجدية في بدايات التاريخ العالمي، إنما هو الشعب السوري العربي، فهو بقدر ما هو مبدع لما صاغه أداة خلاقة للإبداع الإنساني الملخص بمعرفة طريق الإبداع، هو كذلك شعب يحب السلام للجميع مع الكرامة والحرية، فهو لا يعتدي على أحد، ولكنه كذلك وبالتشديد نفسه، لا يسمح لأحد أن يعتدي عليه من حيث هو شعب يملك قراره بيده.
ها هنا، نرى أن الحكيم هو من يدرك حق الشعوب في تقرير مصيرها، والشعب السوري يعلن بأسى وبكل المسالمة أن التدخل في شؤونه إنما هو من الكبائر العظمى:
حماة الديار عليكم سلام...... أبت أن تذل النفوس الكرام
عرين العروبة بيت حرام..... وعرش الشموس حمى لا يُضام