الرئيسة \  واحة اللقاء  \  روسيا العائق الرئيس أمام إنهاء المأساة السورية

روسيا العائق الرئيس أمام إنهاء المأساة السورية

06.03.2014
أ. د. صالح بن محمد الخثلان


الرياض
الاربعاء 5/3/2014
    كنت ومازلت أعتقد أن روسيا تعد العائق الرئيس أمام إنهاء المأساة السورية منذ بدايتها قبل ثلاثة أعوام. فلقد تحولت موسكو منذ اللحظات الأولى لقمع الاحتجاجات السلمية إلى شريك رئيس في ما يرتكبه النظام السوري من جرائم تصل حد الجرائم ضد الإنسانية. الموقف الروسي لا يقتصر على مجرد معارضة دعم المعارضة عسكرياً أو استخدام القوة العسكرية لإنهاء النظام السوري، بل إن موسكو تتحين كل فرصة لتقديم الدعم الدبلوماسي وتوفير الغطاء الدولي له للاستمرار في سياسة القتل والتدمير والتهجير. لقد قاومت موسكو بشراسة غير مفهومة مساعي المجتمع الدولي لإصدار قرار يمكن على أقل تقدير أن يدفع النظام السوري إلى إعادة النظر في سياسة القتل والقبول بحل سياسي يعيد السلام لسورية التي تحولت إلى أرض منكوبة تعاني واحدة من أسواء الجرائم في العصر الحديث.
أياً كانت الدوافع اقتصادية أو عسكرية أو استراتيجية أو دينية، فإن روسيا بدعمها المتواصل للنظام السوري وحصانتها له وهو يرتكب أبشع الجرائم ضد الإنسانية تتبنى سياسة غير أخلاقية، وأصبحت شريكاً في هذه الجريمة التي لن ينساها التاريخ أبداً
ومع تردد الولايات المتحدة ومن خلفها معظم الدول الغربية في استخدام القوة العسكرية بأي شكل كان نجد أن موسكو تزداد تعنتاً وتقف بجسارة وبطريقة استفزازية ضد أي محاولات للحل الدبلوماسي. فعلى الرغم من تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف- حين يسمعه المرء يظن أنه تحول إلى وزير خارجية للنظام السوري- الذي لا يتوقف عن الحديث عن حل سياسي للصراع يتم من خلال مفاوضات مباشرة بين السوريين أنفسهم دون تدخل من أطراف خارجية، نجد أن موسكو سرعان ما تبادر إلى وضع شروط لهذا الحل في مقدمتها رفض مجرد الحديث عن خروج بشار الأسد من السلطة. الروس يطرحون موقفهم الرافض هذا بطريقة يعتقدون أنها ذكية، إلا أن التذاكي الروسي لا يخفى على المراقبين؛ فالروس يدعون إلى بدء مفاوضات بدون شروط مسبقة، ولكن وكما يعلم قادة الكرملين فإن المعارضة السورية بكل أطيافها وبعد هذه السنوات الثلاث من القتل والتدمير الممنهج لا يمكن أن تقبل بالدخول في مفاوضات تنتهي إلى تسويات تبقي من ارتكب جرائم ضد الإنسانية على هرم السلطة فهذا يعد ضرباً من الخيال.
سيرجي لافروف ومن خلفه بوتين يدركان هذه الحقيقة، ولذلك فإصرارهم العجيب على قبول المعارضة السورية التفاوض مع النظام دون تحسب لنتائج هذه المفاوضات يجعلنا نقبل الرأي الذي يقول إن موسكو ربما لا تريد إنهاء الصراع حيث تجد فيه فرصة لاستعراض قدراتها الدبلوماسية على الساحة الدولية ومحاولة لتعويض عقدين من الضعف والتبعية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.
هناك مؤشرات تدل على صحة هذا القول ومن ذلك تتبع موسكو لكل تحرك دبلوماسي مهما كان بسيطاً ولو في شكل تصريح يدين الموقف السوري والمبادرة إلى استنكاره حتى لو كان هذا التحرك جاء من أهم مؤسسة حقوقية في العالم وهي مجلس حقوق الإنسان، فهذه المؤسسة التي لا يعنيها سوى حماية حقوق الإنسان لم تسلم من اتهامات موسكو لها بالانحياز فقط لأنها تبنت قراراً يدين انتهاكات حقوق الإنسان في سورية.
بالطبع دعم لنظام السوري في قتله الممنهج لمواطنيه لا يقتصر على روسيا بل تشاركها إيران التي تعد حليفاً استراتيجياً للنظام وتقدم له كافة أنواع المساعدات بشكل مباشر ومن خلال الحركات التابعة له وفي مقدمتها حزب الله والميلشيات العراقية. كما تستمر الصين في التصويت ضد أي قرار دولي ضد سورية يمكن أن يترتب عليه عقوبات. لكن الموقف الصيني يقتصر على هذا التحرك داخل مجلس الأمن، ولا نجد بكين تتحرك مثل موسكو في كل لحظة وضمن كل إطار وعلى كل مستوى مهما كان ثانوياً لدعم النظام السوري بشكل جعل الدفاع عنه يبدو للمراقبين وكأنه قضية روسيا الأولى.
لا يمكن للنظام السوري أن يستمر في سياسة البطش والقتل الممنهج باستخدام كافة أنواع الأسلحة ومعاقبة الأبرياء دون الحصانة الروسية حيث قدمت موسكو له بدفاعها المستميت عنه الضوء الأخضر لفعل ما يريد مع ضمان إفلاته من العقاب. روسيا تنفرد بكونها الطرف الوحيد القادر على تغيير سلوك النظام السوري في لحظات بمجرد التهديد برفع الحصانة عنه، لكن يبدو أن الكرملين ولأسباب غير مفهومة لا يريد لآلة القتل اليومية أن تتوقف.
لقد بُذلت الكثير من المحاولات لتفسير هذا الإصرار الروسي العجيب والتصدي لأي محاولات جادة لإنهاء الصراع في سورية، لكن ومع استمرار موسكو في تصلبها فإن أياً من هذه المحاولات فشلت في بيان ما الذي يريده الروس من دعمهم غير المسبوق لنظام يمارس القتل اليومي لشعبه مستخدماً كافة ما تيسر له من أسلحة من طائرات حربية وبراميل متفجرة.
فالحفاظ على المصالح الروسية في سورية غير كاف لتبرير هذا الموقف، كما أن تفسير الموقف من خلال مبرر القاعدة العسكرية الروسية في طرطوس غير مقنع بالنظر إلى الضرر الكبير الذي لحق بصورة روسيا في العالمين العربي والإسلامي، وقبل هذا احتمال فقد روسيا لكافة مصالحها في حال تم التخلص من النظام، وهو احتمال كبير جداً وإن كان مكلفاً ويتطلب الكثير من الوقت.
لقد سعت روسيا أثناء وبعد الحرب في الشيشان إلى تحييد العالم الإسلامي أولاً ومن ثم محاولة كسبه وبذلت جهوداً كبيرة في سبيل ذلك حتى تحصلت على صفة مراقب في منظمة التعاون الإسلامي بدعم مهم من المملكة كان محل تقدير الكرملين. كما أن روسيا بذلت خلال العقدين الأخيرين جهوداً دبلوماسية واسعة لتعزيز علاقاتها بالمملكة وبقية دول الخليج رغبة في بناء شراكات اقتصادية تسهم في إعادة بناء الاقتصاد الروسي الذي تعرض لأزمات عميقة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وقد تحققت نجاحات ملحوظة في هذا الشأن وإن لم تكن بمستوى التطلعات.
هناك من يشير إلى أن الموقف الروسي المتعنت تجاه الصراع في سورية يمكن تفسيره من خلال مصالح روسيا الاستراتيجية على مستوى النظام الدولي؛ فهي ترى في الصراع فرصة لاستعادة المكانة وفرض الشراكة الدولية بدلاً من الانفراد الأمريكي بإدارة العلاقات الدولية. كما يشير البعض إلى أن اعتراض روسيا على أي قرار دولي يعبر عن خشيتها من أن تتعرض للخديعة كما حدث في ليبيا – حسب الروس- حين وسع الناتو قرار مجلس الأمن بفرض منطقة حظر جوي إلى دعم المعارضة لإسقاط النظام. ولأن الروس دائماً ما يعيدون التذكير بهذا القرار ويحذرون من خديعة جديدة فلنا أن نتساءل إن كانت روسيا حقاً تعرضت لخديعة من الناتو وهو ينفذ قرار مجلس الأمن 1973؟. رغم ما يقوله الروس فإن القرار في فقرته الرابعة يأذن للدول الأعضاء بشكل منفرد أو عن طريق منظمات أو ترتيبات إقليمية باتخاذ جميع الإجراءات الضرورية لحماية المدنيين والمناطق المأهولة بالسكان المدنيين المعرضين للتهديد، مع استبعاد وجود قوات احتلال أجنبية بأي شكل من الأشكال على أي جزء من الأراضي الليبية.
ومن دون حاجة للتفصيل ففي هذا النص ما يجيز استخدام القوة لحماية المدنيين وهذا لابد أن يعني الاستعداد لمواجهة قوات النظام والتصدي لها حتى لو ترتب على ذلك إضعفاها أمام المعارضة ومن ثم إسقاط النظام فهذا يقع ضمن القرار ولا نجد أي خديعة كما تزعم موسكو.
هناك أيضاً عامل آخر قد يفسر موقف موسكو المتصلب ودعمها المستمر للنظام السوري ويتمثل في تأثير الكنسية الأرثدوكسية على السياسة الخارجية الروسية. وقليلاً ما نسمع عن هذا التأثير، إلا أن هناك شواهد كثيرة لهذا الدور ومن ذلك تصريحات لبطريارك الكنسية الأرثدوكسية كيرل والمتروبوليت هيلاريون الذي يعد بمثابة وزير خارجية للكنسية تشير إلى حضور قوي لرأي الكنسية في السياسة الروسية تجاه الصراع في سورية. فالكنسية الأرثدوكسية ولأسباب ليس هنا محل شرحها أخذت في لعب دور متزايد يتجاوز اهتماماتها التقليدية حيث أصبحت تتحرك على المستوى الخارجي وتعقد لقاءات ويقوم أعضاؤها بزيارات خارجية وتصدر بيانات حول القضايا الدولية الراهنة ومنها الربيع العربي. كما تحظى الكنيسة بمكانة مميزة عند الكرملين الذي يستخدم تأثيرها لتعزيز سلطاتها الداخلية التي تتعرض لانتقادات واسعة. كما ترتبط الكنسية بعلاقات رسمية مع وزارة الخارجية الروسية حيث تعقد اجتماعات دورية منتظمة يناقش خلال قضايا متعلقة بالمسيحين الأرثدوكس خارج روسيا. وتتحرك الكنسية تجاه الصراع في سورية من منطلق حماية الأقليات المسيحية من هجمات المتطرفين.
أياً كانت الدوافع اقتصادية أو عسكرية أو استراتيجية أو دينية، فإن روسيا بدعمها المتواصل للنظام السوري وحصانتها له وهو يرتكب أبشع الجرائم ضد الإنسانية تتبنى سياسة غير أخلاقية، وأصبحت شريكاً في هذه الجريمة التي لن ينساها التاريخ أبداً، كما أن هذه السياسة تكشف زيف ما يدعيه الكرملين من حرص روسيا على الأمن والسلم الدوليين. وللأسف يخطئ الروس في مراهنتهم على أن علاقتهم التاريخية مع الأمة العربية ودعمهم لقضاياها سيجعل العرب يتغاضون عن شراكتها النظام السوري في ارتكاب أبشع الجرائم ضد مواطنيه.
كنت في السابق ألوم أصدقاء روسيا وتحديداً دول الخليج على عدم التواصل والحوار مع موسكو للتعرف على دوافعها والبحث في صيغة مشتركة لحل ينهي الصراع، إلا أن إصرار موسكو على موقف غير أخلاقي عصي على التفسير جعلني أعيد التفكير وأصل إلى نتيجة أنه لن يفيد مع الروس أي حوار وأنهم لن يتغيروا سوى من خلال قيامهم بمراجعة داخلية والبحث في إن كان هذا الموقف ينسجم مع حضارة روسيا وقيمها الدينية والإنسانية. وكلما تأخرت هذه المراجعة كلما زادت معاناة الأبرياء في سورية.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الملك سعود