الرئيسة \  واحة اللقاء  \  روسيا واللجوء الضروري للبراغماتية

روسيا واللجوء الضروري للبراغماتية

12.07.2016
محمد صالح الفتيح


السفير
الاثنين 11/7/2016
نبّهت المواجهة المسلحة الروسية - الجورجية في آب 2008 القيادة الروسية إلى بعض الحقائق الصعبة: الغرب لن يقبل بروسيا حليفاً أو شريكاً حقيقياً، وسيستمرّ بتشجيع الاضطرابات هنا وهناك ضمن المجال الحيوي لروسيا، فيما "الأطلسي" يتابع تقدّمه شرقاً نحو حدود روسيا. أما الحقيقة الأقسى فكانت أن الجيش الروسي بات بحاجة لعملية إعادة هيكلة جذرية وعملية تسليح واسعة، ومكلفة للغاية، وذلك ليس فقط لردع "حلف الأطلسي" والولايات المتحدة، بل أيضاً لضمان تحقيق نصر عسكري سريع وحاسم في المواجهات التقليدية. لهذا أعلنت روسيا في تشرين الأول 2008 عن الملامح العامة لخطتها الاستراتيجية التي عُرفت باسم "خطة تسليح الدولة". ومن بعض ما تشمله هذه الخطة تزويد الجيش الروسي، بحلول العام 2020، بأربعمئة صاروخ نووي عابر للقارات، 28 غواصة، 50 سفينة، 100 قمر صناعي، 600 طائرة مقاتلة، 1000 مروحية، 2300 دبابة، 2000 قطعة مدفعية ذاتية الحركة، 56 كتيبة دفاع جوي من صواريخ S400، و10 ألوية صواريخ بالستية من طراز "إسكندر". ستُكلف هذه الخطة الاستراتيجية، الطموحة للغاية، مئات مليارات الدولارات. ولهذا أعلنت روسيا في العام 2013 أنها ستزيد ميزانيتها الدفاعية تدريجياً لتصل إلى 100 مليار دولار بحلول العام 2016. لكن العقوبات الاقتصادية الغربية، في أعقاب الأزمة الأوكرانية، والانخفاض الحادّ في أسعار النفط والغاز، أجبرت روسيا على تخفيض ميزانيتها من 70 مليار في العام 2014 إلى نحو 52 مليار دولار فقط هذا العام، وهذا ما أثّر بشكل حاد على خطة التسليح الاستراتيجية. ولا حاجة للتذكير بأن القوى الغربية قد زادت من عدائها لروسيا خلال العامين الماضيين، وبات واضحاً أن ما يحصل بات يرقى لمستوى حرب باردة جديدة.
إلا أن مشكلة روسيا الحقيقية ليست مع ما عانته في العامين الماضيين، بل مع وجود احتمال جدّي بأن تستمر هذه المعاناة، المتعددة الأبعاد، خلال الأعوام المقبلة. وهكذا بات واضحاً أنه لا بد من تحرك جدي يكسر الجمود ويقلص الخسائر ويحقق خرقاً، ولو صغيراً، في صفوف المعسكر المعادي. ولتحقيق هذا كان لا بد من ممارسة قدر كبير، وربما غير مسبوق، من البراغماتية. فيما يلي بعض الأمثلة.
 
التراجع عن الاستخدام السياسي للغاز
لأكثر من عقد من الزمن، استخدمت روسيا صادرات الغاز الطبيعي كأداة ضغط سياسية، ولعل أوكرانيا هي المثال الأشهر. إذ لطالما لوّحت موسكو بقطع وارداتها لكييف من الغاز لانتزاع تنازلات في ملفات عديدة، كما أنها طالما باعت كييف الغاز بسعر أعلى حتى مما تبيعه لبقية الدول الأوروبية. في الماضي، لم يكن أمام كييف سوى الرضوخ، فلم يكن هناك من وسيلة للحصول على الغاز من مصادر أخرى، لاسيما أن الدول الأوروبية كانت راضخة لشرط روسيا بألا تقوم ببيع الغاز الروسي لأوكرانيا.
لكن تفجّر الأزمة بين روسيا والغرب في العام 2014 غيّر كل هذا. إذ تجاوزت الدول الأوروبية الشرط الذي يمنعها من إعادة تصدير الغاز الروسي المنشأ؛ كما عملت على تطوير بنيتها التحتية بشكل يسمح للدول المختلفة بتبادل الغاز في ما بينها، ما يقطع الطريق على احتمال حصول انقطاع بإمدادات الغاز، كما حصل عندما قطعت روسيا إمدادات الغاز لأوكرانيا ولشرق أوروبا في كانون الثاني 2009. لم تصبح الدول الأوروبية فقط قادرةً على تزويد بعضها البعض بالغاز المستورد، بل إنها تمكنت من تزويد أوكرانيا بالغاز، بحيث إن الأخيرة لم تستورد أي غاز من روسيا منذ تشرين الثاني 2015. وهكذا بدا أن سلاح الغاز الروسي قد فقد تأثيره.
اللافت أن روسيا لم تحاول حتى التلويح بوقف صادرات الغاز، بل فعلت العكس تماماً. إذ سعت لزيادة حجم صادراتها، ووقعت في أيلول 2015 اتفاقاً لمد أنبوب غاز ثان، "نورد ستريم 2"، إلى ألمانيا مباشرة عبر بحر البلطيق ليضاعف من حجم الواردات الروسية لألمانيا لتصل إلى 110 مليارات متر مكعب سنوياً. وبرغم أن قيام روسيا بعرض المزيد من الغاز على خصومها الأوروبيين يُقلل من قيمة الغاز كسلاح سياسي استراتيجي، إلا أنه يسمح لروسيا بتحقيق ثلاثة أهداف تكتيكية على الأقل. أولاً، زيادة الخلافات في صفوف خصومها الأوروبيين، فبينما تُظهر ألمانيا حماساً لمشروع "نورد ستريم 2"، تُبدي دول أوروبا الشرقية رفضها له؛ ثانياً، تضمن روسيا الحفاظ على حصتها البالغة نحو 30 في المئة من سوق الغاز الأوروبية، بما لا يترك مجالاً لدخول منافسين محتملين مثل الولايات المتحدة؛ ثالثاً، وهو الأهم، الحصول على مداخيل مالية ضرورية جداً لاستقرار الاقتصاد الروسي. بالمحصلة، هي براغماتية روسية لمواجهة السيناريوهات الأكثر خطراً، كأن تفقد روسيا حصتها بالكامل من السوق الأوروبية، لصالح الولايات المتحدة مثلاً، أو أن يتضرّر الاقتصاد الروسي أكثر، وما يجلبه ذلك من عواقب سياسية مهولة. ولا يخفى أيضاً أن روسيا بحاجة للاستمرار في تطوير قدراتها العسكرية لمواجهة تقدم الخصم الأميركي  الأطلسي، على مختلف نقاط التماس مع روسيا. ولكسب المزيد من الوقت للتحضر لهذه المواجهة، لجأت روسيا للبراغماتية مرة أخرى.
 
المصالحة مع تركيا
كُتب الكثير في الصحافة العربية عن دوافع الرئيس التركي للمصالحة مع روسيا، ولكن دوافع روسيا للمضي في هذه المصالحة لم تحظ بالاهتمام الكافي. ليست العلاقات الاقتصادية بين روسيا وتركيا، والتي نمت من 5 مليارات دولار في العام 2002 إلى 44 ملياراً في العام 2014، هي دافع موسكو الرئيس للمضي في تطبيع العلاقات مع أنقرة، إذ تنافس الدوافع السياسية الدوافع الاقتصادية، إن لم تتفوق عليها أيضاً.
تراقب موسكو جيداً محاولات الولايات المتحدة و "حلف الأطلسي" للتضييق عليها. فعلى جدول أعمال قمة "حلف الأطلسي" في وارسو، هذا الشهر، نقاشٌ حول حجم القوات "الأطلسية" التي ستُنشر في دول البلطيق الثلاث وبعض دول أوروبا الشرقية الأخرى، إضافةً إلى طلب تركيا أن يقوم الحلف بزيادة حجم قوته البحرية المشتركة في البحر الأسود رداً على تعاظم القوة البحرية الروسية هناك. لكن الاتفاقات الدولية، تحديداً اتفاقية "مونترو 1936"، تُقيّد حركة السفن الحربية للدول غير المطلة على مياه البحر الأسود. أي لا يمكن نشر قوة بحرية "أطلسية" هناك من دون انخراط دول مطلّة على البحر الأسود مثل رومانيا وبلغاريا وتركيا. وبينما يبدو أن رومانيا وبلغاريا تفضلان عدم زيادة مستوى العداء مع روسيا، يُصبح الموقف التركي شبه حاسم في هذا الخصوص، وهذا أحد أسباب المصالحة الروسية  التركية في هذا التوقيت.
كما تتراكم المؤشرات على أن الإدارة الأميركية المقبلة تميل إلى التصعيد في الميدان السوري، وهو تصعيد بدأته إدارة أوباما بالفعل وبشكل واضح. فقد ضمنت شحنات الأسلحة الأميركية أن الرئيس الأميركي المقبل سيتسلم الملف السوري وموقع أميركا في سوريا أكثر قوةً مما كان عند الدخول الروسي، خصوصاً بعد نشر مقاتلين أميركيين و "أطلسيين" على الأراضي السورية، وإنشاء قاعدة أميركية في رميلان. تشير كل هذه التفاصيل إلى أن "الأطلسي" يعزّز مواقعه في سوريا في وجه روسيا، تماماً كما يفعل في دول البلطيق، ومناطق أخرى. وللاستعداد لمثل هذه المواجهة، من المفيد لموسكو أن تعمل على تحييد تركيا أو منعها من الاندفاع لتكون جزءاً من هذه المواجهة الأطلسية - الروسية.
تدرك روسيا أيضاً أن إحدى أدوات هذه المواجهة هو العمل على إغراقها في وحل المواجهة في سوريا. ولعل هذا أحد الأسباب التي دفعت موسكو للقبول بالهدنة لقطع الطريق على محاولات التصعيد. وإن كان البعض قد تذمّر من تعدّد خروق الهدنة، فمن المفيد أن نشير هنا إلى أن متوسط عدد خروق الهدنة بين المقاتلين الموالين لروسيا والحكومة الأوكرانية هو 10-20 خرقاً يومياً، وفي 15 حزيران الماضي سُجل 58 خرقاً في يوم واحد. لماذا لم تُسقط روسيا الهدنة هناك؟ هي براغماتية قد تبدو غير مستحبّة الآن من قبل أصحاب الرؤوس الحامية، ولكن ما نفع الدخول في مواجهة يختار الخصم زمانها ومكانها وأسلوبها؟ وما نفع المسارعة في المضي للمواجهة قبل أن تنضج التحضيرات الاستراتيجية التي يجري العمل عليها منذ سنوات؟ هو لجوء ضروري، ولا بدّ منه، للبراغماتية.