الرئيسة \  واحة اللقاء  \  رومانسية جنيف: أحمد وبهية!

رومانسية جنيف: أحمد وبهية!

04.11.2013
عمر قدور


المستقبل
السبت 3/11/2013
في الآونة الأخيرة جرى تسويق فكرة أن مؤتمر جنيف2 هو الحل الوحيد في سوريا، سبق ذلك تمهيد لا يكلّ من الغرب الذي لم يتوقف مسؤولوه عن القول بأن الحل في سوريا سياسي، وبأن لا رغبة للقوى الغربية في التدخل العسكري أو في مواجهة الدعم الروسي والإيراني للنظام. ومع أنه ليس معروفاً بعد ما ستسفر عنه مشاورات الوسيط الدولي بشأن انعقاد المؤتمر، إلا أن ما هو واضح منذ الآن قوة الإرادة الدولية لعقده، والاستعداد للانتظار فيما لو تأجل انعقاده مرة أو مرتين تحت شعار "لا بديل لجنيف". أي ينبغي على المتقاتلين الاقتناع بهذه الخلاصة، إما الآن أو بعد جولة أخرى منهكة من القتال، وقد بات واضحاً أن عملية "الإقناع" ينبغي لها الحدوث على ضفة المعارضة وبخاصة الكتائب المسلحة التي تقاتل النظام، ما يستلزم قطع خطوط الإمداد عنها في الوقت الذي يتدفق فيه المقاتلون والأسلحة باتجاه النظام، لعل انعدام الأمل بحصول توازن ميداني "يساعد" المعارضة على الاقتناع بجنيف.
يوحي ظاهر التحضيرات بأن المجتمع الدولي لا يلقي بالاً إلى شروط النظام التي أعلنها مراراً، والتي تستبق المؤتمر بسقف متدنٍّ جداً، بينما يُركز على شروط المعارضة ومحاولة ثنيها عن شروطها التي لا تتجاوز تطبيق ما هو منصوص عليه أصلاً في جنيف1. هكذا تبدو المعارضة في موقع من يعرقل المؤتمر، وكأن الأخير سينجح بمجرد انعقاده، وكأن وفد النظام آتٍ للتفاوض حقاً لا لاكتساب مزيد من الوقت والشرعية اللذين سيصرفهما في الداخل مزيداً من القتل والتدمير. هكذا أيضاً يُصوّر من يرفض الذهاب إلى جنيف وفق الشروط الحالية على أنه يرفض حقن الدماء، بل هو المسؤول عن استمرار نظام القتل في ممارسة مهامه، وعليه تحمّل عواقب فعلته بمزيد من القتل أو لاحقاً بمزيد من الخسارة السياسية إن رضخ ووافق على جنيف.
بالتأكيد ليس عسيراً على القوى الدولية، المتفقة علناً أو ضمناً، أن تسوّق إعلامياً لجنيف2 بوصفه الخلاص الذي لا بديل له، ذلك بصرف النظر عما سيحدث في المؤتمر العتيد، وبصرف النظر عن الصفقة المُتفق على إطارها العام وعما إذا كانت ترضي السوريين أم لا. وليس عسيراً أن تصل الآلة الإعلامية إلى الخلاصة القائلة بأن السوريين لا يريدون وقف نزيف دمائهم، ويرفضون مساعدة العالم لهم على وقف نزيفها. السوريون الذين وفق هذا يضيّعون فردوس جنيف ويصرّون لعلّة فيهم على الاستمرار في "حرب أهلية" طاحنة، ويستجلبون عوامل التطرف والقوى الظلامية إلى بلدهم؛ السوريون الذين يتحملون وحدهم عواقب ثورتهم وعواقب تحديهم لنظام يحظى برعاية دولية وإقليمية قلّ نظيرها.
التساؤل عن آليات مؤتمر جنيف لا يبدو مهماً بالقدر الذي يبدو عليه انعقاده، ولا مجازفة بالقول بأن ثمة تصوراً رومانسياً يُروّج عن المؤتمر مفاده أن مجرد انعقاده هو نجاح بحد ذاته، لأن المعارضة تكون قد اكتسبت شرعية من حلفاء النظام الذين قبلوا بوجودها، والأخير يكون قد استرد الشرعية التي خسرها في الغرب، أمريكا تستعيد مصداقيتها بعد مقلب الكيماوي، وربما يوفّر المؤتمر للسوريين فرصة للترويح عن أنفسهم بأخباره بعد أن سئموا أخبار القصف والتشريد. بوجود هذه المكاسب الجلية سيكون من قلة الفطنة رفضُ المؤتمر، وستكون مبرراته حجة على الذين يرفضونه بما أنهم يعجزون عن اقتراح بديل له.
أما التصور الرومانسي الأقوى فيحاول ترويجه بعض السوريين أنفسهم، فوفق تصورات هذا البعض ما لم يقبل به النظام قبل أكثر من سنتين ونصف سيقبل به الآن بعد أن أنهكته الحرب هو الآخر، النظام أصبح جاهزاً لتقديم التنازلات وملاقاة المعارضة التي فشلت أيضاً في إسقاطه عسكرياً. بناء على الفشل المزدوج سيضطر الطرفان إلى تقديم تنازلات لا بد منها، بعدما ثبت بالدليل القاطع عدم قدرتهما على الحسم العسكري. نعم، النظام الذي يتمتع بعقلانية مشهودة سيقرّ باستنفاذه فرص الحسم العسكري، ويقدّم التنازلات التي كان بوسعه تقديم قسم منها في آذار 2011 لكنه لم يفعل حينها؛ النظام الذي لا يتوقف عن اعتبار معارضيه مجرد إرهابيين مرتزقة، ولا يكفّ عن اشتراط بقاء رئيسه في أية تسوية قادمة؛ هذا النظام سيتغير فجأة ويكتشف أن لا خلاص للبلد إلا بتقديم التنازلات "المؤلمة"، وسيضحي من أجل البلد ويقبل بها كأنه لم يضحِّ سابقاً بموالاته قبل معارضيه من أجل البقاء!.
تنبني الفرضية السابقة على أن النظام يمكن أن يقدّم بالسياسة ما لا يقبل تقديمه تحت الضغوط، وهذا أيضاً ما يروّجه النظام عن نفسه إذ يواظب على تكرار أنه لا يرضخ للضغوط الداخلية، طبعاً الأمر مختلف بالنسبة إلى الضغوط الدولية. على ذلك ينبغي على المعارضة التخلي عن محاولاتها إكراه النظام على التنحي لأن ذلك سيزيد في عناده، أما قبولها التفاوض معهم فيجرّده من خصلة العناد ويعقلنه. أصحاب هذا الرأي يتناسون مثلاً ما فعله النظام إبان ما عُرف بربيع دمشق، فكما هو معلوم اقتصر ربيع دمشق على عدد محدود جداً من النشطاء المدنيين، وكان قسم منهم يعوّل على النظام نفسه لإصلاح ذاته ضمن عملية طويلة جداً، لكن الأخير انقض على الحراك السلمي المحدود وأودع العديد ممن شاركوا فيه في المعتقلات، بل أتت مناسبة اتهامه بقتل الرئيس الحريري آنذاك ليزيد من ضغوطه على الداخل تحت دعوى التصدي للخارج؛ تماماً كما يفعل اليوم إذ يتهم معارضيه بالعمالة للخارج.
البعض أيضاً ينطلق من أن النظام مضطر إلى تقديم التنازلات هذه المرة تحت ضغط حلفائه، لكن هذا البعض لا يقدّم أجوبة حول مدى التنازلات التي يقبل بها الحلفاء، بخاصة وهم يعتقدون أنهم كسبوا الحرب الدبلوماسية وحيّدوا الإدارة الأمريكية عن الملف السوري، وأنهم أعطوا أوباما خشبة الخلاص من هذا الملف المزعج عبر منحه صفقة الكيماوي. هذا البعض يراهن على التلازم بين مسار المفاوضات حول ملف إيران النووي ومسار جنيف السوري، وهو ضمناً يرهن الملف السوري لصالح الملف الإيراني، وإذا كانت إيران مدعوة لتقديم تنازلات على الصعيد النووي فمن المرجح أنها ستقبض الثمن إقليمياً، لا يقلل منه أن توافق على منح بعض جوائز الترضية البسيطة في ما تعتبره مركز نفوذها الأهم ومحافظتها الخامسة والثلاثين.
أما أكثر التصورات رومانسية فينطلق من أن الخطر الأكبر على سوريا يأتي الآن من الجماعات المتطرفة، وذلك يستدعي اتفاق النظام والمعارضة على مواجهتها معاً برعاية دولية، أي أن دخول العناصر المتطرفة أدى، من حيث لا تريد هذه الجماعات، دوراً إيجابياً عظيماً إذ بوسعها توحيد السوريين الذين عانوا الفرقة لمدة سنتين ونصف وتبين لهم الآن أنهم في سبيل تضييع وطنهم إذا تركوه لقمة سائغة لأولئك المتطرفين. ومع أن خطر الإرهاب ماثل فعلاً، وهو يطاول مناطق الثورة أولاً، ومع أن النظام يبدو سعيداً بذلك إلا أن هذه المعطيات لا تمنع من تصوير خطر الجماعات الإرهابية ببساطة وتبسيط شديدين، وتصوير إمكانية التصدي لها من قبل النظام والمعارضة بتبسيط أكبر.
ما يخلص إليه مجموع التصورات الرومانسية المطعّمة بوقائع منتقاة أن مؤتمر جنيف بوسعه وضع النهاية السعيدة لوضع بائس ومعقد، ثمة أشرار يشبهون الشخصيات التي اشتُهر بأدائها الفنان المصري عادل أدهم عرقلوا حتى الآن الوفاق الوطني الممكن، وستنكشف شرورهم عندما يجلس النظام والمعارضة إلى مائدة التفاوض، ثمة حلّ ممكن بالانتظار على الطاولة، وقد ينقضي قسم كبير من الخلافات بشيء من العتاب بين الطرفين، بل ربما لا يقتضي الحل حتى هذا القدر من العتاب، فربما يكفي على طريقة الدراما المصرية النمطية أن يدخل النظام القاعةَ من جهة اليمين وتدخل المعارضة من جهة اليسار، وما إن يريان بعضهما حتى يصيح أحدهما: أحمد. فيصيح الآخر: بهية. ثم يتجهان مسرعين إلى منتصف الطريق ويفردان ذراعيهما للعناق الذي طال انتظاره في الوقت الذي ترتسم فيه على الشاشة كلمة "النهاية" السعيدة.