الرئيسة \  واحة اللقاء  \  "ريحتنا" التي طلعت في أزمة اللاجئين

"ريحتنا" التي طلعت في أزمة اللاجئين

09.09.2015
فهمي هويدي



الشرق القطرية
الثلاثاء 8/9/2015
طفل واحد هز الضمير الأوروبي، كم طفلا ينبغي أن يموتوا لكي يستيقظ الضمير العربي؟
(١)
صورة ايلان الكردي ابن السنوات الثلاث أطلقت الجرس الذي لا يزال رنينه يدوي في أرجاء الكون، بجسمه الصغير الذي لفظه البحر على شاطئ مدينة بودروم التركية فإن جثته فتحت الأعين على بشاعة الجريمة الكبرى التي ترتكب بحق الشعب السوري منذ أكثر من أربع سنوات. عبقرية الصورة أوصلت للكافة ما لم توصله نشرات الأخبار التي تحدثت عن قتل أكثر من ربع مليون سوري وتشريد ١٢ مليونا، سجلت دفاتر مفوضية اللاجئين منهم أربعة ملايين. أصداء الصدمة تجاوزت ما جرى حين قتل الإسرائيليون الطفل محمد الدرة وهو في "حضن أبيه عام ٢٠٠٠". ورغم بشاعة الجريمة فإن الآلة الإعلامية للقاتل الإسرائيلي سارعت إلى احتواء الموضوع وامتصاص صداه مستثمرة ضعف ذاكرة العرب ووهن أنظمتهم. وهو ما حدث أيضا بعد إحراق المستوطنين جثة الطفل علي دوايشة في بداية شهر أغسطس من العام الحالي (أمه ماتت هذا الأسبوع متأثرة بالحريق وأبوه سبقها). وشاء القدر أن يحترق الطفل الفلسطيني تحت جنح الظلام فلم تلتقط له صور. ذلك أيضا حظ أطفال اليمن الذين أصبحوا يقتلون كل يوم ويدفنون تحت الأنقاض ويتحولون إلى أشلاء وجثث مشوهة من ذلك القبيل الذي اعتادت أعيننا رؤيته في العراق وغيرها من مناطق الصراعات التي باتت توزع الموت على فضاءات العرب بغير استثناء.
لو أن جثة الطفل كانت على شاطئ غزة لاختلف الأمر، ولما أحدث الصدى الذي روَع الأوروبيين واستنفرهم. وهو ما حدث أثناء إحدى غارات إسرائيل التي شنتها على القطاع في صيف ٢٠١٤، فقتلت أربعة أطفال وليس طفلا واحدا، كانوا يلعبون على الشاطئ، ولم يتحرك شيء في العالم الغربي ولا العربي!.
(٢)
الفزع الأوروبي أدهشنا، نحن الذين ألفنا الموت وتكيفنا مع القتل حتى غدت الجنازات طقسا شبه يومي في عواصمنا، وكان مثيرا للانتباه أن إعلامنا اهتم برد الفعل الأوروبي بأكثر من اهتمامه بالفعل والجريمة الأصلية، فتابع الضحايا ومعاناتهم في حين نسي القاتل الذي لا يزال يمطر الضحايا بالبراميل المتفجرة. وكانت النتيجة أننا شغلنا بالهم الأوروبي بأكثر مما شغلنا بهمنا القومي سواء كان انهيارا كارثيا للنظام العربي أو دما يسيل في اليمن أو دولة تتحلل في ليبيا أو وطنا يبتلع في فلسطين..إلخ.
استغربت عنوانا نشرته إحدى الصحف المصرية على صفحتها الأولى يقول: صورة الطفل السوري الغريق تحرج أوروبا. وشعرت بالخزي حين قرأت أن زعيم المعارضة الإسرائيلية ــ إسحاق هيرتروج ــ دعا حكومة بلاده إلى فتح حدودها أمام اللاجئين السوريين. وانتابني الشعور بالخجل حين وجدت أن بابا الفاتيكان فرنسيس دعا أديرة أوروبا لفتح أبوابها لاستضافة اللاجئين. وظل الخجل يلاحقني حين قرأت قائمة النجوم والمشاهير الغربيين الذين أعلنوا تضامنهم مع اللاجئين. من المغني الفرنسي شارل أزنافور الذي دعا إلى نقل جماعات المضطهدين في الشرق الأوسط إلى القرى الفرنسية المهجورة، إلى ليونيل ميسي نجم المنتخب الأرجنتيني ونادي برشلونة الذي استهجن المشهد وأعلن دعم مؤسسته الخيرية للمهاجرين، إلى جي كي رولينج مؤلفة روايات هاري بوتر التي رددت دعوة التضامن مع المهاجرين وجون جرين الكاتب والروائي الأمريكي الذي تبرع بعشرين ألف دولار لصندوق إغاثة الطفولة البريطانية لإغاثة اللاجئين وجمع نصف مليون جنيه إسترليني خلال ٢٤ ساعة. وصولا إلى نادي بايرن ميونيخ الذي تبرع بمليون يورور لإقامة منتجعات لإيواء اللاجئين واللجنة الدولية الأولمبية التي تبرعت بمليوني دولار ونادي ريال مدريد الذي تبرع بمليون يورو وغيرهم وغيرهم.
في هلسنكي عرض رئيس وزراء فنلندا جوها سبيلا منزله الخاص في شمال بلاده لإيواء طالبي اللجوء، ودعا مواطنيه لأن يحذوا حذوه ويفتحوا بيوتهم للباحثين عن مأوى، وفي لندن هوجم رئيس الوزراء ديفيد كاميرون حين صرح بأنه لن يسمح لجحافل اللاجئين بدخول إنجلترا، ووصفت منظمة العفو الدولية كلامه بأنه "مشين"، وقالت صحيفة "الجارديان" موقفه لم يكن خطأ فحسب لكنه بمثابة عار على بريطانيا وكل البريطانيين، وفي هذه الأجواء برز موقف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي قادت الدعوة إلى احتضان اللاجئين واتفقت مع النمسا على أن يفتح البلدان حدودهما لاستقبال أعدادهم المتزايدة. كما قادت مع الرئيس الفرنسي هولاند الدعوة إلى وضع خطة للتعامل مع قضية اللاجئين بنزاهة ومسؤولية، بحيث يتم توزيعهم على دول الاتحاد الأوروبي وفقا لحصص إلزامية..إلخ.
هذه الأخبار وأمثالها أبرزتها صحفنا التي تعاملت مع الموضوع باعتباره مشكلة أوروبية سببتها جحافل غريبة قادمة من كوكب آخر.
(٣)
الأرقام مخيفة وصاعقة، حسب مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة فإن أكثر من ٣٠٠ ألف شخص عبروا البحر المتوسط هذا العام وإن ما بين ٢٥٠٠ و٣٥٠٠ غرقوا في البحر قبل أن يصلوا إلى الشاطئ الآخر. عن السوريين المسجلين قالت المفوضية إن العدد الأكبر من لاجئيهم اتجه إلى لبنان (أكثر من مليون) تليها تركيا (٨٠٠ ألف) ثم الأردن (٣٠٠ ألف) وبعدها العراق (٢٥٠ ألفا) ثم مصر (١٣٢ ألفا).
أضاف بيان المفوضية أنها وشركاءها طالبوا بتوفير ٥.٥٠ مليار دولار لإغاثتهم، وحتى آخر شهر يونيو تم توفير ربع المبلغ المطلوب. وهو ما يعني استقطاع الدعم الغذائي للاجئين وصعوبة توفير الخدمات الإنسانية المقدمة إليهم أو إرسال أطفالهم إلى المدارس. أما أحوال اللاجئين فهي تندرج في مستوى التعاسة التي تبلغ ذروتها في بعض البلدان وتخف في بلدان أخرى.
صحيح أن اللاجئين ليسوا كلهم سوريين، ولكن لأن الكارثة الأكبر هناك، فقد أصبحت سوريا المصدر الأكبر للاجئين، إلى جانب أن هناك أعدادا متفاوتة من السودانيين والفلسطينيين والعراقيين وأبناء دول الشمال الأفريقي، وإذا كانت الأغلبية من ضحايا صراعات المنطقة العربية، فإن هناك آخرين من أبناء المنطقة يقصدون دول الشاطئ الأوروبي المقابل بسبب الظروف الاقتصادية الطاردة في بلدانهم الأصلية.
في مواجهة زحف اللاجئين نحو أوروبا تحركت المفوضية الأوروبية واقترحت توزيع أعدادهم على الدول الأوروبية، خصوصا أن إيطاليا واليونان المطلتين على البحر الأبيض طالبتا بأن تقاسمهما الدول الأوروبية أعباء اللاجئين، لكن دول الشمال، ما خلا السويد وألمانيا دعت إلى الإبقاء على اللاجئين حيث حطوا رحالهم وان يمنحوا اللجوء هناك، ورفض التشيكيون والسلوفاكيون استقبال اللاجئين. وأمرت حكومة المجر ببناء جدار بارتفاع أربعة أمتار على طول الحدود مع صربيا (١٧٥ كلم) للحيلولة دون دخول اللاجئين إلى أراضيها. وأعلنت بولندا أنها سوف تستقبل فقط المسيحيين دون غيرهم من بين اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط. وقد أشرت إلى أن الحكومة الألمانية كانت أكثر شجاعة حين فتحت مع النمسا حدودهم أمام المهاجرين، ولجأت بون إلى تعليق العمل باتفاقية "دبلن" التي نصت على توحيد إجراءات الهجرة بين الدول الأوروبية، كما نصت على إعادة المهاجرين إلى الدول التي جاءوا منها، إلا أن تفاهمات السياسيين على أهميتها ليست العنصر الوحيد المؤثر في الموضوع، لأن المشكلة لها أصداؤها التي لا تنكر في التعامل مع الملف. إذ إلى جانب الأصوات التي تضامنت مع مظلومية اللاجئين فإن الأحزاب اليمينية وجدت المشكلة فرصة وحجة قوية استندت إليها في تأجيج المشاع وتعبئة الرأي العام ضد ما سمي بالغزاة الجدد حينا ومحاولات أسلمة أوروبا حينا آخر. في هذا السياق ذكرت التقارير الصحفية أن شعبية السيدة ميركل تراجعت بسبب تعاطفها مع اللاجئين. في حين هاجم بعض المتطرفين من الشباب الألماني بعض مراكز تجمع اللاجئين وحاولوا إشعال النيران فيها. وفي الانتخابات الإقليمية والبلدية في إيطاليا دعت "رابطة الشمال" إلى اعتقال المهاجرين وإعادتهم إلى حيث أتوا. وفي الانتخابات التشريعية في الدنمارك حاز حزب الشعب ٢١٪ من الأصوات، وتضاعفت نسبته من الأصوات مرتين قياسا على انتخابات عام ٢٠١٠، خصوصا أنه دعا إلى تشديد قوانين الهجرة للحد منها، وتتحدث التقارير الصحفية عن صعود محتمل للتيارات السياسية والشعبوية في كل من ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، بعدما تعالت الأصوات المحذرة من إرهاب الوافدين وأسلمة القارة وتهديدات الوحدة الأوروبية.
(٤)
الغائب الأكبر عن المشهد هو العالم العربي والراسب الأكبر في الاختبار هو الجامعة العربية التي غدت نموذجا يجسد انهيار النظام العربي وإفلاسه. ذلك أننا إذا اعتبرنا أن أزمات المنطقة حاضرة في قلب ملف المهاجرين، فسوف يلفت أنظارنا أن الأمم المتحدة التي حاول حل تلك الأزمات، وأن الجامعة العربية خارج الصورة تماما. فمبعوثو الأمين العام هم الذين يحاولون التوسط في البحث في حلول في سوريا وليبيا واليمن. وقبل ذلك نفض النظام العربي يده من القضية الفلسطينية وترك ملفها للجهود الدولية ومفاوضات القاتل مع القتيل. وهو ما أعطى انطباعا قويا بأن مستقبل العالم العربي أصبح خارج اهتمامات الجامعة العربية أو حتى الحكومات العربية.
الذي لا يقل إدهاشا عما سبق أن المجتمع المدني العربي والنخبة بمختلف توجهاتها كانوا ضمن الغائبين. وحين نشرت صحفنا أسماء المشاهير الذين أعربوا عن تضامنهم أو أسهموا بتبرعاتهم الرمزية لصالح إغاثة اللاجئين، فإننا لم نجد بينهم اسما عربيا واحدا. أستثني من ذلك النادي الأهلي المصري الذي وافق على إقامة مباراة في كرة القدم مع نادي بايرن ميونيخ يخصص عائدها لصالح اللاجئين، وكذلك دعوة لاعب الأهلي وليد سليمان إلى التضامن معهم وتبرعه بمبلغ ٥٠ ألف جنيه لافتتاح الحملة، وإعلان رجل الأعمال نجيب ساويرس عن رغبته في شراء جزيرة في البحر الأبيض لإسكان اللاجئين فيها.