الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سارة بالين وتحكيم الله في سورية

سارة بالين وتحكيم الله في سورية

19.07.2013
د. عبدالوهاب الأفندي

القدس العربي
الجمعة 19/7/2013
(1) معروف عن المرشحة السابقة لمنصب نائب الرئيس عن الحزب الجمهوري سارة بالين أنها تتحف الصحافيين وأجهزة الإعلام بدرر الألفاظ ونوادر القول وعجائب الحديث، فتضحك كثيراً وتبكي أحياناً. ولكنها تفوقت على نفسها مؤخراً أثناء مخاطبتها مؤتمراً حول الدين والسياسة الخارجية، حيث رفضت توجه الإدارة الأمريكية إلى تسليح المعارضة. وقالت بالين إنه حينما يلتقي جمعان من المجانين وكلاهما يهتف ‘الله أكبر’ فيما يعتزم ذبح صاحبه، فإننا لا يجب أن نتدخل. وأضافت أنا أقول: ‘دعوا الله يتولى هذا الأمر!’
(2)
بالطبع كان هدف بالين الأول هو السخرية من الإسلام والمسلمين. فهي لم تستخدم التعبير الانكليزي الدال على الذات الإلهية، وإلا لكانت هذه مشكلة وهي تخاطب مؤتمراً دينياً يؤمن الحضور فيه بأن الأمر كله لله. ولكنها استعملت عبارة ‘الله’ العربية حتى يفهم أنها تعني ‘إله المسلمين’، مع الإيحاء بأنهم يعبدون إلهاً سوى الواحد الأحد القائم على كل شيء بما كسبت، والمتصرف في الكون.
(3)
وقبل أن نناقش هذه المسألة بعمق أكبر، لا بد أن نسلم بأن بالين على حق استغرابها من حال طائفة من المتقاتلين في سوريا، ونعني بهم من جهة المتشددين من السنة والمتشددين من الشيعة. فكلا الفريقين يعلن نفسه مجاهداً في سبيل الله، ويرى خصمه كافراً مارقاً مصيره إلى سجين، بينما هو في طريقه إلى عليين. ومن نافلة القول إن مصير الفريقين لن يكون إلى الجنة، إذ لا بد أن يدع أحدهما (وربما كلاهما) إلى نار جهنم دعاً جزاء ما كسبت يداه.
(4)
لا نحتاج إلى أن ننتظر إلى يوم القيامة حتى نعلم حكم الله في الطرفين، لأن الإيمان ليس بالدعاوى. وقد نعى القرآن على مزاعم بعض أهل الكتاب أنهم ‘أبناء الله وأحباؤه’، فيما أعمالهم تكذب المزاعم فقال فيهم: ‘قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين’. ولا يحتاج المرء للإيمان حتى يعرف أي الفئتين في سوريا هي الفئة الباغية المخالفة لما يرضي الله ورسله، المرتكبة للكبائر. اللهم إلا من أعمى الله بصيرته، فصح فيه قوله تعالى فيمن كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون، ونعوذ بالله من غضبه وعظيم مكره.
(5)
العودة إلى مقولة سارة بالين في تحكيم الله في أمر سوريا، فإن هذه الدعوى تطرح عدة إشكالات وقضايا، أولها قضية سياسية. فالسياسة الأمريكية الخارجية، خاصة عند الجمهوريين، مالت في كل مرة إلى ‘الاحتواء المزدوج’ للدول والقوى الإسلامية، كما حدث أيام حرب العراق وإيران وغيرها. وليس لنا أن نلوم أمريكا على هذا. فلو كنت مكان أي مسؤول أمريكي لكان ما يحدث في سوريا اليوم هو السيناريو الذهبي: يقتتل حزب الله والقاعدة، وتغرق إيران في الوحل السوري، ويشتغل الجميع بخراب قد يدوم مائة عام تهدر فيها كل الموارد والطاقات، وترتد المنطقة إلى العصور الوسطى بينما تنعم إسرائيل بالأمن وتزدهر وتتوسع. فلماذا أجهد نفسي بإنهاء الأزمة وإنقاذ إيران وحزب الله من ورطتهما؟
(6)
من الناحية العقائدية، فكأن بالين تدعي في حكمها توازن بين تدخل أمريكا وتدخل السماء. أي أن أمريكا قادرة على حسم الأمر لو شاءت، ولكنها تنتطر وتراقب لترى ما يفعله جبار السماوات في غيابها، وكفى به تكبراً! وكل عاقل يعرف أن الأمر هو بالعكس، فالمولى جل وعلا هو من يراقب ويمتحن، ثم ينزل حكمه وقضاءه متى شاء. وأهم جزء في الامتحان هو أن يعلم من يقف مع الحق ويذود عن المظلوم، ومن يمالىء الظالمين بالقول والفعل أو حتى بالانتظار، ثم هو يحكم بعد ذلك بغير معقب.
(7)
قد نحسن الظن بسارة بالين ونقول أنها اطلعت على أقل تقدير- على قصة موسى وفرعون في الإنجيل، وكيف أن مكر الله شاء أن يتولى الفرعون وأسرته تربية موسى في قصره، وهو الذي كان يجتهد في إبادة أطفال بني إسرائيل. وقد يسخر الله أمريكا أو روسيا أوغيرهما لتنفيذ تدبيره فيما قد يراه قادتهما مصلحة أو هوى، ويريده المولى تعالى أمراً آخر. وحاصل الأمر أنه ليس هناك أمر خارج عن تدبير المولى سبحانه، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
(8)
ليست مهمة العباد مطالبة السماء بتحمل مسؤولياتهم نيابة عنهم، ولا استخدام القضاء والقدر للتنصل من هذه المسؤوليات، خاصة حين تستخدم لهجة ساخرة ومستفزة كتلك التي تبنتها بالين. فمن كان مؤمناً فمن الحكمة عنده أن يتجنب تحدي مالك الملك وامتحان بأسه الشديد، ومن كان ملحداً فلا شأن له بالحديث عن إرادة سماوية تمتحن. وإنما مهمة العباد هي الارتفاع إلى مستوى الابتلاءات السماوية حين تقع، واتخاذ الموقف الصحيح من القضايا الإنسانية من منظور اخلاقي.
(9)
لقد توافقت البشرية، مؤمنها وملحدها، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على أن لا تسمح بتكرار جرائم النازية التي ارتكبها نظام قمعي مارق تحت ستار السيادة. ولهذا السبب تمت صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة، ولم يعد المجتمع الدولي يعترف بدول لا توقع على هذه المواثيق الدولية. وفي عام 2005، توافقت قمة دولية شهدتها كل دول العالم (ومن بينها سوريا) على ما سمي بمسؤولية الحماية، وهي تعهد كل دول العالم مجتمعة (على طريقة حلف الفضول) بالتصدي لأي نظام يمارس الإجرام في حق شعبه بكل وسيلة ممكنة.
(10)
لا تتعلق المسألة إذن، كما تدعي سارة بالين (ومن أيدها من صقور اليمين الأمريكي وهم للأسف كثر) بدعوى ساخرة بالتوكل على الله، لأن الله غالب على أمره رغم أنف المكابرين. وليحذر من يتحدونه أن يصيبهم بأسه أو تخسف بهم الأرض وهم لا يشعرون. وإنما القضية هي في ما ألزمت به الإنسانية نفسها أمام الله والملأ بألا تسمح بأن يحدث ما يحدث اليوم في سوريا من تقتيل وتشريد للأبرياء على يد نظام سقط أخلاقياً ودينياً وسياسياً وبقي أن يسقط عسكرياً. وهذه مهمة لا مهرب منها جبناً وتخاذلاً، أو طلباً لمصلحة لا أخلاقية. وليحذر كل من يقصر في ذلك من عقوبة سماوية آجلة أو عاجلة.