الرئيسة \  واحة اللقاء  \  "سايكس بيكو".. وبداية العرض الجديد

"سايكس بيكو".. وبداية العرض الجديد

30.06.2014
د. سالم حميد



الاتحاد
الاحد 29/6/2014
رغم أن مباريات كأس العالم الجارية حالياً في البرازيل قد شغلت حيّزاً مقدّراً من اهتمام الناس في أرجاء الكرة الأرضية، فإن العالم الآن لا يحتاج الانشغال بالكرة بقدرما يحتاج الوقوف مع نفسه والتفكير فيما يجري في ذات التوقيت الذي يستمتع فيه بمشاهدة كل مباراة من مباريات كأس العالم. فالعالم يموج بالأحداث، و"داعش" التي تصدرت الأنباء فجأة باحتلالها مساحات وافرة من أرض العراق الذي عانى شعبه ما عانى من قلق وانعدام للأمن، وتقطَعت به سُبُل العيش في الخارج والداخل، دون توقف أو انقطاع.
ومن الغريب أن بعض العراقيين يتابعون كأس العالم، وهي متابعة وصفها البعض باللامسؤولة، وفسّرها بعضٌ آخر بتحدّي الإرادة ومحاولة العيش والتّمسك بالأمل حتى آخر لحظة من العمر الذي قد ينقضي قبل إكمال مشاهدة المباراة بقذيفة طائشة أو صاروخ ضلّ هدفه، أو على أيدي إرهابيين شُعثُ اللحى مخيفو الملامح، يقتحمون عليه داره فجأة بلا استئذان، ليختموا آخر لحظات ارتباطه بالحياة الدنيا، وبطرق غير آدمية ودون أدنى محاكمة، ودون أن يكون على دراية بالسبب، عدا عن تهم مفترضة ربما يسمع عنها لأول مرة، تُتلى عليه من قبل قضاة يختلفون عن قُضاته، ومحاكم أشبه بمسرحية، يبينون له فيها أنه خرج عن الإسلام وحقّ عليه القول حسب فهمهم، ويفسحون لأنفسهم متعة التلذذ بتطبيق "شرع الله" الذي يفهمونه فقط بهذه الطريقة التي يكون النقاش فيها جُرما يستحق القصاص، ولابد أن يشهد هذا القصاص طائفة من المسلمين وغير المسلمين كما يأمر تأسلمهم الذي يصرّون عليه، مما يجد تفسيره عندهم بكاميرات تنتهك خصوصيته بلا إنسانية! ولابد أن تكتمل شروط الفُرجة الإعلامية لحاملي الكاميرا الذين ينفذون "حكم الله" بنقله عبر وسائل البث والتواصل "المتأسلمة" لكل العالم، وتمتد عبر وسائل اتصال أخرى غير متأسلمة لتنقله لمن تبقّى من سكان الكرة الأرضية، لأن التّلذذ بتنفيذ "حكم الله"، يبقى في عرفهم نوعاً من الجهاد بذلك الفهم المغلوط للدين، والإبداع في ابتكار الأدوات المصاحبة أو البرنامج الذي يسبق القصاص ويؤدّي إليه، والإبداع في ابتكار جودة السيناريو، هو فهم تأسلمهم يبقى كتسارع وتسابق الخطى نحو الخيرات، واجتهاد يكافئ عليه هذا الفهم الخاطئ للدين، بحسنات على قدر التفخيم والتفنن في تبيان فظاعة الجرم عبر التنفيذ الميداني الحقيقي. فالإنتاج الفيلمي المتأسلم الحديث، تفوّق على هوليوود وبوليوود ومدن الإنتاج الإعلامي الضخمة في إنتاج أفلام الرُعب التي تميّزت بالإثارة. فالتأسلم يحرّم الكذب في مثل هذه الأمور! لأن مشاهدة الفيلم تهدر وقتاً يجب أن يتم استغلاله بشيء حقيقي مفيد بدلاً عن الأفلام الخيالية التي تخدع المشاهدين وتحاول الضحك على عقولهم بالخدع الفنية والسينمائية! فمقطع الفيديو لمشهد قطع رأس أو أيّ إعدام في اليوتيوب، وفي ساعات محدودة، يحقق مشاهدة تفوق ما تحققه كل تلك المؤسسات مجتمعة في عشر سنوات! ويكمن سرّ ذلك في "المصداقية" التي اكتسبتها هذه الصناعة البصرية العصرية الحديثة لدى المشاهد الذي لا يملك ذرّة شك في أن ما يراه تصوير حقيقي.
و"داعش" التي صنعتها الاستخبارات الغربية، كغيرها من العصابات الجهادية المتأسلمة التي سحرتها مواصفات هذا العالم الافتراضي الذي أصبح سهلاً، باتت تتباهى بابتكار أشكال القبح والفظاعة، وتتخذ أشكالاً تتجلّى فيها البصمة الغربية التي افتتنت بالتصوير الموحّد للأشكال. فسينما الغرب ابتدعت أشكالاً محددة لسكان الفضاء، وأشكالاً محددة للشخصيات الكرتونية، ومنحتها أسماء سهلة الحفظ، وتفننت في انتقاء معانيها وأجراسها النُّطقية والسمعية، وفي أسماء الشركات وصناعة أسماء بالحروف الأولى تشكّل كلمة متناغمة سهلة الحفظ، وذات بصمة تجلّت بوضوح في رسم أشكال الجهاديين الجدد من حيث المظهر، وما عاد الفرد الذي لا يحتاج لتعريفه بـ"سبايدرمان" أو "سوبرمان"، أو حتى "توم آند جيري"، يحتاج لتعريفه بالشخصيات الجهادية الجديدة. فاللحية يتم إطلاقها دون تشذيب، وشكل الوجه واضح بشعر أشعث أو عمامة، والزي معروف.
وكما تجلّت بصمات الغرب في ابتداع العداوة بين "توم" وصديقه اللدود "جيري"، وهما شخصيتان لا تحتاجان لكتابة اسميهما أو نطقهما للتمييز بين أحدهما والآخر، فلتوم عمامته ولجيري ذيله، ولن تفصح هذه العصابات الجديدة ذات الزعامات المتعددة عن مصادر وقودها، ولا يهم أية عصابة أن يعرف الآخرون أو لا يعرفون مصادر تمويلها، فمحرّك العرائس لا يريد لعرائسه أن تفهم شيئاً، ولا أن تفكّر في فهم شيء، لأن العرائس تمت صناعتها لتتحرك فقط وفق هوى محرّكها وما يريده، ولم يتم خلقها لتقوم بالاحتجاج أو التمرّد على محرّكها أو التفكير في اختيار طريق حركتها، ومحرّك الدّمى لا يمكن أن يكون ظاهراً، وإلا أُفرغت اللعبة من مضمونها، فيد المحرك لا تختلف عن الحاوي الذي يمارس الخدع البصرية، ويوهم مشاهديه أن الدمى من تلقاء نفسها تتحرك وتتكلم وتغني وترقص وتحاور وتشاور تماماً كما تتحرك "داعش" دون مقدمات من سوريا التي اطمأن محرّكها على إكمال مهمتها بوضعها خارطة لوطن جديد حملته خريطة خفية لتقسيم سوريا والمنطقة لدويلات متفرقة إلى رسم دولة أخرى في العراق. ففي سوريا الآن تم تثبيت الخريطة على عدة دول، منها دولة يحكمها بشار الأسد، وأخرى يحكمها "الجيش الحر"، وثالثة تحكمها "داعش"، ورابعة يحكمها الكرد، ولكل دولة أيديولوجيتها وقوانينها وعلاقاتها الخارجية والداخلية، وسكانها وحكامها، وإعلاميوها الذين يشكلون الرقم الأهم في معادلة التقسيم.
وبعد أن انتهت المرحلة الأولى لتفتيت العراق، بدأت المرحلة الثانية التي هدفت لتفتيت المفتت وتقسيم المقسّم، فالأكراد في شمال العراق يشكلون دولة داخل الدولة، وعشائر الأنبار استماتت في تأسيس دولتها، ومقتدى الصدر رسم حدود دولته، حاله حال السيستاني الذي أمّن حدود دولته، وأخيراً دولة لـ"داعش"! وبعنجهية غريبة يتم إعلان ونشر الخارطة الجديدة، وهي سابقة لم تحدث في تشكيل الدويلات الأخرى بالمنطقة، إذ لم يحدث أن تم نشر أو إعلان خارطة تقسيم من هذا القبيل.
وهكذا نجد الوضع في كل دول "الجحيم العربي" التي تتحرك فيها هذه الدّمى التي تستعرض مسرحية سايكس بيكو الجديدة تنفيذاً لوصية كونداليزا رايس بعدم خلع قلادة وتعويذة "الفوضى الخلاقة".