الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سباق التسلح مدخل نحو الصفقة السياسية؟

سباق التسلح مدخل نحو الصفقة السياسية؟

24.06.2013
مطاع صفدي

القدس العربي
الاثنين 24/6/2013
كان عالمنا العربي طيلة سبعة عقود متوالية، يشكو من طغيان أمريكا وتدخّلها السيىء في مختلف شؤونه المصيرية. وهاهو اليوم بات يشكو من التخلّي الأمريكي. كأنما لم يعد للعرب من طاقة استقلالية في إدارة أمورهم (الوطنية) المستعصية لوحدهم، فهم محتاجون إلى أنواع من النجدات الأجنبية، منذ أن تدوَّلت ثورة سورية أصبح الفعل العالمي عنصراً بنيوياً في أهم تطوراتها، خصوصاً مع غَلَبَة جانبها العسكري على جانبها السياسي أو المدني. ذلك أنه لا نشاطٌ عسكري من دون أسلحة، ولا أسلحةٌ من دون أنواعها المتفوقة والمتقدمة. فهل أمست الثورة السورية شأناً مُدَولناً خالصاً، يظل هذا الاستفهام قابلاً للإنكار بقدر ما يبرهن شباب سورية أنهم مازالوا ثواراً في ميادين الوطن الجريح، ولم يصيروا مجرد أنفار في ميليشيات فوضوية، تديرها خيوط المخابرات الأجنبية.
مؤتمر القوى الدولية الماضي منذ أسبوع، لن تساهم نتائجُه الملتبسة إلى حد بعيد في استعادة الثورة لشخصيتها السيادية على ذاتها، هؤلاء القادة العالميون يعلنون بكل صراحة، وهم مجتمعون أنهم مستقيلون عملياً من أهم مبدأ لما يدعى بالقانون الدولي، وهو حماية إنسانية هذا العالم.
فلقد اعترفت لجانُ حقوق الإنسان المنبثقة عن الأمم المتحدة بالمعدلات الرهيبة غير المسبوقة في عدد القتلى الأبرياء، المتساقطين تحت القنابل العشوائية للنظام السوري الجهنمي، وكشفت هذه التقارير عن وحشيات المجازر الجماعية وضحاياها من الأطفال والنساء، غالباً. أما قادة العالم (المتقدم) هؤلاء فقد تباحثوا في مختلف قضاياهم التي تخص مصالح حكوماتهم، في حين غابت عنهم كلياً مصلحةُ الإنسان في ظل هذا الخليط من الصفقات الدلوماسية المشبوهة. لم يخطر ببال أحدهم أن يقدم اقتراحاً واحداً آمراً بوقف المذبحة السورية المستديمة.
ألم يكن مشروعاً ومفروضاً أن يتفقوا على استخدام السلطة الدولية لوقف الإجرام اليومي الذي استنكرته مجتمعات الأرض كافة.
بدلاً من ذلك النقاش الدموي حول مصالح التسليح، ألم يكونوا قادرين، لو أرادوا، أن يتفقوا على منع التسليح مُوَّرداً من أية دولة كانت. ألم يكن ياستطاعة أقوى قوى الأرض إصدار أوامرها بإغلاق مذابح سورية، هذا البلد الصغير والوحيد مقارنة بحجم العمالقة المتنادين لتفاهم حول ما يسمونه بالقضايا السياسية والاقتصادية العالقة، أليست الحرب السورية هي من أتعس المصائب الكونية الكبرى، كما تتبارى صحافتهم في تداول عناوين هذه المصائب، وتقرأها جماهيرهم العاتبة والغاضبة من لامبالاة الوجدان الإنساني في كل أصقاع العالم المُتَمَدين..
إذا كان أطراف المذبحة السورية القريبون والبعيدون منهم لا تحركهم أو تقلقهم سوى الرغبة في الانتصار علي الآخر، أو الخوف من انتصار هذا الآخر على (الذات)، فلا أحد من أكبر كبراتهم يفكر بالنصر الآخر. لماذا لا يفكرون بأسباب أخرى للانتصار على المذبحة الكلية الشاملة، أليس بمقدور هذا (المجتمع الدولي) أن يستخدم شرعيته العالمية في معاقبة قتلة الإنسانية، حتى وإن لم يعتمد وسائل الحرب نفسها.
لكن للأسف فإن عظماء القادة مشغولون بصراعات الحصص الدبلوماسية الموبوءة بأخطر المصالح القوموية والفئوية الضيقة. احتكارات الصناعة السلاحية لا تزال هي القوة الدافعة والمركزية في كل من الرأسمالية الأمريكية العريقة والرأسمالية الروسية المستجدة. فلن تكون هذه الاحتكارات غائبة أبداً عن أسواق الصفقات الكبرى التي توفرها خاصة حروب (الشرق الأوسط)، بأنواعها المختلفة من إقليمية وأهلية، وهذه الأخيرة هي المتواترة الحدوث، وهي المستديمة أكثر من الأولى. والروسيا القيصرية الجديدة، عازمة بكل ضغائن هزائمها الماضية على استرجاع أدوار الاتحاد السوفيتي بدون حزبه وأيديولوجيته، ولكن بكل غطرسة ذي لسعة قوموية وطبقية عائدة إلى الجذر القيصري واقطاعه الاستبدادي المطلق.
أمريكا المترنحة تحت أصداء هزائمها العسكرية والاقتصادية، تعيش أدق لحظات الانعطاف، بل الانحدار من مستوى الدولة الأولى الحاكمة للعالم، إلى مستوى الدولة المحكومة بضرورات هذا العالم المختلف، المتمرد على الواحدية والطامح إلى تعدديات التوازنات الجديدة مابين كل أعضائه كبارهم وصغارهم.
أما (شرقنا الأوسط) فهو الساحات المتقدمة لما هو أوسع وأعمق منه، إنه قارة العرب والإسلام. ولعل الكثيرين من قادة الغرب خاصة لا يمانعون في أن تحترق هذه القارة من أقصاها إلى أقصاها. ليس تجّار السلاح الرابحين وحدهم، بل هنالك أيضاً هذه الجماعات من الأتباع الصغار المنخرطين في تجارات الموت المحلية والإقليمية. سلسلة من حلقات لا تنتهي من سماسرة المال والسلاح، والدين أو .. (المبادئ)، تشتغل في خبايا المنعطفات الحدثية، لا تتحرك في هوامشها فحسب، بل تكاد تتغلغل في منعطفات الثورة، تستبدّ بإرادة الثورة من وراء ظهرها، وما فوق رؤوس البعض من قادتها الرئيسيين.
… أخيراً يكاد الجميع يصلون إلى اعتقاد مشترك، أنه لا منتصرٌ ولا مهزومٌ في سورية منذ سنتين ونصف، وسيظل الوضع هكذا إلى ما لانهاية. معنى ذلك أن المقتلات المتبادلة باتت مطلوبة في ذاتها، إنها الحرب العبثية إذن التي لا طائل تحتها، سوى أنها تستهلك البشر والحجر، وتبدد المال والسلاح في معاركها العقيمة عسكرياً واستراتيجياً.
إذا ما حزم الغربُ أمرَه، أمريكياً وأوروبياً معاً، وسمح بتوريد الأسلحة التي يطالبه بها زعماء الميادين الثائرة، فلن يكون هذا التوريد من دون تقنين بالنوع والكم. وفي كل الأحوال قد يعدّل السلاحُ الجديد بضعَ درجاتٍ من مستويات المقاومة والدفاع، والهجوم المحدود دائماً، لكنه لن يأتي بمعجزة ما يسمّى بالحل النهائي. كل ما هنالك أنه سيفجّر سباقاً مريراً ورهيباً في التسلح والتزود حتى بأعلى تقنيات الفتك، بما فيها أسلحة الدمار الشامل. وقد يندفع الطرفان: النظام والثورة، في غماره، بما يجعل مرحلة الحسم النهائي لأي منهما ضرباً من المستحيل.
قد تكون لمشكلة التسلّح أهمية فاصلة، عندما يقتصر سيْرُ المعارك على المقاتلين وحدهم. لكن دَوْلَنَة الصراع في سورية جعل الأفرقاء العالميين شركاءَ منخرطين بالقوة والفعل، في حدثيات المعارك اليومية عينها. أما مسؤوليات النتائج فلم تعد حملاً يخصّ العدويْن المباشريْن فقط، إذ وراءَ كل منهما هناك اصطفافٌ كامل من الدول ذات الحجوم المتنوعة، لكنها الفعالة في مجالاتها، وليس بينها من يتقبل هزيمة الذات مقابل الآخر. هل نتصور مثلاً أن روسيا أو إيران ستخرجان من المعمعة صفر اليدين كل منهما، بعد أن كاد نظامهما يرتبط عملياً بمصير النظام الأسدي.
فقد باتت سورية أشبه بخط الدفاع الأول عن شرعية القيصيرية الروسية الجديدة، والخمينية الصفوية. كل منهما لن تتخلى عن مشروعها الكوني لمجرد التفريط بالمصير الأسدي الذي أضحى بذلك أقرب إلى موضوع رهان عالمي منه إلى مجرد مصير لرئيس فاشل أنجز مهمته، أو لم ينجزها ومشى.
جماعة الأسد الدوليين لا يفرّطون بنظامه وإن اضطر بعضهم إلى التفريط بشخصه، وفي المرحلة الراهنة التي لها عنوان واحد: سباق التسلّح، تتجدد إشكالات الاستعصاءات القائمة والنامية، منذ انطلاق الأحداث، سواء منها تلك الأوضاع المعقدة بين أجنحة الثوار من مقاتلين وسياسيين، وما بين الوطني والأجنبي، ومنها ما هو فكري وأيديولوجي. هذا وإن كانت الأفكار قد لعبت حتى الآن أدوارَها الأضعف في التحزبات القائمة.
لذلك يطفو العمل السياسي فوق ماهو سواه، وتحديداً في الخطوط الخلفية من ميادين النار، حيثما يسود منطق الصفقات وحده، ليس فقط في مجال عَقْد أو فكّ التحالفات أو الولاءات، ولكن فيما يتخطى هذه الهامشيات صورياً على الأقل، نحو تسليط الانتباه حول أسئلة الكينونة الثورية نفسها. أفعال هذه الكينونة أو ما يتكنَّى باسمها، سبقت أفكارها، وحين تتردَّى هذه الأفعال في مهادي الخطأ قد يتصاعد أحياناً صوت النداء على الفكر المنسيّ؛ فما نفْعُ الفكر بعد فوات الأوان ما أن تقع الواقعة، أو أن الفكر لن يكون له نفعٌ إلا في هذه اللحظات العصيبة، فلننظرْ ولننتظرْ..
سباقُ التسلح سيفرض سباقَ التصاعد بين المعارك والتباري بين نوعيات الفظائع المبتكرة. وسوف ينخرط الجميع في هذا السُّعار المجنون، لن تطلَّ العقلانية إلا عندما تصبح الصفقة السياسية هي مطلب الجميع، وإن لم تتلفّظ بها كل الألسنة، لكن لماذا لا يولد العقل إلا بعد العنف، فليأت إذن وإن وصل متأخراً.