الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سراب "الضربات الموجعة": بوتين ينقذ الأسد و... أوباما

سراب "الضربات الموجعة": بوتين ينقذ الأسد و... أوباما

14.09.2013
عبد الوهاب بدرخان


الحياة
الخميس 12/9/2013
أحرزت الاتصالات السرّية، الأميركية – الروسية، نتيجة تلبي التمنيات الضمنية لباراك أوباما ويمكن أن تبدّل الموقف من قرار بتوجيه ضربة عسكرية إلى الاكتفاء بأن مجرد التهديد بها حقّق الغاية، فبدلاً من «ردع» النظام السوري أمكن انتزاع سلاحه الكيماوي. لم يكن الهدف ولا لحظة مساعدة المعارضة السورية في قتالها، إذاً فبإمكان النظام أن يواصل القتل كيفما يشاء فقد اشترى لتوّه بقاءه لوقت زائد لا معنى له سوى إطالة المقتلة والتمادي بها. وبالطبع تبعث هذه «الصفقة» المحتملة إلى الشعب السوري برسالة محبطة، مفادها أن تضحيات نصف مليون من أبنائه بين قتيل ومصاب وسجين ومفقود، فضلاً عن ستة ملايين بين مهجّر ونازح، لا تعني شيئاً في مساومات الدول الكبرى ولا يستحق النظام عليها أي معاقبة.
بين تصويت غير مضمون في الكونغرس وعرض روسي - سوري يتضمّن تنازلاً ملموساً، استجدّ لدى أوباما خيارٌ ثالث هو إعادة النظر في قراره. فالأهم عنده كان تسجيل وجود «خط أحمر» أميركي للسلاح المحظور، وبدا مع الترويج للضربات أنه لا يمانع تغيير طبيعة الصراع داخل سورية، لكن هذا لم يكن أولويته. أما فلاديمير بوتين فكان المهمّ عنده إجهاض الضربة وليس محاسبة حليفه السوري على استخدامه السلاح الكيماوي، وظلّ الأهم إبقاء خيار الحل السياسي الذي فشلت موسكو وأفشلها النظام في إدارته مسترشدة بمقترحاته غير الواقعية وغير العملية.
مع انتهاء قمة الدول العشرين لم يتضح أن الاتصالات البعيدة من الأضواء أنجزت اختراقاً يكبح الاندفاع الأميركي - الفرنسي نحو عمل عسكري ضد النظام. فالجانب الأميركي أوضح أن التخلي عن الضربة ممكنٌ فقط لقاء تنازلات من بشار الأسد على محورين: الأول قوامه سحب الترسانة الكيماوية من يد النظام، والثاني يطالب بمبادرات عملية تدفع قدماً بحل سياسي يمكن إطلاقه في إطار مؤتمر «جنيف - 2». أي كان هناك بحث عن صفقة متكاملة تستبعد العمل العسكري لكنها تتعامل بحسم مع المعضلة الكيماوية، وتمهّد لمباشرة المعالجة السياسية للأزمة. وإذ أصبح التنازل الأول (الكيماوي) على الطاولة فإن «الصدمة» التي أحدثها حجبت التنازل الآخر (السياسي) فبقي معلّقاً، ولا يُعرف ما إذا كان ينتظر تأكيد التخلي نهائياً عن الضربة أم إنه متروك لمزيد من المساومة. وكان المتداول في هذا المجال أن يعلن الأسد - على الأقل - عدم السعي إلى مدّ رئاسته بعد انتهائها منتصف العام المقبل، وهو ما كان الأميركيون لوّحوا بقبوله مشترطين أن لا يعرقل خطوات نقل السلطة.
وفيما ظلّ أمر الضربات الصاروخية معلّقاً على تصويت مجلسي الكونغرس، وعليه توقف أيضاً مصير «التحالف» الدولي الذي تولّى الوزير جون كيري بلورته في جولة أوروبية من دون نتائج قاطعة، جاءت «المبادرة الروسية» بمثابة إنقاذ للجميع: للمترددين في الكونغرس، لأوباما الذي ستتعرّض هيبته للمهانة، للأوروبيين المرتبكين إزاء حراك الرأي العام، لموسكو التي خشيت أن تعطّل الضربة سياستها الانتهازية، لإيران التي تظاهرت بالتأهب للردّ، لكن حساباتها الجديدة لم تجد مصلحة في المواجهة حتى لو رغبت فيها، وأخيراً لنظام الأسد الذي صعّد كلامياً وأدرك عملياً أن وضعه الحالي بائس وأن سلسلة من الضربات قد تقوّض مقوّمات تماسكه. لا شك في أن موسكو لم تحصل بسهولة على هذا التنازل الكيماوي من النظام، وبمجرد أن طلبته، بل اضطرت للمرة الأولى من عامين لإفهام طهران ودمشق أن الضربات الأميركية ستفسد استراتيجيتها، بالتالي تجب مساعدتها على منعها.
برهن بوتين في هذه المساومة على أنه يجيد اللعب بأوباما وخياراته، إذ تركه يتخبّط مع «الخطّ الأحمر» وشاهده ينصب فخّاً لنفسه باللجوء إلى الكونغرس، ثم ظهر كمن يرمي إليه بخشبة الخلاص. حتى النظام السوري عرف كيف يخترق الإعلام الغربي ليخاطب الرأي العام ومترددي الكونغرس بما يريدون سماعه مرفقاً بتهديدات مدروسة وإنْ كانت جوفاء، ثم إنه عرف كيف ومتى وأين يقدّم التنازل ولو مُجبراً، فموافقته على تدمير مخزونه الكيماوي لم تثبت فقط أنه مسؤول عن مجزرة الغوطة بل أكدت أنه افتعل الهجوم الكيماوي كمقامرة لتحريك معطيات الصراع، والمهم بالنسبة إليه أنه سيتفادى ضربه لقاء خلعه أحد أثمن أثوابه.
للمرّة الأولى أيضاً منذ بداية الثورة السورية لاح لأبنائها أن ثمة أملاً يمكن التعويل عليه، فجرائم النظام بررت حتمية معاقبته أياً تكن الجهة التي تضربه، فأي بشاعة يمكن تصوّرها للتدخل الخارجي (بالاقتباس من ياسين الحاج صالح) لا يمكن أن تكون أكثر فظاعة من خنق الأطفال بالغازات السامة واغتصاب النساء والقتل الجماعي للمدنيين العزّل وتعذيب المخطوفين/ المعتقلين وتشريد الناس وتدمير المدن بصواريخ الدمار الشامل... لكن ضربات أميركا ما لبثت أن صارت سراباً، بل طعنة في صدر الشعب السوري. والواقع أن أوباما يحصد حالياً مع إدارته نتائج التلكؤ والتردد والإهمال التي هيمنت على تعامله مع الأزمة السورية. فكل ما عُرض عليه قبل عام أو أكثر ورفض بتّه لأسباب غير مفهومة في معظم الأحيان، يبدو اليوم وكأنه يعود إليه مجبراً بعدما استدرجته الأزمة استدراجاً. إذ طرح، مثلاً، تعزيز قدرات «الجيش السوري الحر» كأحد الخيارات البديلة إذا حالت التعقيدات دون توجيه الضربات المزمعة، ومعروف إلى أي حد عارض أوباما تسليح المعارضة وإلى أي حد تلاعبت إدارته بتدفق الأسلحة حجباً أو إفساحاً، ما جعل نظام بشار الأسد متيقّناً بأن واشنطن لم تتوقف عن المراهنة عليه، وما مكّنه من الشروع في تغيير المعادلة الميدانية للصراع وبالتالي العبث بشروط أي «حل سياسي» متوازن. أكثر من ذلك، يُستدلّ من «الحرب الباردة» المستجدّة بين أميركا وروسيا أن محور التنافس الحالي في سورية هو الهيمنة على الشرق الأوسط من جهة واحتواء النفوذ الإيراني من جهة أخرى. ومعروف هنا أيضاً إلى أي حدّ كان أوباما متموقعاً بل حاسماً في خيار «الانسحاب» و «الاستقالة» من الشرق الأوسط، ولذلك كان دائم التهرّب من مواجهة الأزمة ودائم الميل إلى التستر على معلومات مؤكدة بأن النظام استخدم السلاح الكيماوي عشرات المرات، بل دائم التقليل من هول الأحداث والخسائر البشرية في سورية. والنتيجة التي يواجهها حالياً أن ناقديه يقولون إنه غير مقنع وإنه يريد الذهاب إلى عمل عسكري في منطقة حساسة ومتوترة من دون أن تكون لديه رؤية استراتيجية واضحة.
وهذا مأخذ صحيح لأن مخططي «الضربات المحدودة» صمموها وفقاً للمعايير التي حددتها إدارة أميركية لا تريد أن تضرب أصلاً، ومع توصيفهم بأنها ستكون «موجعة» أكدوا أنها لا تريد التسبب بانهيار النظام من دون وجود بديل جاهز. بات ما شهدناه أخيراً يبدو كأنه مجرد كلام في كلام عن حرب لا يراد لها أن تقع، إلا أنه مع ذلك استطاع أن يعرّفنا إلى حدود كل طرف. فالنظام خشي أن يجد نفسه أمام واقع جديد لم يسبق له أن اختبره ولا اختبر انعكاساته على قدراته القتالية وعلى معنويات قواته واستطراداً على استراتيجيته للبقاء والسيطرة. أما الإيرانيون الذين توزّعوا الأدوار بين من يتوعد بردٍّ قاس على الضربات ومن يرسل إشارات تدعو إلى تسوية، فإنهم كسواهم من القوى الخارجية يخوضون في سورية حرباً بالوكالة يستخدمون فيها قوات النظام ومقاتلي «حزب الله» اللبناني و «الميليشيا العراقية» التي أشرفوا على تنظيمها. ويدرك الإيرانيون أن الردّ الوحيد ذا المغزى لا بد أن يكون ضد إسرائيل غير أن أخطاره كبيرة، والتوقيت غير مناسب. لذا، فضّلوا مثلاً الاستمرار بإطلاق التهديدات مع الاختباء وراء «مبادرة» هزيلة أعلنها نوري المالكي، ولم يعرها أحد اهتماماً.
�طٮ������ @�� ، وسيواصل الإيرانيون هجومهم الكاسح في هذه المنطقة، وسينتجون لا محالة الأسلحة النووية التي يحاولون إنتاجها، والفوضى ستعم الشرق الأوسط، و«القاعدة» وغيرها من التنظيمات الإرهابية ستستوطن فيه.. وعندها، فإن الأميركيين سيعضون أصابعهم ندما، ولكن عندما يكون «قد فات الفوت»، وعندما لا ينفع الندم!
msoaL i-��� @�� ly:"Simplified Arabic";mso-hansi-font-family:"Simplified Arabic"; mso-bidi-language:AR-JO'>لقد فهم تشرشل طبيعة النظام النازي، وطبيعة هتلر على وجه الخصوص. ولو أن أعضاء الحكومة السابقة استمعوا له، وسارعوا بمواجهة السرطان النازي واستئصاله من جذوره قبل استفحاله ؛ لأنقذوا ملايين الأرواح التي ذهبت ضحية التأخر في اتخاذ قرار الحرب في الوقت المناسب . فقرار الحرب يجب أن يتخذ في الوقت المناسب ؛ دونما تعلل بالتفاصيل المثيرة والمُحيرة والمربكة، والتي يجب أخذها في الاعتبار، ولكن لا يجوز أن تتحكم في القرار المصيري الذي يحدد مصير أوطان بأكملها، ويضعها على كف عفريت، أي على كف مزاج رئيس !.
كما هي الحال في الماضي القريب، نجد اليوم الرئيس الأمريكي يتحدث عن ترحيبه بالحل السلمي ؛ إذا ما كان يضمن عدم تكرار الجريمة (ويقصد المذبحة الكيماوية فقط)، ولا يدرك أن النتائج الفادحة لتأخره في اتخاذ قرار الحرب، أو لإلغائه قرار الحرب، قد تفوق كل ما خسرته أمريكا في كل من العراق وأفغانستان.
إن النظام السوري ليس مجرد نظام دكتاتوري فحسب، بل هو أخطر من ذلك . وأنا هنا أتكلم بشكل أعم، أي عن انعكاسات بقائه على الشعب السوري من جهة، وعلى مسيرة الدكتاتورية في العالم العربي من جهة أخرى . فمن المؤكد أن بقاء هذا النظام سيكون مؤسسا لشرعية دكتاتورية عربية أعمق وأشمل، دكتاتورية طاغية، متعاضدة، قد تمتد على طول القرن الحادي والعشرين، وستتفرع وتتناسل على مستوى الوجود المعنوي/ الرمزي، وعلى مستوى الوجود المادي، إلى أن تلغي الإنسان العربي من أساس وجوده الذي لا يزال مهزوزا إلى الآن، إلى درجة أن بات وجودا قابلا للإلغاء.
من حقنا أن نفكر في مسار هذا الحل السلمي الأمريكي المقترح : أين سيكون موقع الشعب السوري، أو على الأقل أين سيكون موقع القطاع الكبير من الشعب السوري الذي لم يعد يملك إلا خيار المواجهة مع نظام فاشي يتخذ قرارات الإبادة الجمعية وكأنه يمارس عملا روتينيا لا علاقة له بأرواح ملايين الأبرياء .إن عملية الإبادة التي يمارسها النظام السوري بحق شعبه منذ أكثر من سنتين ليست عملية استثنائية، ليست حالة طارئة على فلسفة السياسة الأسدية / البعثية (فالمذابح في حماة وتدمر وفي مواجهة الفلسطينيين في لبنان، وعمليات الاغتيال الواسع في الداخل السوري وفي الخارج ...إلخ هي ما تكشف عن طبيعة النظام)، ليست أخطاء وتجاوزات يمكن إجبار النظام على الرجوع عنها، والبدء بعملية إصلاح تسع الجميع . إنها ليست حالات مرضية طارئة على الجسد الصحيح، بل هي منهج سياسي، ورؤية ثقافية خاصة، ونزعة وجدانية متأصلة في عمق النفس، بحيث لا يستطيع النظام إصلاح نفسه حتى لو أراد ؛ لأنه هو بذاته مريض .
وطبعا والحال كذلك، ومن باب أولى لا يستطيع أحد من خارجه إصلاحه، ولو امتلك المعجزات.
هذا يعني أن مثل هذا النظام لا يمكن إصلاحه إلا باستئصاله من جذوره، باجتثاثه من طبقة الأرض السابعة، لا بد من عملية تطهير وتعقيم ثقافية تعقب استئصال المكونات النظامية، تلك التي تحمي النظام أو تلك التي تحتمي بالنظام ؛ لأن بقاء أي منها كفيل بعودة هذا النظام السرطاني على وجه من الوجوه. والغرب، عندما يعمى أو يتعامى عن هذه الحقيقة، فهو يستجيب لسهولة الحلول السطحية والظرفية، دون أن يعي خطورة عدم الإقدام على بتر هذا العضو الفاسد من جسد الإنسانية، وليس من جسد العرب أو المسلمين فقط .
صحيح أنه سيكون لعملية الاستئصال تداعيات محلية (= سورية) وإقليمية كبيرة، وربما خطيرة. لكن، لا يمكن أن نقيس هذه التداعيات بتطلعاتنا المثالية عن واقعٍ نتمناه، بل لا بد أن نقيس ما نخشاه من هذه التداعيات بما يمكن أن يسفر عنه التسامح مع نظام إجرامي متوحش، لم يتوانَ، ولن يتوانى، عن ارتكاب أعمال إبادة جماعية، ستشعر البشرية جمعاء ولو بعد حين ت بعار أنها سكتت عنه في يوم من الأيام.
نحن لا نتجاهل التفاصيل المهمة . نعم، هناك خطر حقيقي ماثل في ساحة النزاع . وهو وجود بعض الجماعات الإرهابية، خاصة وأن بعضها له اتصال وثيق بالقاعدة . هذا خطر حقيقي بلا شك، ولأنه كذلك فإن نظام الأسد يلعب عليه، ويضع نفسه إبان مخاطبته العالم الغربي كخيار بديل لهذه الجماعات، وكأنه أو الإرهاب هما الخيار الوحيد، ولا خيار غيره .
مسألة الإرهاب في سورية رغم خطورتها هي مسألة ثانوية إذا ما قيست بخطورة النظام الحاكم. مسألة الإرهاب يمكن إدراج حلّها في إطار حل مشكلة النظام ذاته. أي ما الذي يمنع من القضاء عليها وعلى النظام وفي وقت واحد، وأن يتم توجيه الضربات إلى هذه الجماعات وإلى النظام بالتزامن، في الوقت الذي يتم في دعم القوى الأخرى المضادة للنظام وللإرهابيين بكل صور الدعم، المادي منها والسياسي؟
هذا هو الخيار الأمثل ؛ إلا أن يرى الغرب أن النظام الأسدي هو النظام المثالي المتوفر حاليا للحفاظ على أمن إسرائيل، وأن كل الضمانات التي يُمكن أن يقدمها الآخرون لا ترقى إلى ما يقدمه نظام المقاومة والممانعة الذي رفع راية الاستسلام الخاضع الخانع الخائن، قابلا بتسليم أسلحته لأعدائه (وسيقبل تبعا لظروف التهديد الغربي حتى بتفتيش غرف نوم الرئيس، وربما حتى بتفتيش..!) ؛ من أجل بقاء شخص الرئيس الملهم على قمة هرم النظام، نظام المقاومة والممانعة والصمود، نظام الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، النظام العروبي الوطني الذي قتل أكثر من مئة وعشرين ألف سوري في سنتين، بينما لم يقتل إسرائيليا واحدا على مدى أربعين عاما من عمره المديد في سلطة القهر والاستبداد..