الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سقوط وإحياء المشاريع الكبرى

سقوط وإحياء المشاريع الكبرى

21.09.2013
د. رياض نعسان أغا



الاتحاد
الجمعة 20/9/2013
كان سقوط المشروع السوفييتي أهم حدث شهده القرن العشرون، ولم يكن الانهيار سياسياً فقط، وإنما كان انهياراً إيديولوجياً سقطت فيه نظريات الماركسية، ومضت إلى ذاكرة التاريخ. ولم يكن إعلان فوكوياما عن "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" بانتصار الليبرالية وقيم الديمقراطية، أكثر من معارضة رمزية من طراز الكيد السياسي لنظرية كارل ماركس حول المادية التاريخية التي أعلنت من قبل نهاية أخرى للتاريخ بزوال الفوارق بين الطبقات، والرجلان واهمان، ولا يبعدان كثيراً عن وهم هيغل المثالي. والمهم أن سقوط المشروع السوفييتي الضخم الذي كاد ينجح في حرب النجوم، ولكنه فشل في كسب القلوب، فتح شهية الشعوب الأخرى التي بدأت تنتفض ضد الديكتاتوريات تباعاً، وتمكنت الولايات المتحدة الأميركية من أن توظف النتائج لصالحها، وأن تستعيد مفهوم النظام الدولي الجديد ذي القطب الواحد وتعلن سيطرتها النهائية على العالم وعلى فضائه.
كانت المشاريع الأخرى المتصارعة في العالم قد تلقت الهزات الارتدادية عن سقوط الاتحاد السوفييتي، وفي منطقتنا اختلفت قواعد الصراع بين المشاريع الكبرى، وهي المشروع الصهيوني المتجذر في المشروعين الأميركي والأوروبي، والمشروع القومي العربي، والمشروع الإسلامي الذي تشعب مذهبياً بين مشروع سني وآخر شيعي، وقد وجد المشروع الشيعي نوافذ أوسع للحضور بعد غزو العراق وغلب عليه في الباطن نزوع شوفينية قومية ومذهبية تستحضر القومية الفارسية كما استحضر المشروع القومي العربي شعارات تصالحية لربط العروبة بالإسلام. وأقيمت منتديات لترسيخ التواصل بين المشروعين القومي والإسلامي، لمواجهة خطر المشروع الصهيوني، ضمن براجماتية "فرض الواقع للحقيقة كما يريدها هو، متجاوزاً أسس الحقيقة كما هي"، وقد أنتج علاقات مرحلية ممكنة بين من تركوا ما يختلفون عليه، وبحثوا عما يلتقون حوله، وهو مقاومة المشروع الصهيوني كما أعلنوا.
ولم تكن الصهيونية في منأى عن السقوط فقد تم إعلان موتها بالتزامن مع الإعلان الرمزي لوفاة العرب، ففي فترة سقوط العراق (2003) ورمزية سقوط المشروع القومي بسقوط "البعث"، كتب إبراهام بورغ رئيس البرلمان الإسرائيلي الأسبق في يديعوت أحرونوت ينعي الصهيونية قائلاً "أرى أننا نشهد نهاية للمشروع الصهيوني على الأبواب. وهناك إمكانية فعلية لأن يكون جيلنا هو الجيل الصهيوني الأخير".
ولقد جاء إطلاق فكرة الشرق الأوسط الجديد في محاولة صهيونية غربية لملء الفراغ الحاصل في المنطقة بعد سقوط مشاريعها ذات الخصوصيات القومية أو الدينية، وللإفادة من حالة الانهيار لبناء رؤية جديدة، تتجاوز الصراع العربي الإسرائيلي، وتشكل محيطاً مناسباً لجعل إسرائيل نموذجاً ديمقراطياً في بيئة مصالح تسقط من حساباتها ثقل التاريخ القومي والديني لكل شعوب المنطقة عدا إسرائيل التي أصرت على يهودية دولتها. ولم تكن فكرة الفوضى الخلاقة بدعة جاءت بها كوندوليزا رايس في تصريحها الشهير عام 2005 فهذا التعبير شهير في أدبيات تاريخية سابقة، ولعل نجاح الفوضى بتدمير العراق ألهم حكومة بوش إمكانية تعميم هذه الفوضى على المنطقة كلها بعد أن سقطت مشاريعها، ولم تكن مشاريع المقاومة على اختلاف مذاهبها قادرة على بث الطمأنينة في نفوس العرب والمسلمين جميعاً، لأن بعضها يعلن ولاء خالصاً لإيران التي لم تخف أطماعها في العراق، وكانت تتسلل إلى الساحة السورية بيافطة المقاومة التي هلل لها السوريون وأخفوا امتعاضهم من كونها تحمل راية الثأر للحسين، ولهذا الثأر حكاية مأساوية داخل الثقافة العربية ولا صلة على الإطلاق بينه وبين مقاومة العدو الإسرائيلي.
ولقد سقط مشروع الشرق الأوسط الجديد، وصارت فكرة الفوضى الخلاقة موضع سخرية نخبوية وشعبية فور الإعلان عنه، وقد كان لصعود تركيا في الوقت ذاته تأثير كبير على دفع المنطقة نحو تشكيل تفاهمات، لم ترق إلى مستوى التحالفات، ولكنها بدت تكويناً لرؤية جديدة تحاول أن تصنع من الشرق الأوسط قوة دولية في مشروع تركي عربي إيراني. وكانت اللقاءات التركية مع القيادات الإيرانية ومع جل حكام المنطقة توحي باحتمال نهوض مختلف عن الرؤية الأميركية الصهيونية، على رغم أن هذا المشروع كان يمد يده اليسرى للتصالح مع إسرائيل، مع بقاء اليمنى على الزناد.
ولم يكن ممكناً لهذه الرؤية أن تنجب مشروعاً مشتركاً، فالإسلاميون في تركيا ينظرون إلى الشرق، بينما العلمانيون ينظرون إلى الغرب، والمتشددون في إيران يصرون على التوسع فكراً وعقيدة وتسلطاً على العراق وسوريا، ويصرون على أن الخليج فارسي محض لا يرون للعرب فيه حضوراً، ويتمسكون باحتلال الجزر الإماراتية وهم الذين لم يبقوا من آثار الشاه المخلوع سوى هذا الظلم الواضح، والتهديد المستمر لدول الخليج العربي.
وحين قامت الثورات العربية حدثت حالة من الدهشة والذهول، أصابت الجميع، وتفرق الناس في فهم ما يحدث.
كانت دول الخليج هي أكثر الدول العربية استقراراً على الصعيد الداخلي، لأنها وفرت لمواطنيها ما احتاج إليه أشقاؤهم في دول الثورات من الطمأنينة والكرامة والحرية والراحة النفسية والرضا في التفاعل بين الحاكم والمحكوم، بنسب تتفاوت بين بلد وآخر، فضلاً عن حالة الرخاء الاقتصادي، وتوفير احتياجات المواطنين في إطار مشاريع تنموية عملاقة. وكان من اللافت أن تغيب الحكمة عن قادة الجمهوريات المستبدة بينما تظهر الحكمة في أنظمة الحكم التقليدية، وسيذكر التاريخ مستقبلاً حكمة سلطان عمان وحكمة ملك المغرب، كما سيذكر حماقة القذافي ومن اتبع نهجه الذي أوصله إلى نهاية تراجيدية بشعة لأنه قرر أن يحارب شعبه.
ومع "الربيع العربي" الذي جاء بلا مشروع واضح المعالم، حاول المشروع الإسلامي أن يملأ الفراغ، ولكنه سرعان ما سقط في عجزه عن فهم حركة التاريخ، ولم ينجح المشروع القومي في تحقيق أي حضور، لأنه تمسك بالشعارات التي كانت مجرد ذرائع لتكوين حامل للحكم وستارة لإخفاء مشاريع سلطوية فئوية صغيرة، وصار مضحكاً على رغم الأسى المرير أن يقال إن الثورة السورية جاء بها الأعداء لإسقاط مشروع المقاومة، كأن الشعب السوري هو الخائن، وكأنه قام بثورته لمنع النظام من تحرير فلسطين أو إعلان الوحدة العربية!
إن الحاجة ماسة اليوم لأن يتنادى العرب جميعاً لبناء مشروع عربي جديد، يلبي تطلعات الأمة، ويعيد بناء ما تهدم منها، وستكون حالة مأساوية جديدة أن يفيد الروس من ثورات العرب فيضخوا الحياة في مشروعهم المترنح، وأن تفيد إسرائيل في ضخ قوة جديدة في مشروعها الصهيوني، بينما يبقى العرب يتصارعون بلا رؤية واضحة لمستقبلهم كأمة.