الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سقف الحلم مقعد في سرفيس.. كيف تبددت أحلام السوريين؟ 

سقف الحلم مقعد في سرفيس.. كيف تبددت أحلام السوريين؟ 

23.05.2021
طارق علي


النهار العربي 
دمشق 
السبت 22/5/2021 
يسخر المهندس المدني علاء من السؤال عن أزمة المواصلات الخانقة في سوريا... يجد أنّه من الترف أن يطرح سؤالاً على شاكلة، "ماذا تفضل أن تستقل خلال تنقلك؟"، فالشاب الثلاثيني بات يعتقد أنّه قضى وقتاً في انتظار وسيلة النقل التي سيستقلها إلى عمله أكثر من الوقت الذي قضاه في محاضراته الجامعية قبل أن يتخرج. 
 "ضرب من ترف مبالغ به الحديث عن الاختيار. في دمشق وسيلة النقل تختارك، لا تختارها أنت، ولكن هنا يمكن الحديث عن الرفاهية حين تصير داخل الوسيلة، فيوم أمس مثلاً، ظفرت بمقعد قرب النافذة، وتعرضت لنظرات حسد من زملائي المحشورين أمامي وخلفي وقربي ولا أعرفهم، ولكنهم زملائي حقيقةً، أليس كل الناس في القهر زملاء؟"، بهذا السؤال يختتم علاء إجابته لـ"النهار العربي"، فالسوري صار بارعاً في تلقف السؤال وتحويله إلى سؤال آخر، طالما أن الجميع يدور في فلك الأزمة عينها، الأزمة الاقتصادية لا السياسية أو العسكرية، وهي بالتحديد ما حولت حياة هؤلاء الناس إلى "طوابير"، طوابير للحصول على الخبز والغاز والبنزين والماء والكهرباء والنقل... و"الموت". 
تضاءلت أحلام السوريين إلى حدّ التلاشي، الحدّ الذي أدخلهم معه دوامة من المشاهد اليومية المكررة بالتطابق ذاته... السوري الذي كان يحصل ذات يوم على حق الحلم، كواحد من الحقوق على قلّتها، ما عاد يمتلكها اليوم. فلا قضاء إجازة على شواطئ اللاذقية، ولا رحلة إلى بلودان، ولا حتى زيارة إلى مشتى الحلو، كل تلك الأمنيات صارت ذكريات بقوة الواقع. الحلم اليوم يتركز على الحصول على ما لا يمكن حتى أن يصطلح عليه بأنه فوق أساسيات العيش، فلا يمكن أن يكون النقل حاجة غير أساسية، وهذه الحاجة بالتحديد باتت على رأس سلم اليوميات بعد أن ضاقت السبل لركوب سيارات الأجرة التي قد تتقاضى مجمل الراتب الشهري للموظف الحكومي ببضع توصيلات فقط. 
خوارزمية الانتظار 
"أخرج قبل موعدي بأكثر من ساعة، لأني أعلم ما قد يواجهني، فهو احتمال من اثنين، إما لا أجد وسيلة نقل بمقعد شاغر، ولا حتى بنصف مقعد، ولا على الواقف أيضاً، وبالتالي سأضطر للمشي إلى مكان عملي، وغالباً سأصل في الوقت المطلوب، ولكن هذا لا يعني أنني سأظل في موقف محدد أنتظر وسيلة النقل، بل سأبدأ منذ لحظة خروجي من المنزل بالسير باتجاه مقر عملي، وعلى طول الطريق سأظل أشير إلى كل سيارات النقل العابرة، والاحتمال الثاني، هو أن يبتسم ليّ الحظ وأجد مكاناً في وسيلة نقل ما، وهذا احتمال ضئيل بالطبع، ولكنه قائم، فالأمر يخضع لخوارزمية دقيقة تحتاج إلى تشغيل الذهن لمعرفة المكان الأنسب للركوب، وهو المكان الذي يكون عملياً بعد أي تجمع مدارس أو دائرة حكومية، هنا ستزيد فرصي في إيجاد مقعد فارغ"، يقول سليم لـ"النهار العربي" وهو الموظف حديثاً في مؤسسة حكومية في دمشق. 
 ربى معلمة للصفوف الابتدائية في مدرسة في دمشق أيضاً، تختلف مع سليم في شيء من وجهة نظره إذ تعتقد أنها بعمومها مغرقةٌ في السوداوية، "نعم، الأزمة تفوق كل وصف، ولكنها لا تحتاج لكل تلك التحليلات والدراسات، هناك أوقات ذروة، أي أوقات وصول وخروج الموظفين والمعلمين والطلاب وغيرهم، وهناك أوقات مختلفة، ففي أوقات الذروة من الطبيعي ألا نجد مقاعد فارغة، ولكن الانتظار غالباً لن يذهب سدى، فالأمر لا يقتصر على انتظار السرفيس، بل هناك باصات النقل الداخلي، صحيح أن ركوبها سيء للغاية، وستحشر مع أعداد تعادل على الأقل أربعة أضعاف العدد المخصص للركوب، وغالباً ستمضي رحلتك واقفاً، وقد تتعرض للتحرش، من يدري، ولكن الأمور بالنسبة إلى الرجل أسهل بكثير، لذا أعتقد أن المشكلة تكمن في ساعات الذروة فقط". 
ملحمة الركوب 
"في المرة الأخيرة التي حظيت فيها بمقعد في وسيلة نقل سرفيس، دفعت ثمنه ألماً في فكي بعد أن ضربني أحدهم بكوع يده عن غير قصد وهو يحاول أن يقفز من فوقي ليركب قبلي... مغامراتي مع الصعود لا تنتهي، ولكنني غالباً أحتفظ بذكرى عن كل صعود، بالكاد صعدت مرةً من دون أن أتعرض للتدافع يميناً وشمالاً من الإخوة المتدافعين على بوابة الجنة، هي تبدو كذلك حين ترى كيف يتدافع الناس على باب السرفيس"، هكذا تبدو تجربة علي الطالب الجامعي في الحصول على مقعد في وسيلة تقله إلى جامعته، خلال حديثه لـ"النهار العربي". 
 أما سما، فتستهجن ما يحصل، إذ إنّ طبعها الخجول لا يؤدي دوراً إيجابياً في حصولها على مقعد في سيارة السرفيس، "أنا أخجل كثيراً أن أدفع أحداً لأصعد مكانه، ولكنني أحاول التوغل بين الناس مستغلةً بنيتي الصغيرة، إلا أنني في المرة الأخيرة وصلت إلى منزلي وسألتني أمي عن لباسي الأسود المغبر، قلت لها كان لديّ سباق قفز حواجز تحت جسر الثورة"، وجسر الثورة هو جسر محوري في العاصمة دمشق يجتمع تحته المئات في انتظار وسيلة النقل. 
 في آخر مرة ظفرت بالصعود إلى "السرفيس"، حصلت على مقعد واحد، وكنت أنا وابنتي، فاضطررت لجعلها تجلس في حضني وهي ذات الأربعة عشر عاماً، تخيل منظرنا، نحن كل يومياتنا تأخذ الشكل ذاته، ولو لم نصعد فوحده الله يعلم كم كنا سننتظر قبل أن نحصل على مقعدين في وسيلة نقل أخرى"، تقول أم عامر لـ"النهار العربي" حول معاناتها في وسائل النقل. 
ملحمة النزول 
لا تقل خطورة النزول من وسيلة النقل عن صعودها، فكمية التدافع التي تحصل بين النازلين والصاعدين أقل ما يقال عنها أنّها واحدة من أبرز تجليات وصور انتهاك كرامة الإنسان، إذ يصل الطرفان إلى نقطة الالتقاء على باب السرفيس ليبدأ بعدها العراك غير المتعمد بهدف الإيذاء أكثر منه سعياً للحصول على مكان، يصير من المستحيل تمييز ما يحصل، من الذي سينزل ومن الذي سيصعد، سيكون هناك تجمهر حول "السرفيس" بمعالم غير واضحة أو قد يخيل لمن يراها للمرة الأولى أنها مشهد من أحد أفلام الحركة، إلا أنّ الحقيقة أنّ الحركة عينها ما لم تحصل سيبدو المشهد غير طبيعي. 
ورغم كل ما سبق، لا يمكن القول أنّ هذا المشهد هو بنسبة مئة في المئة في شوارع سوريا، بل هو على وجه التحديد موجود في دمشق أكثر من بقية المدن، ومرتبط بأحياء مركزية معينة أكثر من غيرها، وتحديداً، البرامكة وشارع الثورة ومنطقة جسر الرئيس ومناطق أخرى، هناك تماماً يمكن للزائر أن يرى واحداً مما قد يبدو كواليس تصوير فيلم خيالي جعله الوقت فيلماً حقيقياً أبطاله سوريون. 
الرانج روفر تؤنس المنتظرين 
يبدو مشهد الناس في انتظار وسائل النقل اليوم سوريالياً للغاية، معقد ومبهم وغير مفهوم، فالكادحون والعاملون والمناضلون واليساريون واليمينيون وصغار الكسبة ومعدموها، تجمعهم جميعهم أرصفة الانتظار، وبين سرفيس ممتلئ وآخر بعده ممتلئ أيضاً تضيع ساعات من الانتظار الممل، لولا ما يتخللها مناظر السيارات الحديثة التي تعبر الطرقات، فبالتأكيد منظر الرانج روفر باهظة الثمن، وهي سيارات صارت متواجدة بكثرة في الشوارع بعد أن كانت محدودة للغاية، لا شك سيؤنس وحشتهم ومنفاهم في آن، فشعورهم بأنهم منفيون في وطنهم هو شعور حقيقي، وعلاوةً على ذلك هناك كل تلك السيارات من الفئات الحديثة التي دخلت لأثرياء بلدهم رغماً عن أنف قانون قيصر والحصار الاقتصادي، كلها أشياء تجتمع لتكمل مشهد اللوحة الغريب في بلادهم.