الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سلميّو سورية... مع أطيب التمنيات

سلميّو سورية... مع أطيب التمنيات

04.08.2014
عمر قدور



الحياة
الاحد 3/8/2014
تصلح المبادرة التي أطلقها الشيخ معاذ الخطيب، الرئيس الأسبق لائتلاف المعارضة السورية، كنموذج للأطروحات السلمية في سورية، وهي أفكار عادت إلى البروز مؤخراً على خلفيتين، أولاهما الخسائر التي منيت بها الكتائب التي تقاتل النظام في العديد من المواقع الحيوية، ثم تمدد داعش وما يبدو أنه استقرار لسيطرتها في شرق وشمال شرقي البلاد. خطر داعش تحديداً، يدفع به العديد من السلميين إلى الواجهة، باعتباره خطراً على الجميع، ما يستدعي التضحية منهم وتنحية الصراع الأصل، والاستعداد المتبادل لتقديم تنازلات على قاعدة عدم وجود منتصر ومهزوم.
النظام، كما تابعنا قبل أيام في خطاب القسم لرئيسه، لا يرى الواقع من هذا الجانب. فخساراته أمام داعش لا تُحتسب بالمقارنة مع انتصاراته على كتائب المعارضة. والنظام لا يرى في داعش الخطورة التي تمثّلها المعارضة على وجوده، لأن تمدد داعش في العراق وسورية سينتهي عند حدود يقررها الواقع الديموغرافي، ويقررها أيضاً المدى المقبول دولياً للطفرة الداعشية الحالية. فضلاً عن أن وجود داعش على المدى المتوسط محل شك كبير، إذ لا تظهر خلافات إقليمية ودولية على ضرورة محاربته، بقدر ما تبرز الخلافات حول المسؤولية عن قوته، وتالياً عن القوى المؤهلة لمحاربته وإعادة "الاستقرار" إلى المنطقة. النظام يسوّق نفسه بصفته الجهة الأقدر مع حلفائه على محاربة داعش، دعاة السلمية لا وزن لهم في هذه الحرب حتى بالمقارنة مع كتائب المعارضة الضعيفة.
تستند مبادرة الشيخ الخطيب إلى واقع عدم رضا غالبية السوريين عن النظام والمعارضة، لكنها تهمل واقعاً أهم هو عدم فاعلية المتذمرين على الصعيد السياسي والاجتماعي، بل لا يُستبعد وجود مشاركة لنسبة لا بأس بها منهم في الحرب بين الطرفين على رغم تحفظاتهم عليها. ثمة فصام بين الرغبات والأفعال خبره السوريون طويلاً في عهد النظام، وثمة فصام مشابه بين الأقوال والأفعال، وإذا كان التذمر من أداء المعارضة يملك فرصة الفعل فالتململ في أوساط المؤيدين لا يطاول جوهر النظام، وقد يذهب جزء منه إلى لومه على عدم وفائه بوعد القضاء على الثورة سريعاً، لا إلى لومه على الطريقة الوحشية التي اعتمدها ولا يزال. لا وجود حتى الآن لتيار ملموس في الأوساط المؤيدة، يدعو إلى حل سياسي وإلى وقف القتل، مع ترجيح وجود فئة صامتة غير راضية عن جرائم التدمير والنهب وقصف المدنيين تحديداً.
يقرّ دعاة السلمية بأن النظام هو الذي واجه الثورة بالقتل حين كانت التحركات الشعبية سلمية في المطلق، بعضهم يرى في عسكرة الثورة نجاحاً مطلقاً للنظام إذ استطاع جرّ الثورة إلى ملعبه المفضّل، لكن هؤلاء أنفسهم يركّزون على اعتقال الناشطين "السلميين" ومقتل الآلاف منهم تحت التعذيب، بل يذهب البعض منهم إلى القول بأن النظام يستهدف السلميين أكثر من استهدافه المسلحين بسبب خشيته منهم! علاوة على ذلك، لا يملك دعاة السلمية تصوراً واضحاً أو خطة عمل واقعيين تجبر النظام على التنحي. الخيار السلمي امتُحن في البداية وأثبت فشله، والخيار العسكري أيضاً امتُحن وفشل؛ الفارق في الكلفة بينهما يبقى قيد التخمين لأن استخدام النظام للأسلحة الثقيلة كان قد بدأ فعلاً في مناطق لم تشهد بعد وجوداً للجيش الحر. وإذا قلنا بعدم وجود خطة واقعية لدى السلميين فالأمر ذاته ينطبق على العسكر الذين لم يمتلكوا باكراً تكتيكاً بديلاً عن تكتيك السيطرة والتمترس في الأرض، ما أوجد للنظام ذريعة إضافية لاستهداف المدنيين، خاصة مع اللامبالاة الدولية التي اتضحت منذ البداية إزاء مقتلهم.
التصورات السلمية تنطلق أيضاً من اتفاق شعبي مفترض على ثوابت وطنية، ومن القدرة على استعادة استقلالية القرار السوري. وكما شهدنا، لم تُثبت الأربعون شهراً الأخيرة اتفاقاً عاماً على ثوابت وطنية، وإلا كان الصراع قد اتخذ منحى آخر غير دموي بالتأكيد، فضلاً عن أن حجم الانقسام الداخلي، عندما لم يكن الخارج قد حضر بكثافة، هو ما مهد الطريق أمام الأخير ليطغى أحياناً على التناقض الداخلي. يُضاف إلى ذلك وجود وهم شائع عن استقلالية القرار السوري في ما مضى من عمر النظام، مع عدم ملاحظة سعي النظام المتكرر في ما سبق إلى تحالفات ومشاريع وحدوية طارئة، وصولاً إلى التحاقه التام بالمشروع الإيراني، الأمر الذي يكشف الهشاشة الجيوسياسية للنظام، وربما للكيان السوري في منطقة قلّ أن تخلو من التجاذبات القوية والعميقة.
المبالغة في تقدير الذات والإمكانيات لا تتوقف عند وهم استعادة الاستقلال المزعوم للقرار السوري، بل تتعداها إلى وهم قدرة التوجه السلمي على إيجاد حلول وفرضها ضمن واقع يكتسب صفة الاستعجال. هذا يفترق طبعاً عن التصور المعهود عن الحراك السلمي المستدام والمطلوب بشدة في فترة التحول الديموقراطي، وهو مطلوب بشدة أيضاً في زمن الحرب للتقليل من تداعياتها الكارثية، إلا أن وجود تيار سلمي يفرض شروطه على المتحاربين مسألة أخرى، والزعم بتوفره سيكون جرأة كبرى حالياً. الحل السياسي، في أحسن حالاته، سيُبنى على قاعدة تقاسم السلطة والنفوذ داخلياً وخارجياً، أي أنه سيرتسم بناء على موازين الصراع الخارجي والداخلي معاً.
مشكلة سلميي سورية، إذا استثنينا الأهداف السياسية غير المعلنة لبعضهم، أو بالأحرى إذا استثنينا السلمية الكيدية، أنهم ينطلقون من مبادئ جذابة تبدو غير قابلة للنقض، لكنها ككل البديهيات متعالية على الواقع، ومتعالية تالياً على السياسة، بينما الواقع السوري بأمس الحاجة إليها. وضع الأهداف النبيلة في موقع البديهيات يجعل السياسة أقرب إلى التمنيات الطيبة، ويتغافل عن أن القوى التي منعت النصر عن الطور السلمي للثورة قد زادت وأصبحت أشرس، فمنعت أيضاً الحسم العسكري. ثمة فشل سوري كبير، لا ينفع معه القول بوجود حل وحيد ومتاح، كأن الآخرين لا يعرفون الوصفة السحرية، أو لا يمتلكون النوايا الطيبة اللازمة له. ومن المرجح وقوع قادة العسكرة ضحية التضليل، عندما انتظروا دعماً كافياً لإسقاط النظام، وهذا لا يختلف جوهرياً عن الذين يضللون أنفسهم بقدرتهم على إسقاطه بالطرق السلمية، أو بقدرتهم على توحيد "الشعب السوري" خلف قيادتهم "الحكيمة".