الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سننتخب الأسد

سننتخب الأسد

03.11.2014
خطيب بدلة



العربي الجديد
الاحد 2-11-2014
حينما خرج صديقي الأديب سامر من سجن أمن الدولة في سورية، سنة 1981، كان قد اتخذ قراراً غريباً للغاية، هو أنه سيذهب، في أول استفتاء قادم، إلى مركز الاستفتاء، وسيتناول الورقة الاستفتائية، على نحو علني، واستعراضي، ويكتب عليها (نعم) للقائد حافظ الأسد! ويُقَرِّبها من أعين أعضاء اللجنة المشرفة على الاستفتاء، ليَرَوْها عن كثب!
أعرف سامر منذ أيام المدرسة. شاب وسيم، ويتمتع بجاذبيةٍ قلما يتمتع بها شبانٌ غيره. لا يحب الأسرار، سريع البوح لأصدقائه بالأشياء التي يُفترض أنها من أسراره الخاصة؛ فكان يحدثنا عن لفتات وابتسامات وإشارات ‏كان يتبادلها مع البنات على طريق المدرسة، فإذا سأله أحدٌ عن اسم البنت التي "ناغشته"، يذكر اسمها تلقائياً، على الرغم من خطورة الأمر عليه وعليها.
ولم يكن سامر معجباً ببيت المتنبي: وللسر مني موضعٌ لا ينالُه - نديمٌ ولا يُفضي إليه شرابُ. وفي أثناء شرح مدرس اللغة العربية معناه، كان يهمس لي إن هذا نوع من الغموض في شخصية المتنبي تدل على أنه معقد!
لعل الشفافية الزائدة هي التي أوقعت سامر في قبضة المخابرات العسكرية، بعد أشهر من انتسابه لحزب العمل الشيوعي. فقد كان يجاهر بأفكار حزبه، ويتباهى بجرأته في إعلان مبدأ إسقاط نظام حافظ الأسد الاستبدادي! وفي استفتاء سنة 1978، ذهب إلى مركز الاستفتاء، وأمسك الورقة، على نحو استعراضي، وكتب عليها (لا)، وقدمها لأعضاء اللجنة مفتوحة، ليروها، وليعرفوا أنه لا يقبل بحكم العسكر والمخابرات، فكان أن نام، تلك الليلة، في (المنفردة)، واستمر ثاوياً فيها حتى أواسط سنة 1981!
قلت له على انفراد: أنت تدهشني بما تقول سامر، كيف، ولماذا تجاهر بقولك (نعم) لحافظ الأسد؟
قال، بحماس: حتى إذا اتهمتني جهةٌ أمنية ما، في المستقبل، بأنني معادٍ للسيد الرئيس حافظ الأسد، أستطيع أن أطلب أعضاء لجنة الاستفتاء للشهادة، وقتها سيقولون: أي والله العظيم، رأينا سامر بأمهات أعيننا، وهو يوافق على انتخاب السيد الرئيس لسبع سنوات قادمة!
قلت: أرجوك توقف عن الهذر، وقل لي ماذا حصل.
قال بأسى بالغ: لا يستطيع أحدٌ أن يعرف، أو يتخيل، أو يتصور، أو يمتلك فكرة صحيحة عما يجري في سجون أمن الدولة السورية، غير السجناء أنفسهم. إذا حكيت لك، الآن، في ربع ساعة، ما جرى معي في السنوات الثلاث اللواتي أمضيتهن هناك، لن تفهم حقيقة الأمر، لأن الحكي ليس كالمشاهدة، ومن يتلقى الضرب بالعصي ليس كمن يعد الضربات.
قلت: حتى لو استطعتُ أن أتخيل حجم المعاناة، هذا لا يسوغ لك اتخاذ قرار سخيف كهذا.
انتفض سامر، وقال: يبدو أنك لا تريد أن تفهم. يا رجل، أريد أن أسألك سؤالاً محدداً وواضحاً. هل تعرف العقوبة القانونية التي تقع على ضابط الأمن الذي يعذبُ مواطناً سورياً حتى الموت، كائناً مَنْ كان هذا المواطن، وحتى ولو كان أديباً لامعاً مثل حضرتي أو حضرتك؟
قلت: ما هي؟
قال: سلامتك. لا شيء. يأتي الجنود المخصصون للخدمة، يأخذون الجثة، ويتابع هو نضاله في تعذيب سجين آخر، وكأن شيئاً لم يكن وبراءة الأطفال في عينيه.   
قلت: وبعد؟
قال: يعني الآن، السيد الرئيس حافظ الأسد، حينما أمر بإخراجنا نحن -المعتقلين- الباقين على قيد الحياة من السجن، فهذا يعني مكرمة كبيرة، وأنا أمتلك من حسن التربية والذوق والأخلاق الحميدة ما يكفي لأن أشكره، ولا يوجد طريقة أفضل من أن أكفر عن ذنبي الأول، حينما قلت (لا) فأذهب الآن وأقول (نعم)!
ملاحظة: في استفتاء سنة 1985، نفذ سامر خطته، ولدى خروجه من مركز الاستفتاء اعتقلته دورية من الأمن السياسي!
تبين أنه، باللاشعور، كتب (لا) بدلاً من (نعم)!