الرئيسة \  واحة اللقاء  \  "سوخوي" تُسقط الطموح التركي

"سوخوي" تُسقط الطموح التركي

09.12.2015
حميد المنصوري



الاتحاد
الثلاثاء 8/12/2015
مع سقوط الطائرة الروسية الحربية "سوخوي" تحطم منظور تركيا الطموح بوصفها دولة تحتل مركزاً مؤثراً ومرموقاً في الشرق الأوسط، فضلاً عن خسارتها في الجوانب الاقتصادية والأمنية والسياسية الأخرى. وقد كشفت تلك الحادثة غير المحسوبة العواقب غياب العقلانية لدى صانعي القرار في أنقرة. وبالمقابل فإن موسكو أصبحت أكثر حضوراً وقوة في سوريا بوجه خاص وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
إن المنظور "الجيوبوليتكي" الذي صاغهُ أحمد داوود أوغلو قد سقط، فالعديد من الدول الكبرى تعتمد على "الجيوبولتيكس" في استراتيجياتها في إطار البحث عن القوة وبسط نفوذها وتحقيق مصالحها في أنحاء العالم، ولكن من الخطأ القول بأن تركيا من الدول الكبرى، بل هي دولة إقليمية مهمة، فهي لا تمتلك القوة العسكرية والمعرفية والاقتصادية لتكون من الدول القوية أو الكبرى. واعتمد حزب "العدالة والتنمية" منذ وصوله للسلطة 2002 حتى بداية "الربيع العربي"، على رؤية جديدة لتركيا تحاول بموجبها تغيير الدور التركي الذي كان يعتبر جسراً بين الغرب والشرق مع كونه حليفاً غربياً من الدرجة الأولى، إلى دولة كبرى أو حاسمة في قضايا المنطقة، فرأت في نفسها دولة المركز في الشرق الأوسط، حيث اهتمت بجوارها كمحيط وهامش معتمدة على قوتها الناعمة ودبلوماسيتها النشطة مع سياسة "صفر مشاكل" مع دول الجوار، وحتى دون الدول مثل "حماس" و"حزب الله"، مع أبعاد تاريخية وثقافية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، كما أن النمو الاقتصادي التركي ساعد على تخيل أن تركيا دولة كبرى وليست إقليمية فاعلة.
ومنذ عام 2011 تغيرت البيئة الإقليمية بفعل انعكاسات ثورات "الربيع العربي"، ولاسيما في سوريا، وأصبح منظور تركيا يتوسع وطموحها يتزايد بكونها دولة مركزية، والذي بدوره أصبح محل جدل كبير، فبعد أن كانت سوريا البوابة التركية للعالم العربي والشريك الاستراتيجي، باتت تركيا داعمة قوية للثورة السورية، وقالت: لن تسمح بتكرار المأساة الإنسانية في حماة 1982، ولكن تركيا أظهرت عجزها فلم تمارس القوة العسكرية من منطلق الدولة الحاسمة القوية في الهامش أو "محيطها المجاور" حسب التوصيفات الجيوبولتيكية، وفي الوقت ذاته لم تنجح مع الغرب في الوقوف مع المعارضة السورية مقابل وقوف روسيا وإيران مع نظام بشار.
يضاف إلى ذلك كله غياب البعد العقلاني على الرغم من أن مفاهيم العلاقات الدولية تفترض أن يكون صاحب القرار السياسي عقلانياً في اتخاذ القرارات وتحقيق الأمن والمصالح، ولكن هذا لا ينطبق على حادثة إسقاط الطائرة الروسية فوق جبل التركمان السوري القريب من الحدود التركية إثر اختراقها الأجواء التركية، لأن إسقاط طائرة حربية روسية هو بمثابة إعلان حرب على دولة عظمى أو التورط في صراع معها. وقد بدا ذلك واضحاً عندما استدعى أردوغان سفراء الدول الأعضاء في حلف "الناتو" لإطلاعهم على دوافع إسقاط الطائرة الروسية، مدفوعاً بخوفه من انتقام روسي محتمل. وقد زاد من ضخامة الحادثة قتل أحد الطيارين الروسيين على يد قوات تركمانية سورية تحظى برعاية أنقرة. والذي زاد الأمر تعقيداً أن الطيار الناجي نفى تلقيهما أي إنذار مسبق. جدير بالذكر أن حلف "الناتو" لم يتدخل لحماية تركيا عندما هاجمت فرقة كوماندوز إسرائيلية سفينة مرمرة 2010، فما الحال بدولة عظمى بحجم روسيا الاتحادية. لقد عكست حادثة الطائرة حقيقة أن التدخل الروسي في سوريا مقروناً بالحرب على الإرهاب أفقد تركيا دعوتها الطويلة لإقامة منطقة عازلة -أو آمنة- على حدودها مع سوريا وعاصمتها مدينة "إعزاز"، والتي من أهدافها احتواء العنف في سوريا لمنعه من الوصول عبر الحدود التركية، وانتقال الحكومة المؤقتة التي شكلها الائتلاف السوري إليها، وسحق النضال الانفصالي الكردي.
ولعل منظور نظرية المؤامرة يطرح تحليلاً مهماً، فأنقرة مع أطرف دولية وإقليمية ترعى أطرافاً إرهابية مثل "داعش" لتجزئة الخريطة السورية والعراقية بعد فشل واشنطن في خلق الديمقراطية عبر احتلال العراق 2003. وهو أحد أسباب غزو العراق مع المصالح النفطية، مع أن هناك دول إقليمية تريد سوريا في أيدي الجماعات الإسلامية المتطرفة بعد سقوط "الإخوان المسلمين" في مصر. وفي هذا السياق، فإن الرئيس بوتين قال "إن إسقاط الطائرة الروسية طعنة في الظهر من جانب المتواطئين مع الإرهابيين". وهنا لا جدال بأن الفاعلين من غير الدول كالمليشيات لا تخرج ولا تكون فاعلة من دون دعم ورعاية دول لها، وهذا ينطبق على "داعش" و"جبهة النصرة" وغيرها كـ"حزب الله" مثلاً. حقيقةً، إن تركيا بعلاقاتها مع واشنطن وأطراف إقليمية مع جغرافيتها المجاورة للعراق وسوريا متورطة في التساهل والتعامل مع "داعش" وغيرها من خلال دخول الصبيان المجاهدين مع جهاد الصبايا ودخول الأسلحة وتهريب الآثار والنفط.
ولنا في منظور المؤامرة افتراض: هل هناك أطراف دولية تريد من تركيا أن تتورط مع روسيا كما حدث في أحداث جورجيا وأوكرانيا، لكي يتراجع دور تركيا في منطقة الشرق الأوسط؟ أو ربما واشنطن تريد اتساع الحرب الروسية في المنطقة. أما خسائرها على الصعيد الاقتصادي، فتركيا ستخسر الكثير من علاقاتها مع روسيا، فعلى سبيل المثال فقط أعلن وزير الطاقة الروسي تعليق المفاوضات حول مشروع أنبوب الغاز "توركستريم"، الذي كان يفترض أن يمد تركيا وعلى المدى الطويل جنوب أوروبا بالغاز. أما في مسألة البعد الأمني لتركيا، فقد بات من السهل على روسيا زعزعة أمن تركيا بعد هذه الحادثة من خلال تقديم الدعم العسكري والمالي لحزب العمال الكردستاني الذي يناضل ضد النظام التركي، وهذا كفيل باستنزاف النظام التركي، ناهيك عن أن إيران ستكون أكثر قوة وحضوراً في المنطقة على حساب الدور التركي، وهكذا أصبحت "أنقرة" من سياسة صفر مشاكل إلى المزيد من المشاكل الإقليمية والدولية.