الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سوريا: أين الكرامة... فقراء يبحثون عن الطّعام في حاويات القمامة؟ 

سوريا: أين الكرامة... فقراء يبحثون عن الطّعام في حاويات القمامة؟ 

17.06.2021
طارق علي


النهار العربي 
دمشق
الاربعاء 16/6/2021 
تشهد سوريا، منذ لحظة اندلاع الحوادث فيها قبل عشرة أعوام وبضع أسوأ عقد في تاريخها الحديث، العقد الذي لم تسيطر الدماء فقط على مشهديته اليومية المكررة، بل تعدته الى ما هو أكثر ضرراً، فليست الدماء وحدها ما تحدد حاضر أي مجتمع يشهد حرباً قاسية، بل الخطورة تكمن في زوايا إضافية، أبرزها الذلُّ الذي يخلفه الجوع والفقر والحاجة، في لحظة تنعدم فيها الخيارات أمام أولئك الذي دفعوا ثمن الرصاص مضاعفاً، مرةً بالفقدان وأخرى بالعوز، ويكتسب الأمر أهمية مضاعفة في سوريا، فالسوري الذي عاش الهدوء والسكينة والرخاء النسبي في سنوات ما قبل الحرب، السنوات التي لامس فيها معدل الأمية والفقر حدوده الدنيا، ها هو الواقع اليوم يرتد بصورة عكسية بات فيها الفقر هو المسيطر على كل ما عداه. 
ليس من السهولة الحديث عن هؤلاء الناس، بمعزل عن توجهاتهم، بل ربما الأكيد أنّ لا توجه لهم، فشخص ظلمته الحياة الى حدّ لجوئه إلى حاويات القمامة للبحث عن لقمة عيشه وعن شيء يسد رمقه، بالتأكيد لا يعنيه الصراع برمته، ولا الحرب، ولا أخبار السياسة والاقتصاد، الأخبار التي لا يعرفون شيئاً عنها. 
 كيف لشخص يعيش تحت خط الذل ما بعد الفقر أن يفكر أو يهتم بما يحصل؟ فالظلم الذي أنجبه الفقر وأضافه الى يوميات هؤلاء المساكين جعل منهم أشخاصاً يعيشون على هامش الحياة، على هامش الحياة في بلد فيه ما فيه من الغرائب والتباين المجتمعي والاكتناز القسري للسلطة المالية والكسب غير المشروع، وفيه ما فيه من جمعيات إنسانية، بعضها، لا كلها على سبيل المجاملة، صارت جزءاً من منظومة فساد واكتناز إضافي جعلت من شخوصها أثرياء فوق سلة معونة يتيمة يوزعونها هنا أو هناك أمام عدسات الكاميرات. 
وفوق كل ذلك، أمم متحدة، بمختلف تجمعاتها وجمعياتها، وهي الحاضرة بقوة على الساحة، المنظمات الأممية التي غزتها الوساطات والتعيينات والمحسوبيات، حتى صار معظم موظفيها من الأثرياء فقط، وكيف لثري أن يشعر بألم وأنين مسكين؟ وبرغم ذلك يبقى التعميم غير مقبول، إلا أنّه حقيقة تفرض نفسها، هكذا يقول الواقع، الواقع الذي جعل من هذه المنظمات مافيات وعصابات، يدفع الأشخاص مبالغ طائلة ليظفروا بوظيفة فيها، مبالغ وصلت أحياناً حدّ عشرة آلاف دولار، وعشرة آلاف تكفي لإطعام مئات الأسر الفقيرة.. 
أربع فتيات وحاويتان 
على تجمع لحاويتين صغيرتين في ريف دمشق، التقط "النهار العربي" صورةً لأربع فتيات شبه ملثمات في مقتبل العمر يبحثن عن طعام لهنّ ولأسرهنّ في النفايات، أو عن شيء ثمين، ومفهوم الثمين هنا هو نسبي للغاية، فالثمين لهؤلاء الناس قد يكون عبوة بلاستيكية أو معدنية، يتم جمعها وبيعها بمبالغ زهيدة للغاية. 
 "النهار العربي" تحدث معهنّ، والغريب أنهنّ لم يخفنَ أبداً، وبرغم ضعف قدراتهنّ الحوارية والتعبيرية، إلا أنهنّ كنّ غير مباليات، ولكن مع تحفظات نسبية، وحتى أنهنّ ـ بحسب ما اتضح من حديثهنّ ـ لا يعرفن لماذا هنّ متلثمات أصلاً، أكثر منها عادة جارية. 
 تقول سعاد (16 عاماً) واحدة من هاته الفتيات: "نحن مهجرون، والدي مشلول، أمي متوفاة، أعمل أنا وإخوتي الثلاثة (منصورة ونجاة ورجاء) في جمع القمامة وبيعها (البلاستيك)، كما أجد هنا قوت يومنا، وأتمكن من إحضار الطعام معي لإطعام والدي"، تقول حكايتها بلهجتها المحلية الريفية، ويبدو أنّها نفسها لا تعتقد أنّ ثمة جدوى من الإدلاء بالمزيد من التفاصيل، فكيف يكون لشخص حياته رحلة بين الحاويات قدرة على محاورة شخص غريب لا يوحي شكله بأنّه سيمنحهنّ المال، ولا حتى أنّه سيدلهنّ الى حاوية "معتبرة" فيها "رزق كثير". 
من سينقذهنّ؟ 
الأربع معاً غير متعلمات، كيف يمكن لفتيات مثلهنّ بكل هذا الفقر أن يكنّ متعلمات أساساً، وهني اللاتي هجرتهنّ الحرب صغيراتٍ، الحرب التي قوضت شكل مستقبلهنّ وجعلته رحلة في السعي اليومي والآني من دون أي أفق، أي مستقبل، أي أمل أو حلم، تفعل الحروب ذلك عادةً، ولكن من سينتشل هؤلاء الفتيات، ومثلهنّ ومثلهم كثر وكثر من هذا الضياع؟ مِن هذا الاعتقاد أنهنّ هوامش على صفحات الحياة؟ أنّ لهنّ الحق في عيش كريم؟ في عيش يساوي يوماً بين المستأثرين بالمال وأولئك الذين لا يعرفون شكل المال، إلا بعضه القليل، أي مرحلة مقبلة على هؤلاء الذين لفظتهم الجمعيات والمعنيون والبلد نفسها؟ 
خارج سيطرة الحكومة 
يبدو الوضع في المناطق الواقعة خارج سيطرة الحكومة السورية، في إدلب والجزيرة السورية، أسوأ بمرات منه في المدن الرئيسية، ففي تقرير نشرته "فرانس برس" في شهر كانون الثاني (يناير) من العام الجاري، تحدثت فيه عن أناس يجمعون حاجاتهم وطعامهم وأرزاقهم من حاويات القمامة، في مدينة المالكية في الحسكة في الجزيرة شمال شرقي سوريا، ويخضع التقرير الحالي لمقاربة خطيرة ترخي بظلالها السود على المشهد، عبر الحديث عن صوت آلات حفارات النفط القريبة من مكبات النفط. 
يقول التقرير: "على الجهة المقابلة، يختلف المشهد تماماً، إذ يخرق هدير آلات استخراج النفط التقليدية الصمت السائد في المكان، ويجري العمل على قدم وساق في واحد من حقول النفط المتعددة التي تُعرف بها محافظة الحسكة". 
والمنطقة هناك بحسب التقرير تخضع لسيطرة الأكراد، ويستخرج النفط فيها لمصلحتهم ومصلحة القوات الأميركية في المنطقة، وذلك بحسب ما تفيد به البيانات السياسة السورية الرسمية. 
يروي التقرير قصة أم مصطفى التي تؤكد أن إيجادها لحبات برتقال أو تفاح يكون أمراً جيداً والأمر ذاته ينطبق على الملابس، وكذلك أولادها يلبسون ويأكلون من المزبلة، "تبحث أم مصطفى وبناتها الخمس أيضاً عن عبوات بلاستيكية لبيعها، فيما يرعى زوجها وابنها مصطفى (17 عاماً) تسع أغنام تملكها العائلة". 
إلا أنّ السؤال الواجب طرحه كتعليق على التقرير برغم أحقيته الواقعية والمنتشرة على امتداد الجغرافيا السورية: كيف يمكن لأسرة تملك تسع أغنام أن تعمل نساؤها في البحث عن الطعام بالقمامة، ومن المعروف أن الأغنام تؤمن رزقاً ودخلاً لا بأس له، لذا، يمكن الاكتفاء بالقول إن التقرير لم يكن موفقاً في عرض حالة أم مصطفى، بيد أنّه وُفّق في عرض حالة سيدة عجوز وأخرى شابة وطفل، وعموماً، لا يمكن التشكيك بأي شيء يرد في هذا الإطار، فإن كان فقراء العاصمة يأكلون من القمامة، فكيف هي الحال في المناطق الريفية والنائية والفقيرة، وتلك التي تشهد توترات عسكرية وسياسية بالجملة؟ 
من يحاصر من؟ 
لا يبدو أنّ ثمة حلولاً جذرية في المدى المنظور، فمعالجة آثار الحرب تحتاج الى سنين طويلةً غير عادية، بل سنين من الاستقرار السياسي – الاقتصادي – الاجتماعي، وليتحقق هذا الاستقرار يجب بالدرجة الأولى أن تستعيد دمشق سيطرتها على مواردها ومقوماتها الرئيسية (النفط والقمح)، وكلاهما اليوم - بجلّهما - خارج سيطرة الحكومة باستثناء بعض الآبار قرب تدمر، علماً أن ركائز النفط موجودة في منطقة الجزيرة (شمال شرقي سوريا تحت سيطرة الأكراد وحلفائهم)، علاوةً على اشتداد الحصار وقسوته (قيصر/ سيزر)، وبالتالي محاصرة دمشق براً وبحراً وجواً، ما خلق بدوره أزمات متتابعة تجلّت في المحروقات والخبز وأشياء أساسية أخرى، ليطفو على السطح سؤال ملحّ   لأجل هؤلاء الفقراء فقط: هل الولايات المتحدة تحاصر الحكومة أم تحاصر طوابير الفقراء على الأفران والكازيات والطرق.. والحاويات؟