الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سوريا.. أيها العابرون على جسدي لن تمروا

سوريا.. أيها العابرون على جسدي لن تمروا

08.09.2016
عثمان حجازي


مدونات هافينغتون بوست
الاربعاء 7/9/2016
رشقات الرشاشات وعويل الصواريخ باتا يخيمان على كل شئ.. سوريا حيث لم يعد هناك من يكترث لأمرك؛ حيث صرت وحيدة تنهشك الكلاب من كل صوب دون رحمة، لا تدري كيف من الممكن أن تصد كل هذا الألم دفعة واحدة؟!
لا تدري أين كانت مخبأةً لك هذه الحرب الباردة، حربٌ تدار كأنها رقعة شطرنجٍ يجلس على يمينها طائفي لعينٌ وعلى يسارها متشدد قمئ يواجهه نيابةً عنك، وليس لك أن تعترض على نيابته، وإلا أصبحت هدفاً لقذائفه المغلفة براياته السوداء.
حرب لا منطقية.. لماذا تغدو طائرة صباحاً لتقصف أطفالاً نائمين على أسرَّتهم كانوا على وشك أن يستيقظوا؛ لتغلف لهم أمهاتهم شطائرهم قبل أن يذهبوا إلى صفهم؟!.. ثم لماذا تغدو طائرة أخرى في نفس اليوم وعلى نفس البلدة لتقصف مستشفيات مدججةِ بالجرحى الذين لا أمل لهم في شيء سوى نوم عميق ينسيهم جراحهم المثخنة؟.. لماذا تقتلونني؟!
إذا كنتم تتقاتلون لأجل سلطةٍ فابحثوا عن صحراء شاسعة تقاتلون فيها دون أن تقتلوني معكم.. لماذا تقتلونني؟!
سوريا.. حيث قد ملَّ الناسُ منك.. لماذا تموت كثيراً؟! لماذا تنغص عليهم حياتهم بمشاهد ألمك التي لا حصر لها؟ إذا كنت قد قتلت مرةً والتف المؤيدون حولك وحملوا على أعناقهم قضيتك وأحاطوا رقابهم بعَلَم ثورتك فلا تعتد على ذلك؛ لأنك لن تجدهم حين تُقتل ثانيةً وثالثةً ورابعة.. لا أحد يمتلك كل هذا الفراغ لأجلك!، ولتعلم يا صديقي أنك لست على أرضٍ مقدسة، ولست تقاتل صهاينةً حتى يلتف الكل حولك، منشدين أناشيدهم الجوفاء؛ ليصيبهم شرف تأييدك، وليحل عليهم رضا الله فقط لأنهم أعلنوا مقتهم لأعدائه الذين ذمهم في كتابه، فلا تنتظر هالة إعلاميةً حولك.. فلا أحد يكترث.
لن يلتقط لك أحدهم صورةً وأنت تقذف الحجارة على أعدائك في مشهد درامي تدمع له العيون، وتنهال عليه مئات الآلاف من الإعجابات والتعليقات على مواقع التواصل.
إذا قُتلت فلن يعلم أحدٌ اسمك ولا شكلك ولا نسبك، ولن تُنشر لك مقاطع بطولاتِك الميدانية؛ لأن بطولاتك الميدانية قد تعد عند البعض ممارساتٍ إرهابية أو تخريبية.. حتى أشد المتعاطفين معك سوف يأسفون على حالك.. سوف يأسفون على حال هذا الشعب الذي يقتل بعضه، داعياً ربه أن يجنب بلاده مصيرك.. هذا كل ما في الأمر.
مئات الآلاف من المجهولين الذين قُتلوا لا أحد يعلم عنهم شيئاً، مئات الآلاف من الصور والمقاطع المؤثرة التي التقطت دون جدوى.. لا أحد يعلم ما بداخل ذلك الطفل الذي خرَّ باكياً أمام عدسة الكاميرا في مقطعٍ مشهور اتخذت منه قناة الجزيرة "برومو" مؤثراً لها يجذب الأنظار ويستعطف القلوب، وهو يقول بصوتٍ مرتجف يَبس من البكاء: "قتلوا عيلتنا وهدموا بيوتنا.. ليش هيك عم يحصل فينا؟!".
أنا كلما نظرت إلى عيني ذلك الطفل أتذكر "راكان".. راكان طفل سوري دفعه الجحيم إلى بلادنا هنا في مصر.. راكان كان هادئ الطباع ليس مشاكساً كباقي الأطفال من أبناء سنه.. ذات مرة طلبت منه أن يتمنى شيئاً واحداً، دون تردد أخبرني أنه يتمنى العودة إلى بلاده سوريا.. ثم عرض عليّ تلك الصورة التي كانت على جوال والدته الذي كان يحمله معه.. كانت صورة لمنزل محاط بأوراق شجر خضراء وله فناء صغير.. كان هذا بيته أو ما كان بيته قبل أن تسقط عليه قذيفة لتجعله ركاماً.. رغم ذلك كانت عيناه تلمعان بالفخر فقط لأنه تذكر وطنه وبيته وأراني إياهما.
ما يعرض على صفحات التواصل من معاناةٍ لأهل سوريا هو غيض من فيض.. ذلك الفيض لن تجده سوى في مجموعات مغلقةٍ وصفحات قد ذُبِح صوت القائمين عليها ليرسلوا إليك صورةً من معاناتهم.. تماماً مثل ما حدث مع مخيم اليرموك الذي لم يسمع عنه أحدٌ شيئاً.. لم يسمع أحد شيئاً عن أولئك الذين ماتوا جوعاً وعطشاً من شدة الحصار المفروض عليهم.
لم يسمع أحد شيئاً عن "أيهم أحمد" عازف البيانو الذي كان يعزف على أنقاض البيوت المهدمة وحوله ثُلة من الأطفال الجائعين الذين يرددون معه "يا اللى قاعد وين ووين اليرموك بيحبك يا خيا.. اليرموك بيحبك يا خيا بس انت يا خيا لست مهتماً".
لم يسمع أحد شيئاً عن مخيم اليرموك إلا بعدما وُطأت أرضه بأقدام داعش.. ولأنهم داعش فإن أي أرضٍ يدخلونها تصير محط أنظار العالم ومحور حديث الإعلام والفضائيات الإخبارية ومواقع التواصل.
لم يسمع أحد شيئاً عن مخيم اليرموك إلا بعد أن فضته رصاصات داعش وذبحت شبابه سيوفهم الرجعية الباردة.. هل هذا هو الأمر بالنسبة لعامة الناس؟.. هل تصبح القضية قضية بكم الفانتازيا والتشويق المثار حولها؟ هل يجب عليَّ أن أستعين بداعش لتقتلني في كل شبرٍ من أرضي لتلتفت إليَّ وتعلن تأييدك لى كيداً في داعش؟
يقول السيد مارسيل خليفة في إحدى قصائده التي غناها من ألبوم "ليلة سقوط القمر":
"أيها العابرون على حبة القمح في مهدها.. احرثوا جسدي
أيها العابرون على جسدي.. لن تمروا، لن تمروا، لن تمروا..".
سيد مارسيل.. ها هم قد مروا على جسدي.. ها هم قد وطئوا أنفي بأقدامهم وغرسوا وجهي في طين أرضي بعد أن أحرقوا قمحي.
سيد مارسيل.. لماذا لا يحدث ما يحدث في قصائدك وأغنياتك؟!
سيد مارسيل.. ها أنا ذا قد قُتلت، ها هم قد قتلوني ومروا على جسدي النحيل الذي نخره الجوع وأنهكه العطش.. ها هم قد مروا عليه بعد أن جلدوني؛ لأنني أعزف العود مثلك، لأنني ارتكبت معصيةً، معصية لهم وليس معصية لخالقهم؛ لأنني أعلم يقيناً أن خالقهم هو خالقي، وأنه لن يغضب على منكوب مثلي؛ لأنه يعزف العود على ركام بيته.
لماذا يحدث كل ذلك معي؟!.. ألست أقاوم بما يكفي؟!.. أهناك المزيد من الألم الذي لم أتجرعه بعد؟! خمس سنواتٍ من الحرب الغاشمة ألا يكفي ذلك؟.. أليس هناك حل ما عند شخصٍ ما؟ أليس هناك نهاية لذلك القدر الذي فرضه الله على أرضى؟.. أما آن الأوان أن تتجلى حكمته من كل ذلك الأمر؟ أما آن الأوان لتُشفى تلك الصدور المشتعلة التي عجت بها البلاد؟
أنا لست أكثر الناس اهتماماً بالأزمة السورية ولا أكثرهم متابعة لها وقرباً منها، أنا مغيب مثلي كمثل باقي الشعوب العربية التي غُيبت وانشغلت بحالها عن كل شيء.. أنا فقط أتساءل: إلى متى ستظل هذه الحرب قائمةً؟ إلى متى ستظل هذه الجريمة جارية في حق شعب لا يستحق تلك المعاناة وعلى أرض لا يستحق جمالها أن يشوه بتلك الطريقة العنيفة على يد حفنة من اللصوص الجالسين في مجالس السلطة الذين قررو أن يبيعوا كل شيء فيها ليظلوا سالمين، ولصوص آخرين اقتحموها ليسرقوا ما تبقى منها ويسيطروا على كل ما طالته أيديهم؟!
أيها العابرون على جسدي.. لن تمروا.