الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سوريا: السياسة ورجل الدين.. علاقة تحتاج لتحرير

سوريا: السياسة ورجل الدين.. علاقة تحتاج لتحرير

14.04.2014
د. وائل مرزا


المدينة
13/4/2014
سوريا: السياسة ورجل الدين.. علاقة تحتاج لتحريرمرّةً أخرى، حدّثني أحدُ الأصدقاء بالأصالة عن نفسه، وبالنيابة عن آخرين كما فهمتُ من الحديث، مُشفقًا، ومحذّرًا بأن الحديث عن افتقار كثيرٍ من الإسلاميين للفكر السياسي المنهجي، يمكن أن يعني وُلوجًا في ساحة المحظورات السائدة في بعض أوساط المجتمعات العربية بشكلٍ عام، والسوري الراهن تحديدًا.. خاصةً، كما قال الصديق: "وإنك تشمل أحيانًا رجال دين في إطار الإسلاميين الذين تتحدث عنهم بشكل عام"، وتابع الصديق: إن هذا يمكن أن يُفهم لدى البعض بأنه مطالبةٌ بحظر تدخّل رجال الدين في السياسة، بل إن البعض الآخر يمكن أن يُفسّره، ودائمًا حسب نقل الصديق، على أنه دعوةٌ إلى فصل الدين عن السياسة!.
ورغم تفهّمي لمشاعر الصديق وشكري لاهتمامه، فقد سارعتُ وأسارعُ هنا إلى إعادة رأيي في هذا الموضوع كما ذكرتهُ سابقًا، لأنه لم يتغير في قليلٍ أو كثير.
بدأتُ بالتأكيد بأن هناك طريقةً في فهم الدين يجب حتمًا أن تُفصل عن السياسة.. وبأن هناك أفرادًا في المجتمع ربما يحملون بعض الشهادات الشرعية، وربما ينطلقون في أطروحاتهم وحركتهم من منطلق إخلاصٍ ينسجم مع حدود فهمهم، لكن من الواجب قطعًا أن يتمّ رفض مشاركتُهم في صناعة القرار السياسي بأي شكلٍ من الأشكال.. على الأقل في رأيي الذي لا أستطيع إصدار قرارات عملية من خلاله وإنما يبقى مجرد رأي،
أُكرر في كتاباتي أن هناك فرقًا دقيقًا وحاسمًا آن الأوان لإدراكه فيما يختص بعلاقة الإسلاميين، ومنهم رجال الدين، بالفكر السياسي وبصناعة السياسة، ولقد كان المقصود من الحديث سابقًا في الموضوع، ومن العرضِ هنا، الإشارة إلى أننا بحاجة إلى السياسي الذي يحمل همّ وطنه وشعبه والبشرية جمعاء من منطلقات حضارية إسلامية، ويفهم هذا العالم بتوازن وواقعية، ويمارس السياسة تنظيرًا أو تطبيقًا من خلال تلك المنطلقات،
وإلى أننا لسنا في حاجة إلى رجل الدين الذي يحاول أن يتعامل مع السياسة بناءً على مبلغ علمه من الرصيد الشرعي (النقلي البحت في أغلب الحالات)، وعلى مبلغ علمه عن الدنيا الذي يتأتى من مقتطفاتٍ من الأخبار والنقولات والقراءات.
أما إذا امتلك رجل الدين خبرةً وإمكانيات ومعرفة تمكّنه من الحركة في ساحة السياسة بما يُحقِّق مصالح بلاده، وبما يُظهر لأبناء شعبه درجة أهليته لتلك الحركة، فإن أحدًا لا يستطيع أن يضع عليه (فيتو) فقط لأن من صفاته أنه رجل دين، ثمة أمثلة، ولو كانت قليلةً، لكنها موجودة.
من هنا، قلت للصديق، هاتوا لنا رجل دين في مجتمعنا يدافع عن الحريات ويثق بقوة الإسلام الكامنة، ولا يخاف عليه بكل جلاله وعظمته من مقالٍ كُتب هنا أو كتابٍ صدر هناك أو قصيدةٍ أُلقيت هنالك، هاتوا لنا رجلًا يمثل الفكر الوسطي المنفتح الذي يرى التعاليم الإسلامية في صورتها الحقيقية: رحمةً ونعمةً ورفقًا بالناس، وتحريرًا لهم من القيود، وإطلاقًا لطاقاتهم نحو الابتكار والإبداع، حتى في المجالات التي يرى آخرون أنها قد انتهى فيها الكلام إلى قولٍ فصلٍ لا رادّ له ولا مُعقّب عليه".
هاتوا لنا رجلًا لا يستحي من إظهار عواطفه الإنسانية، يتصرفُ علنًا بطريقةٍ يراه فيها الناس بكل وضوحٍ وصراحة "متحفظًا من كل ثقل، طليقًا إلا من طراوته، حرًا إلا من قلبه.. متجاوزًا العمارات الفلسفية والفقهية.. وديعًا لا تأخذه عزّة ولا تفتنه غواية سلطة أو مال"، رجلًا يظهر بهذه القامة مقابل كثيرٍ من السادة "الناطقين باسم الله كثيرًا، الصارخين باسم الله كثيرًا، والعابسين باسم الله كثيرًا"!..
وفي الختام قلت للصديق، هاتوا لنا رجلًا يتحدث عن ملابسات تنوع التركيبة السكانية للبلاد، وعن قضايا الثقافة والتعليم والأمية والفن والأدب، وعن مصادر ووسائل تحريك عجلة الاقتصاد الداخلية والخارجية، وعن مسألة اسمها التضخم وأخرى اسمها البطالة، وعن النظام الضريبي، ونظام الضمان الاجتماعي، وعن توازنات وطبيعة العلاقات الخارجية والقواعد الناظمة لها، ويتحدث عن ضرورة توجيه الجهود والطاقات للتعامل مع هذه القضايا، بالتعاون بين قطاعات الشعب والحكومة، بشعور كاملٍ بالمسؤولية تجاه حاضر ومستقبل البلاد والعباد، دون همزٍ، ولا لمزٍ، ولا شتيمةٍ، ولا تكفير، ودون إلقاءٍ لكامل التبعة فيما يتعلق بالمشكلات على الاستعمار وعلى المؤامرات الدولية، يتجنب استسهال الاتهام بالخروج عن الملة والخيانة، وتحريك غرائز الشباب وحماسهم وتوجيههم في الاتجاه الخاطئ.
باختصار، هاتوا لنا رجلًا هذه صفاته، وصل رصيده من العلم الشرعي مداهُ، لكنه يفقه الواقع ويُعرف متغيراته ويُدرك حساسية عملية تنزيل الدين عليه.. هاتوا لنا مثل هذا الرجل، ونحن لا نقول أنه سيكون ملاكًا لا يُخطئ، أو معجزةً وكأنها هبةٌ من السماء لا تحتاج لمزيد.. وإنما فقط، ابحثوا عنه، واعملوا على إيجاده، ثم قدّموه في الصفوف، وانظروا ساعتها إذا كان أحدٌ سيمنعهُ، أو سيستطيع أن يمنعه من التفكير بالسياسة أو العمل بها بأي طريقٍ من الطرق وبأي أسلوبٍ من الأساليب.