الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سوريا الكبرى.. في الطريق إلى الصغرى

سوريا الكبرى.. في الطريق إلى الصغرى

30.01.2016
د. عبدالله العوضي



الاتحاد
الخميس 28/1/2016
دخلت سوريا منذ خمس سنوات إلى مرحلة الانتحار السياسي، فالدولة أو نظام الحكم فشل في لملمة الجراح التي لا زالت تنزف والأسد مُصر على الإمساك بالنواجذ ولو ببعض سوريا " اللاذقية"  لأنها علوية وبقية الشعب ليس كذلك وإنْ كانوا سوريين إلا أن ذنبهم بأنهم ليسوا علويين بالولادة ولا بالهوية.
سوريا لا تريد أن تكون عربية فهي التي أحرقت عروبتها في مداخن فارس المعاصرة ويا ليتها كانت القديمة عندما كانت حضارة منافسة على طول الخط مع الرومان.
البداية كانت مظاهرة تخللتها عبارات أو شعارات راهن النظام على مسحها من الجدران وظن أنها تمسح من الوجدان، فقد طالب بعض العقلاء في حينه التنازل ولو بقدر شعرة معاوية من أجل سوريا التنوع منذ فجر التاريخ.
ولم نر من يتنفسون من رحم " البعث"  الذي انهار صنوه في العراق آذاناً صاغية ولا عيونا مبصرة وعقولا واعية ولا مدركة للأزمات المقبلة، فالرؤية عميت والعناد لدى النظام ورجاله كالحديد، والسياسة الرشيدة غائبة منذ عقود. وتغير الزمان والخطط والاستراتيجيات العالمية أمور لم يتم الاعتراف بها والتصديق بوجودها من الأصل، وهكذا دواليك، فوقع الفأس في رأس كل المشاركين في هذه اللعبة السياسية الحارقة لكل مزايا سوريا الماضية، حتى طغى وتجبر يومها على أمسها المشرق، هذا ما يحصل اليوم على الأرض السورية ولا نقول في سوريا الدولة لأنها غير متواجدة إلا من خلال طائراتها المتخصصة في إلقاء البراميل على رؤوس الشعب الذي اختلط فيه الحابل بالنابل والأجدد من كل ذلك هو " داعش" .
أرض محروقة
لقد اتسع " الخرق"  السوري على الخوارق التي تخيط مشاريعها المخزوقة في هذا الثوب الذي لم يعد يحتمل المزيد من المشاريع الخرقاء، حتى تتدخل روسيا بدعوة من " داعش"  بشكل غير مباشر وأخرى بطلب من الحكومة الرسمية في سوريا التي تحكم نفسها حالياً حتى تستطيع التحكم في مجريات الأمور على الأرض " المحروقة" .
ولا يجب أن ننسى بأن روسيا بدأت تعاني فعلياً من آثار انخفاض أسعار النفط في السوق العالمية بعد أن وصلت إلى 22,96 دولاراً للبرميل، تعاني أسعار النفط من تراجع كبير منذ يونيو 2014 بسبب الزيادة في إنتاج أميركا وتراجع الطلب في الصين بسبب اقتصادها، وخاصة أن معظم الدول المنتجة للنفط كانوا يتوقعون الاستفادة من النهم والتعطش الصيني والهندي على النفط طوال القرن الحالي للرد على تراجع الولايات المتحدة في الاعتماد الكلي على نفط أوبك بسبب الكميات الضخمة للنفط الأحفوري لديها، وكذلك القانون القديم الذي ألغي من أجل السماح للحكومة الأميركية ببيع النفط المحلي للعالم.
هذا وقد انخفضت أسعار النفط بنسبة 70 في المئة خلال 15 شهراً الأخيرة. وقد حذر ميدفيديف منذ فترة وجيزة من أن بلاده قد تضطر لمراجعة ميزانية 2016 بسبب تهاوي أسعار النفط.
وقال أيضاً عن ذلك الوضع العالمي وليس الروسي فقط، بأن البلاد يجب أن تستعد لمواجهة السيناريو الاقتصادي " الأسوأ"  إذا ما استمرت أسعار النفط في التراجع، علماً بأن الضرائب من النفط والغاز تساهم بحوالي نصف عائدات الحكومة الروسية، فماذا لو عرفنا بأن ميزانية عام 2016 التي أقرتها روسيا في أكتوبر 2015، اعتمدت على أن أسعار النفط ستصل إلى 60 دولاراً للبرميل في العام الحالي 2016، وهو الرقم الذي وصفه بوتين في حينها بـ " غير الواقعي" .
وعلق وزير المالية الروسي على ذلك يقول إن الميزانية لن تصبح متوازنة إلا إذا بلغت أسعار النفط 82 دولاراً للبرميل، مضيفاً قوله إن ميزانية 2016 يجب أن تخضع للمراجعة ليعاد تقييم أسعار النفط لتقف التوقعات عند 40 دولارا.
تكلفة الحرب
ترى كيف تدبر روسيا تكاليف حربها في سوريا إذا دققت في التقارير التي تتحدث عن أن أسعار النفط قد تصل إلى مستوى 10 دولارات للبرميل في الفترة القصيرة المقبلة من هذا العام.
مع العلم بأن الحروب لم تؤمن يوماً بالميزانيات المغلقة أو المحددة مسبقاً، لأنها تأكل من وراء كواليس الميزانيات، أموال المسنين والمعوّقين من حيث لا يعلمون، لأن الاستمرار في الحروب يؤمن فقط بالميزانيات المفتوحة حتى لو كانت النتيجة نصراً أو هزيمة أو صفرية، وتاريخ الحروب السابقة ينبئُنا بذلك بل بما هو أكثر.
ولو دققنا في الخلاف السياسي حول مساهمة الروس في الحرب الأهلية المفتوحة على كل الجبهات بين روسيا وأميركا في التخلص من " داعش"  وفق الرؤية الروسية المنفردة عن تحالف الستين دولة لوجدنا البون شاسعاً في التحليل والتطبيق، فروسيا تزعم أنها سوف تنهي شيئا اسمه " داعش"  من الوجود سريعاً، في حين أميركا تدعي عليها التخلص من المعارضة المعترف بها على مستوى العالم وخاصة بعد أن ائتلفت أركانها في الرياض.
وآخر الأنباء العالمية تؤكد على قصف روسي لثلاث مدارس في بلدة غنجارة بريف حلب الغربي واستشهاد أكثر من ثمانية أطفال وجرح العشرات، معظمهم في حالة خطيرة، وفي ذات السياق، شن الطيران الروسي عدة غارات على قرية كفرناها بريف حلب الغربي، ما أسفر عن نشوب حريق في مشفى " بيوني" ، وكان الطيران المروحي قد استهدف يوم الاثنين الموافق 11-1-2016 بالألغام البحرية مدرسة ابتدائية في قرية " ياقد العدس"  بريف حلب الشمالي، ما أدى لاستشهاد طفلين وإصابة آخرين، كل هذا في ذات اليوم.
لسنا هنا في صدد الحصر لهذه الهجمات العسكرية على رؤوس الأطفال الذين يؤدون جزءاً من واجباتهم اليومية في المدارس التي لم تعد آمنة من قصف النظام وقصف المنقذ الروسي لورطة النظام في هذا المستنقع من غير قاع.
أوضاع مزرية
وصلت سوريا إلى وضع مزر للغاية، حيث إن النظام نفسه وإيران و" حزب الله"  وآخرين لا نعلمهم الله يعلمهم ومن ورائهم " داعش"  وفصائل أخرى ما أكثرها تقوم بنحر سوريا الوطن والدولة والحضارة والعيش المشترك بثمن بخس، فالكل يمارس ذات الجريمة وبنفس الفظاعة التي حولت سوريا من مكان آمن لعقود إلى مكان يخشى الجن قبل الإنس سكناه.
أخطر ما يحيق بسوريا المذبوحة اليوم من قبل كل الشركاء ليس الحرب الأهلية فهي مستعرة منذ نصف عقد من الزمن، ولكن الكارثة العظمى هي أن هذه البقعة أصبحت تفرخ عشرات الحركات والتنظيمات والجماعات المتطرفة بغض النظر على الأسماء أو الأشخاص، فهي غدت ساحة لتفريخ دواجن التطرف.
نعتقد بأن مرور خمسة أعوام عجاف على ما سميت بثورات " الربيع العربي"  الخائرة تكفي لمعرفة حقيقة إسحار العيون والعقول والأيادي التي صفقت لهذا الركام الذي تجمع في الدول التي لا زالت لم تستفق من هول المصاب، فسوريا التي كان رأس النظام فيها يكرر مراراً عدم وصول هذا الحراك الدموي إلى ساحته، فإذا بسوريا في قلب الدماء السائحة والسائلة بيد الجميع، فلم تعد هناك يد بريئة من جريمة القتل أو الاغتصاب إلى آخر القائمة التي تنتهي بجرائم حرب ممنهجة.
انحدار سياسي
نلفت نظر المبهورين والمخدوعين من فئة المثقفين بالثورات السابقة في العالم العربي وفي أي دولة ماذا أضافت إلى رصيد العالم العربي مقارنة بالثورة الفرنسية والأميركية والسويسرية وغيرها من الدول التي عانت الأمرّين في حربين عالميتين لم تترك للناس ورقة خضراء تشبع جوعهم وقطرة ماء نقي من الملوثات توقف عطشهم، فالحساب العربي العام إلى هذا الوقت بالناقص وبعد إعادة ذات التجربة الماضية، فقدت سوريا وحدها إلى الآن أكثر من تريليون دولار من دون حساب الدماء والأشلاء وهي التي لم تستطع عند تولي بشار الحكم واستبشار الناس بقدومه زيادة رواتب الموظفين بعد عهود طويلة من الجمود الإداري والمالي إلا بنسبة مئوية أضحكت خبراء المال والأعمال في العالم أجمع فضلاً عن ضحكات سخرية السوريين، فمن أين ينفق النظام على ترسانته العسكرية لقتل شعب أبي أخرج الاستعمار الفرنسي من بلده بذات الدماء التي يهدرها ويسكبها النظام في طرقات الأحياء التي أماتها الفقر منذ عقود، فهي ليست بحاجة إلى البراميل المتفجرة حتى تدك على رؤوس السكان الباحثين عن الوطن الجديد بين أسنان أسماك القرش في البحار والمحيطات.
في بداية هذا الانحدار السياسي الشنيع للنظام في سوريا، وبعد أن استخدمت الدولة السورية للحفاظ على كرسيها في دمشق فقط، استعملت كل ما تملك في ترسانتها من العدة والعتاد التي لم توجه يوماً ما إلى " العدو الأول"  لها في الجولان، وقد صب النظام جام غضب أسلحته على الشعب وحده دون تمييز بين بريء ومجرم ومن ذهب ضحية اللا سبب وهو العدم بعينه.
ظن البعض بأن ما يحدث في سوريا فقاعة سياسية سرعان ما ينتهي مفعولها بمجرد ملامستها الهواء الخارجي واعتقد الآخر سحابة صيف تمطر زخات من الماء لا تستمر لأيام، إلا أن الأمر قد خرج من إطار البالونات الصبيانية أو فقاعات صوابين الأطفال والأمطار الصناعية التي تستمطر السحب بعد تلقيها عندما يكون الجدب قريباً من المجتمع ويؤثر على حركة معيشة الناس الركع والبهائم الرتع.
وعندما انقشع الضباب السياسي والجدب الفكري، بانت الوقائع قبل الحقائق، فكانت أوضح تبياناً على هشاشة النظام الذي راهن على الشعب الذي أجبر بعضه على السجود والركوع لصور بشار في الشوارع العامة، للدلالة على الولاء التام للنظام والانتماء إلى الطائفة العلوية دون بقية خلق الله في سوريا التعدد الحضاري منذ آلاف السنين وفق ما يقر به العالم المتقدم، وعلى رأسهم فرنسا التي احتلتها ولكنها اعترفت بوزنها الحضاري حتى ساعة البلاء هذه.
وقال البعض الآخر بأن ما يحدث على الأرض السورية أشبه بما حصل في لبنان الذي اكتوى بنار النظام السوري لثلاثة عقود حتى اضطر للخروج، بل هو أشد لأن لبنان قبل اتفاقية الطائف وهدأ الوضع نسبياً حتى دخل " حزب الله"  على خط النار في بلده وفي سوريا الولاء الطائفي.
ويعتبر بأن الشبه بعيد من أكثر من ناحية ولأكثر من سبب، فالتطابق بين البلدين في إشراكها في الأزمة لا يضع النقاط على حروف الجرح السوري المفتوح على كل الاحتمالات
لا ينبغي أن نتجاهل دور النظام في المماطلة للوصول إلى حل ما منذ البداية، حتي وصل إلى مرحلة استخدام سلاح الحصار والجوع والعطش والمرض المميت من جراء نقص كل ما يبقي الإنسان على قيد الحياة ومعه أيضاً الحيوان الأبكم والبهائم وكل ما يدب على الأرض وهي تحتاج إلي ضرورات الحياة القصوى.
فمضايا انقشع عنها الضباب الآن وهناك أخوات لها تعاني أكثر منها ولكن الروائح النتنة من سياسة النظام لم تخرج بعد لإزكام أنوف العالم وإن كان الوضع لن يطول كثيراً لوقوع الكارثة الإنسانية في أبشع صورها، لغة المشاعر الإنسانية لدى النظام الحاكم انقرضت، فالشعب السوري بحاجة لسد رمقه السياسي أولاً وقبل كل شيء لأن هذا هو المشكل الحقيقي، فبذلك تُسد الجوعة الحقيقية لإنسانية ترحم الحيوان الجائع أيضاً وليس الإنسان بحد ذاته.
أين العالم المتقدم؟
العالم المتقدم الذي يدافع عن الحيوانات السائبة في البراري والقفار ويصدر القوانين والتشريعات تلو الأخرى لعدم الوصول بهم عند مصطاديهم إلى حافة الانقراض وأنشأ من أجل ذلك جمعيات الرفق بالحيوان وأقسام خاصة في مؤسسات الدفاع المدني لإنقاذ القطط والكلاب التي تسقط مصادفة في الحفر والمستنقعات ويترك من أجلها كل المعدات الخاصة بالإنقاذ ولو كلف ذلك ملايين الدولارات فلا تبالي بقدر اهتمامها لإنقاذ ذلك الحيوان الضال لطريق الاعتدال، ألا يستحق إنسان سوريا الذي خرج عن سياق وحدود الوطن الآمن ودخل في حدود الدول والأصقاع الأخرى والبعض العالق في براري الصقيع أن تتحرك من أجله كافة مؤسسات الدفاع عن حقوق الإنسان بدل السكوت على عقوقه ومشاركة الجميع في تلك الأرض في إهانته ونزع آخر قطرة من كرامته التي أهدرت بلا سبب ولا مبرر مقنع لذلك.
فالجوع والحصار السلاح الجديد الذي بدأت الحكومة السورية مع مواليه من حزب الله وإيران ممارسته ضد 40 ألف شخص مقبل على الموت جوعاً أو قتلاً أو خطأ بأيدي من يفترض أنهم حُماته هذا في مضايا وحدها وفي الفوعة وكفريا لا يقل عن ذلك إن لم يزد.
وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، يعيش نحو 4,5 مليون شخص في مناطق يصعب الوصول إليها في سوريا، بينهم نحو 400 ألف في 15 موقعاً محاصراً لا يستطيعون الحصول على إغاثات أكثر من ضرورية لإنقاذ الأرواح، وقد شاهدت الأمم المتحدة حسب وصفها " حالات مخيفة"  أثناء توزيع الفتات من المعونات التي سمحت الحكومة السورية والمعارضة المسلحة إدخالها إلى تلك البقاع " المخيفة" .
سوريا الشرق الأوسط التي كانت تعد يوماً ما من أكبر الدول في العالم في تجميع وتكديس الأسلحة الفتاكة والمهترية ففي أوائل التسعينيات كان الجزء الأكبر من ميزانية الدولة السورية تخصص للدفاع والجيش والسلاح، وبنسبة قدرها 30% من إجمالي الميزانية العامة للحكومة، فاليوم نعتقد بأن جل الميزانية السائلة مع دماء السوريين قد تم تخصيصه للاحتراق في أتون هذه الحرب الأهلية العالمية التي لم يتم إعلان الانتهاء منها عن قريب لا العاجل ولا المنظور.
يقول ساركوزي الرئيس المرشح المقبل لفرنسا في الدورة الانتخابية للعام 2017 بأن كل ما يمس الشرق الأوسط من ضرر سوف يصيبنا لأننا أقرب دولة إلى هذا الشرق فأقرب نقطة التقاء بيننا وبينه لا تزيد عن 12 كيلومتر عن طريق تونس وتعرفون ماذا حدث لتونس.
ومن قال بأن هذا الأثر السوري " الداعشي"  وقف عند فرنسا ولم يطل آلاف الكيلومترات في إندونيسيا التي اكتوت هي أيضاً بما يجري هناك في تلك الأرض السورية البركانية، فإن رمادها أو رذاذها طالت آخر انفجار وقع في إندونيسيا، حيث تفيد التقارير بأن نحو ما بين 150-200 إندونيسي توجهوا - على ما يعتقد - خلال السنوات الثلاث الماضية إلى سوريا للقتال مع مسلحي " داعش"  والانفجار الأخير في تركيا كان بفعل " لاجئ"  سوري وفق مجريات التحقيقات، وهكذا نرى هذا السيل العرم ليس تاركاً خلق الله دولاً ومجتمعات وأفراداً في سلام.
حصار وتجويع
فاستخدام الحصار كسلاح في الأزمة السورية إضافة إلى بقية الأسلحة الفتاكة من الكيماوية وبراميل البارود المتفجرة مدان عالمياً وهو ما ذهبت إليه منظمة الأمم المتحدة التي تبحث لها اليوم عن أي طريق سالك في الخارطة السورية الضائعة من أجل الوصول إلى نفس جائعه أو عطشى لماء الحياة، لدى من فقدوا من وجوههم مياه الحياء بما صنعوا بهؤلاء الضعفاء وبغيرهم منذ سنوات، والأرض المتحركة في سوريا مهيأة لإدامة هذا الحال لفترة ليست بالقصيرة، إذا لم تحسم الأوضاع من جذورها وليس فقط الطبطبة على آثارها الجانبية اليوم.
رحيل الأسد
في مرحلة من المراحل وصل الحال بالأزمة السورية إلى أمر موجه للفرد الأسد وبدأ العالم المتقدم والعالم الثاني والثالث بشكل عام يقدم رجلا ويؤخر أخرى حول مصير الأسد.
فقد اختصرت الأزمة في شخصه بين ارحل يا أسد بأسرع مما يتوقع البعض، وبين لا ترحل يا أسد حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. فسياسة المقارنات بين الأحداث التي تتصف بالدولية في تأثيراتها السلبية لا تقبل القسمة على اثنين لأن النتيجة لا تكون واحدة، رغم تشابه الأحوال والأوضاع بين الدول التي وقعت في براثن فعالها الداخلية ومشاركة الخارجين عليها عن الخط المعهود.
قبل شهرين من الآن تقريباً كان أوباما على رأس القادة في العالم يعتبر أن الحرب في سوريا لا يمكن أن تنتهي بدون رحيل الأسد مستبعداً بذلك الاقتراحات باحتمال مشاركة الأسد في انتخابات مقبلة، وقال أوباما، بعد أيام على لقائه ببوتين، المصر على بقاء الأسد حتى الرمق الأخير من سوريا، " لا يمكنني أن أتصور وضعاً يمكننا فيه إنهاء الحرب الأهلية في سوريا مع بقاء الأسد في السلطة" .
هذا الاختصار المخل للأزمة الكارثية في سوريا يعرض سوريا الوطن والدولة في آن إلى الانكماش في حدود اللاذقية التي يريد الأسد فيها العودة إلى عرينه هناك، وهو على أتم الاستعداد لذلك، حتي لو أدى الأمر إلى تقطيع وتقسيم سوريا إرباً إرباً من قبل كل الأطراف المتنازعة فيها ومن حولها.
طغيان الإرهاب
ولم يغب الأسد عن الإدلاء بدلوه حول المقترح الروسي إلا أنه ربط كل ذلك أولاً بـ" القضاء على خطر المجموعات الإرهابية" . وهو ما سيقود إلى الحل السياسي الذي تسعى إليه سوريا وروسيا وفق رؤية الأسد بعد أن شرد وشتت أكثر من 13 مليون سوري في الداخل والخارج منذ بدء الأزمة ولا زال الحبل على الجرّار، ولا نعلم كم سورياً سيبقى داخل الوطن خلال السنتين القادمتين من أجل التصويت في الانتخابات الرئاسية المبكرة.
هذا وقد ذهب روحاني في قوله على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في العام الماضي 2015 أن الحكومة في دمشق " لا يمكن أن تضعف"  مقابل هزيمة متشددي " داعش"  هذا الحليف شبه الأبدي للأسد الذي يشارك حرسه الثوري في التقليل من النسل السوري يدخل القائد العام للحرس على الخط وبالتشكيك في موقف الأسد تجاه مستقبل الأسد وليس سوريا بالطبع، متهماً روسيا التي وصفها بالرفيق الشمالي بالبحث عن مصالحها في سوريا الأمر الذي يظهر الخلاف بين أهم دولتين تحميان الحكومة السورية.
بعد وصول سوريا إلى هذه الحالة التي يرثى لها يصر الحاكم الفعلي لدمشق على القول بأن " أغلبية الشعب السوري موال للأسد"  وحتى وإن بقي في سوريا بشر يعدون على الأصابع ومع ذلك يبقون هم الأغلبية في نظر النظام الإيراني وهو حقاً توأم النظام الحاكم في سوريا.
ويضيف المندوب السامي الإيراني لسوريا قائلاً: " إن إيران لا تري أي بديل للأسد مؤكداً بأن هذا الموقف هو موقف المرشد الأعلى والحرس الثوري.." . فالاسترسال مع هذا المندوب لا يضيع الوقت فقط، بل يضيع سوريا الوطن جملة وتفصيلاً، فالميزان الإيراني لصالح الأسد وليس للشعب السوري أي وزن مقابل الفرد الأوحد في سوريا.
حتى ندرك ماذا يريد الأسد من سوريا وفي سوريا، علينا ألا نتجاهل التحليلات التي قد لا يرغب البعض في قراءتها أو حتى إلقاء نظرة ولو غير فاحصة عليها.
ومن ذلك تحليلاً كتبه كريس دويل، مدير مجلس التفاهم العربي البريطاني حيث يقول: إن العالم يرى حل النزاع السياسي في سوريا ومشكلة اللاجئين في زيادة القصف الجوي على أهداف تابعة لـ" داعش"  في حين يرى الكاتب دويل غير هذا الرأي، ويقول إن الحل يكمن في تحرير الاقتصاد السوري من اعتماده على الحرب، بينما القوى الخارجية تشجع وتغذي هذا الاعتماد.
ويقول أيضاً أنه لا حل عسكرياً للنزاع في سوريا، وعلى الأطراف الخارجية أن تدرك أنه لا جدوى من انتظار أن يلقي أحد الأطراف سلاحه، فالأسد مثلاً بحاجة إلى الحرب حتى يطيل عمر نظامه، فهو غير مستعد لمواجهة المساءلة عن فشل هذا النظام، و" داعش"  بالمقابل بحاجة للحرب من أجل الاستيلاء على الأراضي الأقل حماية.
ولم يستطع " داعش"  أصلاً سرعة الوصول لاحتلال المساحات الشاسعة من سوريا خلال فترة زمنية قصيرة جداً بمقاييس الحروب العالمية والأهلية إلا بسبب تواطؤ مباشر وغير مباشر من النظام الحاكم حتى يوجد لنفسه مبرراً للتدخل الخارجي في سوريا بزعم وجود " داعش"  المحدث وآخرين من المتطرفين المعتقين في ثنايا الحدود الجغرافية السورية.
العالم كله مشتت حول كيفية معالجة هذه الصفحة السورية التي لم تطو منذ أكثر من خمسة أعوام مرت وكأنها يوم من أيام النكبة العربية المعاصرة.
والعالم المستعجل اليوم يبحث عن أسرع الحلول لتوطين الملايين الهاربين من أتون الحرب الأهلية في وطنهم المستباح للكل وغير مباح لهم.
يقال سياسياً إذا انتهت الحرب على الفور فإن معالجة شؤون اللاجئين وعودتهم إلى ديارهم سالمين غانمين بحاجة إلى سنوات طوال، فالأمر أكبر من طاقة سوريا الوطن لتحمل تكاليف عودتهم بعد أن كانوا آمنين في أسرابهم، سالمين في أبدانهم واعين ومدركين لمتطلبات حاجاتهم الأساسية وإن كانت ليرات سوريا رخيصة، بدل ملايين الدولارات التي أهدرت على البارود والصاروخ.
فلنستمع إلى آخر تقرير أو تصريح للمفوض السامي الجديد لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة، فيليب غراندي الذي طالب العالم أجمع بضرورة إيجاد طرق أكثر عدلاً لإعادة توطين اللاجئين السوريين الفارين من الحرب الأهلية الطاحنة هناك وهم ما زالوا يكتوون بلظاها عبر آلاف الأميال والكيلو مترات، لأن حالة اللجوء ليست بأسهل منها معاناة الداخل وذلك بشهادة من يتم استطلاع آرائهم بين فترة وأخرى، فمعظمهم يفضلون الوطن عوضاً عن وضع اللا وطن.
طوابير اللاجئين.. بالملايين
لغة الأرقام في الأزمة السورية لم يعد لها وقع على أحد، وإنما هي تمر على وسائل الإعلام دون أن تدخل إلى أروقة الذين عليهم مسؤولية عدم تفاقمها.
قال الدبلوماسي الإيطالي أثناء زيارة معسكر للاجئين في الأردن " إن الأزمة لا يمكن أن تكون مثار اهتمام جوار سوريا فقط"  لماذا؟ لأن الطوابير المليونية اخترقت خارج كل الحدود المرسومة حول احتواء الأزمة عند الجوار ولكن عندما يطغى الماء على اللبن فإن نسبة السيولة السياسية تزداد والتحكم عليه صعب والتضييق يؤدي إلى مزيد من الانفجار، وهذا بالضبط ما يحدث في المعركة " العالمية"  ضد " داعش"  والحرب الأهلية التي تدور رحاها هناك.
ماذا لدى دول الجوار لسوريا الشعب حتى الساعة غير الطبطبة، فالأردن تستضيف قرابة 633 ألف لاجئ من إجمالي 4,39 مليون سوري مسجلين كلاجئين لدى الأمم المتحدة.
ويوجد العديد من اللاجئين السوريين في مخيمات أخرى في تركيا، التي تستضيف مليوناً و805 آلاف و255 لاجئاً، كما يوجد أيضاً في لبنان مليون و172 ألفاً و753 لاجئاً، بينما توجد بأعداد أقل في كل من العراق و24 ألفاً و726 لاجئاً، ومصر حيث يوجد 132 ألفاً و375 لاجئاً.
وكذلك تستضيف دول شمال أفريقيا حوالى 24 ألفاً و55 لاجئاً، وفقاً للبيانات الرسمية للمفوضية، كما طلب مئات الآلاف من المهاجرين اللجوء في دول الاتحاد الأوروبي خلال الأعوام الأخيرة، وهي التي سببت مشاكل سياسية بين دولها وخاصة عندما وافقت ميركل على استقبال قرابة مليون سوري في العام الماضي 2015.
وأضاف " غراندي"  من داخل معسكر الزعتري الأردني للاجئين: " أعتقد أننا بحاجة إلى أن نكون أكثر طموحاً فيما يتعلق بإعادة توطين اللاجئين" . وتابع: " ما نحتاج إليه هو أن نتشارك المسؤوليات على نحو أفضل" ، وجاءت تلك التعليقات في الوقت الذي قالت فيه المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن عدد السوريين العالقين على الحدود الأردنية ارتفع بشدة ليصل إلى 17 آلاف شخص.
نريد الإجابة على هذا السؤال المنطقي في السياسة، كيف نوقف السيل المنهمر من اللاجئين براً وبحراً وجواً مع استمرار الحرب الدائرة، فإما أن ينتحر السوريون جميعاً تحت القصف من الجميع أو الهروب من الجحيم ولو كانت النتيجة الواقعية جهنم أكبر من ذلك المصير.
محاربة " داعش"
اللاجئون وجه واحد من أوجه الأزمة السورية الماحقة لسبل الاستقرار في المنطقة برمتها، وقد دخل معظم دول العالم إليها كل حسب جدول المصلحة الخاصة، ولو كان العنوان الأهم هو محاربة " داعش" .
فلنتطرق قليلاً إلى الأوجه الأخرى للأزمة الخانقة في سوريا أرض الثراء وتنوع الحضارات الإنسانية كافة بشهادة سراق الآثار قبل علمائها والعارفين بقيمتها والمدركين لوزنها عبر القرون السالفة.
العالم بكل أطيافه يريد أن يرى حمامة السلام تحل في ربوع سوريا في أقرب وقت من الناحية السياسية، والسوريون أنفسهم أحوج لهذا السلام الذي انفرط عقده طوال الخمس سنوات التي مرت بلا سلام.
فالمؤشرات العالمية تكمن في مؤتمرات " جنيف"  ومجموعة أصدقاء سوريا والتحالف العالمي والإسلامي العربي لمحاربة " داعش"  بالإضافة إلى الجهود الدبلوماسية التي بذلت منذ اندلاع الأزمة ولم تأت بالحصاد المرغوب فيه، فوقع المرعوب منه.
ليست هناك حرب حقيقية بالمصطلح العسكري والسياسي، أي بمعنى ليس مواجهة بين دولة وأخرى وهذا الوضع يعقِّد الحرب التي يراد من العالم كسبه بأي ثمن.
فالأزمة بدأت بالتظاهرات التي كان بإمكان النظام في حينه إجهاضه لتراكم الخبرة لديه، إلا أنه عاند وماطل وسوَّف حتى دخلت سوريا مرحلة الحرب الأهلية الطائفية العلوية الشيعية السنية القاعدية " الداعشية"  وعشرات من الحركات المتطرفة.
بل تطور الأمر أكثر من ذلك فتحالفت دول العالم بما لا يقل عن 60 دولة لمحاربة " داعش"  وانضمت إليها مبادرة السعودية في تحالف أكثر من 30 دولة إسلامية وعربية لداعي الإجهاز على الإرهاب والتطرف وكل ما يمت إلي هذا الانحدار باسم الإسلام والدين، فإلي هذه المرحلة لا يمكن أن نسمي كل ذلك حرباً بمعنى الكلمة ولا حتى بالمصطلح المستخدم في القوانين التي تنظم العلاقات الدولية وإن تحالفت روسيا وسوريا وإيران والصين في الدفع بإلحاق الهزيمة لـ" داعش"  ومن لف لفه.
حشد غير مسبوق
لأول مرة في تاريخ الحروب المعاصرة والماضية يحصل هذا الحشد المحشود على مستوى العوالم الثلاث من أجل خلق " ثالثة الأثافي"  و" مثلث برمودا"  سياسي يغرق فيه كل دعاة التطرف أفراداً وجماعات وحركات ومنظمات ودول. حصيلة هذا كله هي توحيد المعارضة صفوفها في مؤتمر الرياض لمقابلة الطرف الآخر ألا وهو ممثلو النظام السوري من أجل التوصل إلى بداية الخيط الأول للحل السلمي.
وهذا ما حدا بوزير الخارجية الفرنسية القول في المؤتمر الصحفي بالرياض منذ فترة وجيزة بأن فرنسا تولي أهمية كبيرة للأمن في منطقة الشرق الأوسط، والأسد يدير الأمور بطريقة سيئة جداً، وأردف وزير الخارجية السعودية قائلاً بأن المعارضة السورية هي من يحدد ممثليها بالمفاوضات.
العالم أجمع يرغب في تدارك حدوث الأسوأ لسوريا الوطن وليس الأسد على أساس أن الوطن أهم من الفرد وإن كان في مرتبة " الأسد" .
وحتى يتم تقابل الأضداد السوري بكل ما أنتجت الأزمة من عقد ملفوفة بخيوط مصنوعة من الشّعر الدقيق، فالترقب دأب الساسة الدوليين والجيوش الجرارة من المحللين، فلو تم الاتفاق في الجولة المقبلة على الحد الأدنى، لوقع المأمول وذهب الجميع إلى فرشهم حامدين المولى على نقطة العودة إلي الأمن والأمان وهما صماما الاستقرار في سوريا الكبرى التي نود لها أن تبقى كذلك ولا ترضى لنفسها بالصغرى أبداً.