الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سوريا بين الثورة والإرهاب

سوريا بين الثورة والإرهاب

11.01.2014
د. رياض نعسان أغا


الاتحاد
الجمعة 10/1/2014
سياسة خلط الأوراق فن عريق برع فيه الصهاينة أكثر من سواهم، وليس أقل منهم براعة السياسيون المحترفون في النظام السوري الأمني الذي تمرس بهذا الفن خلال عقود أهمها فترة تدخله في لبنان حيث الساحة السياسية على صغر حجمها تشبه المسرح التجريبي.
وخلط الأوراق نوع من فن التعمية الذي برع فيه الفرس كذلك، وأعتقد أن ما نشهده الآن في السياسة الدولية هو عرض مبهر لخلط الأوراق وتزييف الحقائق وإرباك اللاعبين الهواة.
مشهد يصل إلى إحدى ذرواته في قضية الملف الكيماوي السوري وتداعياته التي فاجأت العالم، وكانت التعمية هي غياب إسرائيل عما يحدث كأن الأمر لا يعنيها مع أنها المستفيد الوحيد على صعيد استراتيجي، وقد بدا مثيراً أن تعلن ضيقها من التقارب الأميركي الإيراني المفاجئ، وبعض المحللين اعتبر أن إسرائيل اضطرت أن تلجأ إلى فرنسا قلقة من التصرف الأميركي، وتناسى المحللون أن سياسة الولايات المتحدة ترسم حسب المصالح الإسرائيلية تحديداً، ومن يتجاوز هذه المصالح تلاحقه الفضائح. ومن يتابع مسلسل التعمية الأميركي الذي شغل العالم بعد جريمة الغوطة الكيماوية في أغسطس الماضي 2013، سيجد عرضاً مسرحياً مدهشاً حقاً على صعيد دولي، فقد دقت أجراس الحرب ضد سوريا وتم تحديد موعد انطلاق الطائرات والصواريخ، وعاشت بريطانيا وفرنسا حالة الحرب، وعقد كيري سيلاً من المؤتمرات الصحفية وتحدث أوباما مرات بلهجة صارمة، وقد خشيت أن تكون الضربة جادة وكانت المفاجأة التي أدهشت العالم ظهور الاتفاق الذي كان مستتراً بين روسيا وأميركا والانسجام السري بين أميركا وإيران، والتوافق على أن تسلم سوريا أسلحتها. ومرة أخرى نحمد الله على أن الضربة الأميركية لم تحدث، وفي ذات الوقت نشكو إلى الله أن سيلاً من الضربات التي لا تقل خطورة عن الكيماوي تصاعدت بقوة مريعة ضد المدن والقرى السورية مع حصار الجوع والخوف وقطع سبل الحياة، ولكن المجتمع الدولي بدا موافقاً على استخدام البراميل التي توزع الموت بشكل عشوائي فهي غير محرمة دولياً!
كان خلط الأوراق في قضية الكيماوي مثيراً حتى إنه ضيع بوصلة كثير من المحللين السياسيين، فنسوا أن عقاب من يرتكب جريمة لا ينتهي بمصادرة السلاح، وقد فوجئ العالم بتزامن ما حدث مع نجاح مفاوضات جنيف بشأن النووي الإيراني على رغم كونه ما يزال غامضاً، ويبدو الفصل الآخر الأكثر خطورة في خلط الأوراق هو التعمية الكاملة على الثورة السورية في وسائل الإعلام العالمية، والتركيز على المنظمات الإرهابية التي غصت بها الساحة السورية، حتى باتت القضية السورية قضية نظام يحارب الإرهاب، وهذا ما تم الترويج له وقد نجحت حملة خلط الأوراق وبدا المجتمع الدولي مؤيداً لحملة ضد الإرهاب متجاهلاً مصدره الحقيقي. ووصل الأمر إلى أن تطلب بعض الجهات الدولية المعنية أن يتحد الجيش الحر مع الجيش النظامي مع قوى المعارضة بقيادة النظام لمحاربة المنظمات التكفيرية الإرهابية. وأما الثورة السورية من أجل الحرية والكرامة وبناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية فقد صارت ذكرى رومانسية من الماضي، على رغم أن دماء نصف مليون شهيد وقتيل لم تجف، ورغم أن آلاف المعتقلين ما يزالون يموتون تحت التعذيب، ورغم أن ملايين المهجرين والمشردين يعانون التيه والشتات، وقد صاروا جميعاً مجرد كومبارس في المسرحية الدولية التي تستهين بكرامة الشعب السوري وتعبث بقضيته. وإذا كان بوسعنا أن نفهم دوافع إيران العقائدية والتوسعية في موقفها ضد الشعب السوري، فإن فهم دوافع روسيا يبدو معقداً، وبموافقة تامة من الولايات المتحدة وإسرائيل وهذا ما كشفته النتائج.
ولن نعتب على إسرائيل بالطبع إن هي تدخلت في الخفاء وحولت النتائج لصالحها، ولكننا نعتب على المجتمع الإنساني الذي تخلى عن الشعب السوري وتركه يواجه الجوع والبرد والقهر والموت الجماعي بذريعة أن النظام يحارب الإرهاب وكأن الشعب السوري كله قد صار إرهابياً.
ولم يكن يغيب شيء من هذا كله عن السوريين، فقد سموا ثورتهم "اليتيمة" منذ قيامها، وهم يدركون أنه لا مصلحة لأحد في انتصار مشروعهم، لأن تغيير بعض سياسات المنطقة قد يهدد أمن إسرائيل وهو الخط الأحمر العريض الذي تعلنه الولايات المتحدة التي تبدو سياساتها الخارجية مرسومة بهدف حماية أمن إسرائيل، وهي مستعدة للتضحية بكل حلفائها وأصدقائها في الشرق الأوسط حين تجد أمراً يبعث قلقاً في إسرائيل ولو بعد عقود. وليس بوسع أي باحث أن يقول إن سياسة روسيا الخارجية تقع خارج هذا الإطار فقد تمكنت الصهيونية من التوغل في خلايا القيادات الروسية واستولت مرة أخرى عبر الاقتصاد على القرار الروسي.
وربما قال قائل هل ستبقى إسرائيل هي المشجب الذي تعلقون عليه ضعفكم وتناحركم وخيبتكم؟ أقول إننا لا نصنع وهماً، ولسنا أغبياء كي نظن أن التقارب الأميركي الإيراني جاء ضد إسرائيل التي عبرت عن ضيقها وقلقها، ونحن حقاً محكومون بالضعف، لأن التناحر السياسي ما يزال بيد لاعبي مسرح العرائس. ألا ترون كيف أجبر السوريون على تشكيل الائتلاف، وكيف يجبرون اليوم على هدمه حين يطلب منهم أن يذهبوا إلى مؤتمر جنيف دون أي وضوح في الهدف، حتى إن دولاً عربية ذات مكانة وشأن لا تعرف حقيقة ما سيعرض على السوريين في جنيف، لقد اختلطت الأوراق إلى درجة أن المعارضين السياسيين وقعوا في الفخ وباتوا يشغلون وقتهم كله بمعارضة زملائهم في المعارضة. والمقاتلون في الداخل يصارع بعضهم بعضاً، ولا تبدو بارقة أمل راهنة غير أن تتحد قوى الثورة، وأن تشكل كياناً ثورياً يأخذ شرعيته من الداخل ومن الشعب السوري الذي يعاني ما لا يطاق من الظروف القاهرة التي يعيشها، وأن يكف بعض المعارضين السياسيين عن تلقي التعليمات حتى من الدول الداعمة، فلا أحد حريص على السوريين أكثر من حرصهم على أنفسهم. وأؤيد وقوف الثوار لمواجهة قوى الإرهاب التي شوهت الثورة وسحبت بساط التأييد العالمي لها وقدمت صوراً متخلفة مفتعلة للحضور الإسلامي، في بلد هو مضرب المثل في الفهم الصحيح الوسطي اليسير المعتدل للإسلام، وفي مجتمع كان يقتدى به في تفاعل التنوع و التعددية والعيش المشترك على أساس المواطنة وحدها.
لقد كان قرار الثوار بمواجهة التنظيمات الدخيلة على الثورة قراراً جريئاً، ويبدو مريباً أن تعجز استخبارات دول كبرى عن معرفة مصادر تمويل هذه التنظيمات الإرهابية ومصادر تسليحها.
وأنا أدرك أن كثيراً من شباب سوريا انضموا إلى بعض هذه التنظيمات المعمّاة لجهلهم بقياداتها وأهدافها، أو لبحثهم عن حماية ومأمن، أو لفهم ديني ملتبس، وهؤلاء جديرون بأن يتم إنقاذهم من أيدي الغرباء الذين تم شراؤهم وتوظيفهم ليقوموا بأخطر عملية خلط أوراق ضاعت فيها أوراق الثورة النظيفة المطالبة بحق مشروع، هو الحرية والكرامة.