الرئيسة \  تقارير  \  سوريا بين الجغرافيا الكاسرة والدولة الممكنة.. من مصيدة الموقع إلى منصة السيادة

سوريا بين الجغرافيا الكاسرة والدولة الممكنة.. من مصيدة الموقع إلى منصة السيادة

20.04.2025
إياد أحمد شمسي



سوريا بين الجغرافيا الكاسرة والدولة الممكنة.. من مصيدة الموقع إلى منصة السيادة
إياد أحمد شمسي
سوريا تي في
السبت 19/4/2025
ليست الجغرافيا، في الحالة السورية، مجرد تضاريس على الخريطة أو مناخ يؤثر على الزراعة والطقس، بل هي بنية حاكمة للعلاقات السياسية، وأداة صلبة في إنتاج الهوية، وشريك فعلي في رسم مسار الدولة والمجتمع.
فمنذ فجر التاريخ، كانت سوريا أكثر من مجرد مساحة؛ كانت معبرًا للجيوش، ومخزنًا للرموز، ومسرحًا لصدام المشاريع الكبرى. وبينما تُساق الجغرافيا عادة كعامل حتمي في قوة الدول أو ضعفها، فإن المأساة السورية تكشف عن مأساة مضاعفة: ليست فقط في الموقع، بل في غياب الرؤية السياسية القادرة على تحويل هذا الموقع إلى مكسب سيادي.
لقد تعاملت النخب الحاكمة، لا سيما بعد سيطرة البعث، مع الجغرافيا كأداة للابتزاز الإقليمي، لا كدعامة لبناء دولة. وتحوّل الموقع الاستراتيجي لسوريا من نقطة ارتكاز اقتصادي وسياسي إلى مصيدة استنزاف داخلي وخارجي، تُستخدم فيها الجغرافيا لتبرير القمع، أو لتسهيل التحالفات التبعية، أو لفتح البلاد أمام مشاريع الآخرين.
ومع اندلاع الثورة عام 2011، بدأ هذا الموقع، الذي لطالما استُخدم في سياق احتكاري، يتفتت بين اللاعبين. وصارت الجغرافيا ذاتها، التي كان يُفترض أن تكون قاعدة الوحدة والسيادة، تتشظى تحت وقع السلاح والتدخلات والصراعات الطائفية.
لكن الجغرافيا – رغم كل ما فُرض عليها – لم تفقد قيمتها، بل ازدادت أهميتها، لا سيما بعد لحظة سقوط النظام عام 2024، تلك اللحظة التي لم تكن مجرد انهيار سياسي، بل تحوّل بنيوي يُعيد صياغة العلاقة بين الأرض والسلطة، بين الخارطة والمشروع، بين سوريا كميدان وسوريا كدولة.
إننا اليوم أمام مفترق تاريخي:
إما أن نعيد الجغرافيا إلى موقعها كأداة لبناء الدولة السورية الجديدة –تكون سيادية، متصالحة مع محيطها أو نتركها ساحة مفتوحة للآخرين، حيث يُعاد إنتاج سوريا كجبهة دفاع بالوكالة، أو كسوق للمصالح المتقاطعة.
أولاً: سوريا قبل الثورة – سلطة تستثمر الخارج وتخنق الداخل
منذ استلام البعث للسلطة، ومع ترسيخ حكم الأسد الأب، بُنيت استراتيجية النظام على استخدام الجغرافيا كأداة للمقايضة السياسية، لا للتنمية أو الاستقلال.
• داخليًا: تم تهميش الأطراف جغرافيًا، عبر تحييد الحسكة، دير الزور، درعا، وغيرها من مناطق الهوامش. لم تكن هذه المناطق جزءًا من مشروع وطني موحِّد، بل مجرد مساحات هامشية تُدار أمنيًا وتُقصى اقتصاديًا، في مقابل تركّز السلطة والموارد في دمشق والساحل.
• اقتصاديًا: رغم الموقع السوري الحيوي الرابط بين آسيا وأوروبا والخليج، تم تفريغ هذه القيمة الجغرافية من محتواها. فبدلًا من بناء ممرات تجارية أو بنى تحتية إقليمية، جرى تحويل البلاد إلى سوق مغلقة، تعتمد على الدعم الخارجي، وتتجاهل إمكانياتها الذاتية.
• سياسيًا: تحوّلت الجغرافيا السورية إلى ورقة تفاوض في ملفات الخارج:
• لبنان: مُدار كمزرعة أمنية، ومجال حيوي لتصدير النفوذ الاستخباراتي.
• العراق: منفذ للتهريب والعبور السياسي، وخاصة خلال مرحلة الاحتلال الأميركي.
• العلاقة مع إيران: لم تُبنَ على مصالح متبادلة، بل على تحالف وظيفي تحت عنوان “المقاومة”، يُبقي دمشق بوابة لمشروع طهران الإقليمي.
لقد استُخدمت الجغرافيا كوسيلة ضغط بيد النظام، دون أن تُحوَّل يومًا إلى رافعة لبناء دولة متوازنة أو اقتصاد منتج.
ثانيًا: الثورة والانفجار الجغرافي (2011 – 2024)
مع اندلاع الثورة، لم تنقسم سوريا سياسيًا فقط، بل جغرافيًا أيضًا. إذ بدأ تفكك الدولة يتجلى ميدانيًا، في تآكل الحدود الداخلية، وتعدد السلطات، وتشظي الخريطة إلى مناطق نفوذ متنازعة.
1. تركيا: فاعل اضطراري، لا مشروع توسعي
دخلت تركيا شمالي سوريا كفاعل إجباري لا طموحي:
• تمتد الحدود المشتركة لنحو 900 كلم، وهي الأطول في الشرق الأوسط.
• تصاعدت التهديدات الأمنية من وحدات حماية الشعب الكردية المدعومة من الغرب.
• تدفق نحو 3.5 ملايين لاجئ سوري، مع مخاوف ديموغرافية وسياسية.
• فراغ أمني قرب الحدود الجنوبية لأنقرة، كان لا بد من ضبطه.
تدخّل تركيا لم يكن مشروعًا إمبراطوريًا لإعادة إحياء العثمانية، بل محاولة لحماية الأمن القومي، واحتواء الفوضى، ودعم ممر آمن في شمال سوريا.
2. إيران: أخطر المشاريع – هندسة جغرافيا طائفية
أخطر ما جرى في الجغرافيا السورية خلال الحرب هو التدخل الإيراني، الذي لم يكتفِ بالدعم العسكري والسياسي، بل حاول إعادة صياغة الجغرافيا نفسها:
• ممر بري عقائدي يمتد من طهران إلى الضاحية الجنوبية.
• تغيير ديموغرافي قسري في القصير، الغوطة، الزبداني، والضواحي.
• إنشاء ميليشيات محلية مرتبطة بالحرس الثوري.
• فرض مفهوم “عقيدة الخندق”، حيث تصبح سوريا مجرد خندق متقدم للدفاع عن المشروع الإيراني في وجه الغرب وإسرائيل، لا دولة ذات هوية وطنية جامعة.
تحوّلت الجغرافيا إلى أدوات طائفية، تفصل سوريا عن عمقها العربي، وتُجهِز على إمكان قيام مشروع وطني مستقل.
3. القوى الدولية: خطوط النار ورقعة الشطرنج
• روسيا: رسّخت نفوذها في الساحل، وتحكمت في الأجواء السورية، وحوّلت قاعدتي حميميم وطرطوس إلى نقاط ارتكاز دائمة في البحر المتوسط.
• الولايات المتحدة: تركّز وجودها في الشرق السوري، حيث النفط والمعابر الحدودية مع العراق، وأدارت علاقة مع قسد بمعزل عن السياق الوطني السوري.
• إسرائيل: مارست سياسات “الردع الذكي”، عبر ضربات دقيقة ومدروسة تستند إلى قراءة دقيقة للجغرافيا السورية – الإيرانية.
كل طرف خارجي أعاد تشكيل جزء من الجغرافيا وفق مصالحه، بينما بقي الشعب السوري رهينة، لا فاعلًا.
ثالثًا: سوريا الجديدة – جغرافيا الفرصة بعد سقوط الأسد (2024 – المستقبل)
سقوط النظام عام 2024 كان لحظة تحول مفصلي، ليس فقط في بنية السلطة، بل في علاقة السوريين بجغرافيتهم.
لأول مرة منذ عقود، يعود سؤال: “لمن تنتمي هذه الأرض؟” إلى طاولة البحث، لا من منظور ملكية السلطة، بل من منظور بناء الدولة.
1. منظومة حكم وطنية لإعادة توحيد الأرض
• تبني نظام سياسي يعيد توزيع السلطة على أساس إداري لا طائفي.
• تمثيل المناطق المهمشة بشكل عادل في مؤسسات الدولة.
• إزالة آثار التهجير والتغيير الديموغرافي الذي فرضه الاحتلال الإيراني.
2. استعادة العمق العربي كجدار توازن
• إعادة التموضع ضمن فضاء عربي طبيعي.
• علاقات اقتصادية متينة مع الخليج والعراق والأردن.
• سياسة خارجية مرنة، عقلانية، لا تنتمي إلى المحاور، بل إلى المصالح.
3. إعادة تشغيل الجغرافيا كأصل إنتاج
• تطوير موانئ طرطوس واللاذقية لتكون مراكز لوجستية إقليمية.
• إنشاء مناطق تجارة حرة على المعابر مع العراق وتركيا والأردن.
• ربط سككي وبري مع الخليج والعراق.
• استثمار البادية السورية كممر للطاقة والربط الإقليمي، لا كفراغ أمني.
4. إنهاء المشروع الإيراني وتفكيك امتداداته
• تفكيك الميليشيات.
• إنهاء التسلح خارج الدولة.
• إعادة المهجرين إلى مناطقهم الأصلية.
• استعادة السيادة على المعابر والحدود.
خاتمة: من يملك الجغرافيا… يملك القرار
الجغرافيا ليست قدَرًا ثابتًا، بل أداة بيد من يُحسن استخدامها. لقد كانت الجغرافيا السورية لعنة لأن النظام حوّلها إلى أداة قمع، ولأن القوى الخارجية استغلت غياب القرار الوطني.
لكن اليوم، في يد السوريين، يمكن للجغرافيا أن تتحول إلى أعظم أداة لبناء مشروع وطني، سيادي، عادل، متصالح مع محيطه.
والمطلوب:
• مشروع سياسي سيادي.
• نخبة وطنية تفهم الجغرافيا كعامل قوة لا كخطر.
• استقلال في القرار.
• عقل استراتيجي لا يرى في الأرض عبئًا، بل فرصة.
سوريا الجديدة ليست حلمًا. إنها مشروع ينتظر من يملك الخريطة… والعقل.