الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سوريا.. قَدراً عربياً

سوريا.. قَدراً عربياً

07.09.2015
د. وائل مرزا



المدينة
الاحد 6/9/2015
منذ عقود، كانت عبارة "المصير العربي المُشترك" شعاراً يُرفع في المؤتمرات ويتردد على ألسنة الساسة والزعماء.. مع مرور الأيام، ثبتَ للجميع أن الممارسة كانت للاستهلاك الإعلامي والسياسي الشعبوي أكثرَ من كونها تُعبر عن واقع، أو حتى عن تطلعٍ حقيقي لمستقبلٍ تتأكدُ فيه معاني ذلك الشعار.
قد يرى بعض (المتفائلين) أن المقصود بالعبارة يكمن في تفعيل عمليات التعاون والتكامل بين البلاد العربية، على طريق تطويرها جميعاً في مختلف المجالات. وقد يؤكدون على ضرورة الأمر بالإشارة إلى المُشتركات الموجودة فعلياً من اللغة إلى الدين، ومن الثقافة إلى التاريخ.. هذا فضلاً عن مُقتضيات (المنفعة) التي تقود مختلف بلاد العالم إلى التعاون وصولاً لتحقيق مصالحها.
وقد يرى بعض (المتشائمين) أن هذه المقولة لم تكن سابقاً، ولن تكون اليوم إلا سبباً للفشل.. وأنها مجردُ مدخل لفوضى الأولويات بالنسبة لكثيرٍ من الدول العربية. وأن بعض هذه الدول كان يمكن لها التركيز على شأنها الداخلي، وتوظيف ثرواتها وطاقاتها واهتماماتها لتطويره، بدلاً من تشتيتها في قضايا خارجية لا تؤثر عملياً في حاضر البلد المعني ومستقبله.
المفارقة أن مسيرة الواقع العربي لم يكن لها علاقةٌ بمقولة الفريقين كِليهما. فلا التعاون الحقيقي الفعال الذي يؤدي لمصلحة الجميع حَصَل. ولا الانعزالُ العملي (الوطني) الذي ربما يؤدي لتحقيق مصلحة بلدٍ بعينه كان ممكناً.
ثمة حسابات وأسباب سياسية وثقافية واقتصادية، محلية وإقليمية ودولية، لعبت دوراً في الوصول لتلك النتيجة. بالتالي، استمرت الحياة على هذا المنوال، بالطريقة العربية التي تقبلُ الواقع، أياً كانت سلبيته، وتتفننُ في التعايش معه. استمر هذا الحال حتى وصلنا إلى واقع المنطقة اليوم. وتحديداً، ما يتعلق منه بدرجة وكيفية تأثير الوضع السوري في مصير العرب اليوم وغداً وبعد غد.
فبنظرةٍ واقعية، بعيدةٍ عن الأوهام والتمنيات والتفكير الرغائبي، يبدو مستحيلاً أن (يستقيل) العرب من القضية السورية. وتؤدي كل المقدمات إلى نتيجةٍ مفادها أن هذه القضية عادت لتَفرض فرضاً مقولة (المصير العربي المُشترك)، وإن في حدﱢها الأدنى، ولو للدول العربية الأكثر تأثراً بالمسألة.
ثمة اليوم من يدرك، من العرب، هذه الحقيقة، ويعمل بمقتضاها، ليس فقط لمصلحة سوريا وشعبها، وإنما لإدراكه باستحالة تحقيق المصلحة الوطنية، أصلاً، في معزلٍ عن التعامل مع الوضع السوري بكل حيثياته.
لكن هناك (فخاً) في الموضوع يجب أن ينتبه إليه البعض الآخر. فقد لا يستقيل هؤلاء من القضية السورية، بمعنى استمرارهم في لعب دورٍ يتعلق بمجرياتها، ولكن معتقدين أن تحقيق مصالحهم يكمن في تناسي كل تضحيات الشعب السوري، والاستجابة، مع التطورات الإقليمية والدولية، للمناورات ذات العنوان الروسي والإيراني، للالتفاف على كل ما جرى خلال السنوات الأربع الماضية، والمشاركة في إعادة تأهيل الأسد ونظامه.
هذا انتحارٌ سياسيٌ وعمليٌ بكل معنى الكلمة، ومحاولةٌ بائسة لإعادة التاريخ إلى الوراء بشكلٍ يُعاند كل قوانينه.. وهو (فخٌ) يُنصبُ لبعض العرب في لَبوس الواقعية والبراجماتية والحكمة السياسية.
تتأكد المشكلة في ظل (الوهم) بأن (إعادة التأهيل) تحصل بموافقة أمريكية، بمعنى الاعتقاد بأن هذا "أمرٌ قد توَجَّه"، وأن كل قرارٍ مختلف هو سباحةٌ ضد التيار. في حين أن كل ما تفعله أمريكا اليوم يُختصر في قرارٍ بألا (تلوث يديها) في الموضوع حالياً.
فهي تُدرك أن بشار الأسد انتهى عملياً، وأن سوريا تحت حُكمه لن تعود يوماً، لكنها تترك الروس، ومن يَرغب، ليلعبوا بالموضوع، ويُشبِعوا، إعلامياً، أوهامَهم باستمرارهم كقوةٍ عظمى، في انتظار تهيئة الظروف لطبخةٍ أخرى.
أستعيرُ هنا تحليلاً مُعبراً لدور روسيا طرحه الزميل محمد برهومة في مقالٍ له منذ أيام في الزميلة (الحياة) قال فيه: "ثمة انشغال إعلامي وسياسي بطبيعة الدور الروسي في منطقتنا وحدوده وآفاقه وغاياته، ويكاد يصيب البعض منّا الوهم والمبالغة وهو يقرأ هذا الدور بقوله إن الروس يسحبون البساط من تحت أرجل واشنطن في المنطقة ويملأون الفراغ الذي تتركه، ليغدو - وفق هذه القراءة الواهمة - بوتين كأنه يسدد اللكمات لأوباما، وليظهر لافروف بموقع القوي الداهية في مقابل ضعف كيري وتردده وارتباكه الدبلوماسي! روسيا نفسها تدرك حدود قوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية أمام الولايات المتحدة، وهذه المحدودية لا تُسعف موسكو بأن تحل بدلاً من واشنطن في التأثير في ملفات المنطقة المختلفة والانخراط فيها.. استدعاء مبدأ أوباما (القيادة من الخلف) مفيدٌ في هذا السياق".
انتهى النقل من الزميل، والظاهرُ أن دولاً وحكومات يجب أن تفكر في دلالاته أكثر من القراء العاديين، لأن مواقفها بناءً على استقراء هذه الظاهرة ستؤثر على مصيرها ومصير المنطقة.
عطفاً على ذلك، يعلم الأمريكان أن بقاء الأسد أخطرُ على المنطقة حتى من وصول (داعش) لِحُكم سوريا. فبقاؤهُ يمثل الوصفة المثالية لفوَضى ستبدو معها الوقائع الحالية مثل لعب الأطفال.. في حين أن وصول (داعش) لحُكم سوريا سيجمع الدنيا ضدها بشكلٍ يُنهيها بأسرع وقت، حيث ينقلبُ نموذجُها في المناورة من حرب العصابات إلى حرب دول، وهذا ما لا طاقة لها به.
بعد إدراك تلك الحقيقة، لا مهربَ من التفكير بمعطيات الجغرافيا السياسية والثقافة والاجتماع في المنطقة، فمن تَداخُل طرق التفكير إلى التداخل الكثيف للمجتمعات العربية، إن بصورتها التقليدية القبلية والعشائرية، أو بصورها المعاصرة في المجتمعات الخليجية مثلاً، تُظهر كل المؤشرات استحالة حصر الفوضى المذكورة في سوريا، والساحة الطبيعية لانتشارها هي العالم العربي، وخاصةً منه الأقرب لسوريا.
لا تنفع في مثل هذه القضايا، بكل شفافيةٍ وصراحة، لا الحدود ولا الأسوار، ولا الموانع الدبلوماسية المتعلقة بالتأشيرات والفيز وأذون الدخول والإقامة، ولا الملاحقة الأمنية والقوانين الصارمة.. فتحتَ الضغوط العملية والنفسية الهائلة، من هَوس الأيديولوجيا إلى الجوع القاتل، مروراً بغسيل الأدمغة ومشاعر (التعاطف) بين الناس، وصولاً إلى ظاهرة (الهيجان الجماعي) التي جرﱠبتها الشعوب والأمم كثيراً في مثل الأحوال الاستثنائية التي يعيشها العرب اليوم، تفقدُ كل تلك التدابير فعاليتها، وتُصبح الفوضى مثل سيلٍ عارمٍ من الماء: تسونامي، إن لم يهدم الحواجز فإنه لا يعدم وسيلةً يتسربُ فيها من الشقوق.
قد يرفضُ البعض صدور هذه الرؤية عن غيرةٍ على الأشقاء العرب، وعن خوفٍ حقيقي عليهم وعلى بلادهم وشعوبهم من مصيرٍ رأيناهُ في سوريا. ليكن، ولتُعتبر الرؤية، في أقل الأحوال، صادرةً عن بحثٍ في المصالح المشتركة، وهذا مشروعٌ ومطلوب. يبقى السؤال قائماً في الحالتين: قد تكون لدى أمريكا والغرب مساحةٌ (ترف) مراقبة الفوضى سنوات لحين الوصول إلى حلٍ يحقق مصالحهما، فهل يملك العرب هذا الترف؟