الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سوريا والمرحلة الانتقالية من الفرس إلى العرب

سوريا والمرحلة الانتقالية من الفرس إلى العرب

11.04.2016
حامد الكيلاني


 العرب
الاحد 10/4/2016
بداية ديسمبر 1976 انفجرت في صالة استقبال القادمين بمطار بغداد الدولي حقيبة سفر أودت بحياة 6 أشخاص وجرح أعداد أكبر، معظمهم من المصريين العاملين في العراق والعائدين من موسم الحج. أثبتت التحقيقات المباشرة ضلوع النظام السوري بالجريمة، كانت الطائرة قد هبطت في مطار دمشق وأكملت رحلتها إلى بغداد، وأثناء التوقف تم شحن المتفجرات ودسها في حقيبة أحد المسافرين.
ذات يوم التفجير، كنت على سفر إلى براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا حينها، وصلت إلى المطار وسط حالة أمنية مشددة وتغيير مسارات الحركة نتيجة فوضى الانفجار، بعد انتظار طويل غادرت طائرة الخطوط الجوية التشيكوسلوفاكية بغداد، لكن كابتن الطائرة أخبرنا بأن مسار الرحلة تغير قليلا وسنهبط أولا في دمشق ثم نواصل رحلتنا إلى براغ.
مع دهشة المسافرين وخاصة منهم العراقيين وكنا لا نتجاوز الثلاثة ركاب، هبطت الطائرة في مطار دمشق ثم رصفت في آخر المطار وبمكان معزول، بقينا في صمت وحيرة لمدة أكثر من ساعة، بعدها وصلت سيارات محملة بأعداد كبيرة من المسافرين غصت بهم الطائرة لدرجة أن بعضهم جلس في الممر المخصص للحركة.
حدث صخب وامتعاض وعادت المضيفات وكابتن الطائرة إلى تهدئة الركاب وإبلاغنا نحن القادمين من بغداد بأننا في أمن وأن ما حصل هو عمل مفاجئ لتخفيف الضغط على مطار دمشق بسبب إغلاق مطار بيروت نتيجة لأحداث الحرب الأهلية اللبنانية، وهروب البعثات الدبلوماسية والجاليات منها وأيضا لقرب أعياد رأس السنة الميلادية.
جلس بقربي إثنان من المسافرين، وطبعا جميعهم من الجنسية التشيكوسلوفاكية، وما إن حلقت الطائرة حتى سألاني: من أين كانت الطائرة قادمة؟ قلت لهما من بغداد. وأنت؟ أنا أيضا من أهل بغداد، عرفني بنفسه، سكرتير ثان في سفارة بلاده ببيروت، والآخر كان مرحا معي تبين أنه القنصل.
سألني القنصل: كيف أتيتم، سمعنا أن انفجارا حصل في مطار بغداد؟ طمأنته بأن حركة المطار طبيعية في ما يخص الرحلات، لكن هناك أضرارا وقتلى وجرحى واحترازات طبيعية في الأمن.
طلب مني توضيحات عن أخبار الحادث، فقلت له إن الأخبار تشير إلى اتهام النظام السوري بالتخطيط للعملية، فاجأني عندما قال لي “أنا أحب العرب عموما، لكنكم وأقصد الحكام خونة ويتعاملون ضد بعضهم لخدمة مصالح إسرائيل، وأستثني منهم فقط الرئيس السوري ونظامه، لذلك جميعكم تناصبونه العداء لأنه العربي الوحيد الذي يقف بقوة في وجه عدو العرب”.
احترت في رأيه وكان صادما، أجبته “لكن الانفجار في مطار بغداد”. قال “نعم أنت شاب وستكتشف بعد سنوات طويلة أن كل ما يتعرض له الرئيس السوري ونظامه هو بسبب عروبته وإخلاصه في الدفاع عنها”، واستطرد في سرد محاسنه ووقوفه بوجه الأطماع الإسرائيلية، وتضحياته من أجل حماية وحدة لبنان. بعدها أكملنا رحلتنا بابتسامة على وجهي لهذا القنصل الأوروبي المتأثر كغيره بإعلام المقاومة والممانعة الذي استمرت فصوله المتجددة الساخرة إلى الآن.
بعد سنوات طويلة واحتلال أميركا للعراق، رحلت مع جزء كبير من أهل العراق إلى سوريا، وفي العام 2008 دعاني صديق سوري لضيافته، بحضور شخصية عزيزة عليه، تبين أنها من المقربين للنظام، من أول بداية لقائنا مع مجموعة أشخاص آخرين كانوا يثنون على حديثه وهو يمدح الرئيس الأب أو الابن لعروبتهما ونصرتهما لتحرير فلسطين والوقوف سدا منيعا في مواجهة الكيان الصهيوني، ودعمهما اللامحدود للمقاومة، وبعد “ثرثرة فوق بردى” سألني “من أين أنت”؟ أجبته “من بغداد”، ومع كلمة بغداد عاد لتعداد حكمة الرئيس الأب ومحاولته إنقاذ العراق ووقوفه المشرف مع شقيقه العربي أثناء أزمة الكويت، أجبته للمجاملة بكلمات معدودة “نحن أخوة، العراقيون والسوريون أخوة، وتجربتنا في حرب 1973 وحماية دمشق من الصهاينة أكدتها دماؤنا العربية المشتركة”.
وقع هذا الجواب كان كالصاعقة عليه وعلى مرافقه لدرجة أنني لم أكن أدري ما الذي حدث، سمعت لغطاً وأعصاباً منفلتة تخيلتها لأول مرة بسبب خبر مزعج في اتصال هاتفي تلقاه أحدهم، لكن الجواب لم يتأخر عندما بادرني أحدهم “كيف تقول إن العراقيين دفعوا دمهم لإنقاذ دمشق”، واحترت جوابا كحيرتي أمام صدمة القنصل الأوروبي وطلبت منهم بهدوء أن يشرحوا لي، فقال كبيرهم “إن الجيش العراقي كان يقتل السوريين ويُمَكِن اليهود من احتلال دمشق لولا عناية وحكمة الرئيس “الأب” في دحض عمالة الجيش العراقي”.
كانت صدمة فعلا، على إثرها سحبني شاب في الثلاثين من عمره وقال لي “ممكن إنشم هوا في الطلة” وأبدى أسفه لما حصل وحدثني عن أبيه العسكري المتقاعد برتبته الكبيرة والوفاء الذي يحمله للجيش العراقي الذي زحفت دباباته من بغداد إلى الشام للدفاع عنها، وطلب مني تجاوز ما سمعت، لأنها أكاذيب محلية الاستخدام وإعلام طويل ساذج أمثلته متوفرة كما ترى.
استحضرت هذين المثالين ونحن نتجاوز من 1973 إلى 2016 أي ثلاثة وأربعين عاما على آخر إطلاقة من النظام السوري باتجاه إسرائيل، نظام المقاومة والممانعة وشاغل الدنيا بالعروبة، الذي دكت صواريخه السكود مدينة بغداد في حرب الثمانينات مع إيران الفارسية، للتاريخ شجون طويلة، انتهت في سوريا بسلمية ثورة الشعب السوري، ثم محاولة شيطنة الثورة وتعميم الفوضى بإدخالها إلى نفق الإرهاب وتبادل الانتقام وتقاسم النفوذ الإقليمي والدولي.
13 أبريل جولة جديدة لاستئناف محادثات جنيف 3، والحديث عن مفاوضات مباشرة بين وفد المعارضة ووفد الحاكم السوري، وما تتوقف عنده مفردة “المباشرة” فهي في الحقيقة تعني مفاوضات بين المعارضة ووفدي روسيا وإيران، أما وفد النظام فهو واجهة قديمة لا يمكن أن تنطبق عليها مواصفات المستقبل أو حتى الحديث عن المستقبل القريب الذي تمثله المرحلة الانتقالية التي تستعجلها روسيا قبل انتهاء الشهور المتبقية لباراك أوباما في البيت الأبيض لفرض نتائج أمرها الواقع على الإدارة الجديدة.
الأمر الواقع، هو الشعب السوري وما دفعه من ثمن باهظ لإعادة سوريا إلى السوريين، في انتظار لقاء دمشق وبغداد بعد عبور مرحلتهم الانتقالية وخلاصهم من نفق المشروع الفارسي، لبناء غدهم وإنسانيتهم مع أمتهم، أمة العرب.