الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سوريا ومأساة الاستعمار الجديد

سوريا ومأساة الاستعمار الجديد

21.09.2016
د. طيب تيزيني


الاتحاد
الثلاثاء 20/9/2016
ثمة حالة ربما ليست فريدة في تاريخ سوريا، ولكنها تمثل الآن الدرجة الأكثر وحشية وإشكالية في هذا التاريخ، وخاصة في ظل وحشيتها وإشكاليتها وصعوبة فك الارتباط بين الفاعلين فيها على تنوع اتجاهاتهم السياسية والأيديولوجية والأخلاقية، هذا أيضاً دون إغفال هويات ومواقع ما يعتبر أطرافاً أخرى تقدم نفسها بمثابتها محايدة، مثل المنظمات الدولية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة وما يرتبط بها من منظمات ومؤسسات محلية وعالمية، وخصوصاً منها تلك التي تقدم نفسها باعتبارها هياكل تعنى بحقوق الإنسان وبالدول المستقلة وذات السيادة الوطنية.
لقد نقلنا في مقالة سابقة ما قدمه الفيلسوف الألماني كانط وعالم الاجتماع العربي ابن خلدون، من آراء حول أولئك الذين يتدخلون في شؤون دول ومجموعات بشرية أخرى، فلاحظنا أن فكرة "التدخل" تتضاءل إلى فكرة "الزيارة أو الاستضافة" لدى دولة ما، مع احترام كامل للنظام القائم في البلد المعني. أما فكرة التدخل العسكري وما يلحقها على الأصعدة المتعددة، فهي حالة من العداء والتصرف اللاقانوني إزاء البلد المتدخل فيه، وتصل إلى مستوى "الحرابة والتدخل القسري"، وقد تطور ذلك إلى صيغة "الحروب الاستعمارية" الرامية إلى احتلال هذا البلد أو ذاك.
إن ذلك كله وضع بعض الدول المستقلة في حالة شائكة ومتحركة، وخصوصاً في المرحلة الراهنة المعيشة، فها هنا تجد القرار في أيدي الآخر، ويصبح الصراع مفتوحاً في أيدي هذا الأخير، فيحتار الباحث والمحلل في أي اتجاه يقود بحثه، فالحالة التي نعيشها نحن الآن هي نمط من الصراع بين "الكبار" على رقعة الصِّغار، وهذا نموذج أصبح ذا مشروعية في إطار "العولمة" وصُنّاعها الذين يعتبرون العالم سوقاً تمحى فيها الهويات والخصوصيات، لتستبدل بمنظومات سلعية مالية، ما يحدث انقلاباً في المجتمع، وقد يصل الأمر إلى تعريض ما يعتبر ثوابت تاريخية، إلى كونها حالات قابلة للتغيير والتبديل، مثل الهويات الوطنية والإنسانية، فالوطن يتحول إلى طائفة، والإنسان يعود إلى مرحلة "التوحش".
لقد تعاظم الأمر، بحيث أصبح هذان الطرفان الدوليان الكبيران هما المخولان بالتحدث في سوريا وعنها، وازدادت هذه الحالة على نحو تعاظم الخلاف والصراع فيه على سوريا، بحيث ظهر إلى العلن، وراحت المسألة السورية تختزل شيئاً فشيئاً إلى المهاترات بين الأميركي والروسي، وذلك على نحو غابت فيه المنظمات الدولية، وخصوصاً منها الأمم المتحدة، ناهيك عن غياب الطرف السوري نفسه، صاحب العلاقة، كما يفترض، وهذه حالة تدعو إلى الأسى وإلى الشعور بالاستفراد، وكأنها حالة تشي بعلاقة تبعية بين سيد ومسود، كما ظهرت في كتابات عدد من "المستشرقين"، الذين تحدثوا عن ثنائيات "الإبداع والتقليد"، و"السادة والأتباع". وقاد أحدهم ذلك إلى حالة كونية شاملة، حين تحدث عن "الشرق والغرب، اللذين لا يلتقيان"! وإذا كان "كيبلنج"، صاحب هذه الثنائية، قد أوصل المسألة إلى حدودها القصوى بين ذينك الفريقين، فقد أراد أن يحسم المسألة بالقطع بين الشرق والغرب، أو بين الغرب وبين كل العالم. وهكذا يقودنا هذا الخطاب الاستشراقي إلى تسويغ لما يحدث على صعيد الأميركيين والروس من طرف، والغربيين والشرقيين من طرف آخر.
إن ذلك الخطاب الاستشراقي الغربي يفضي بنا، على الصعيد السياسي، إلى الانصياع لما يتردد في بعض الوسائل الإعلامية العامة، وخصوصاً السورية والعربية، حين تتحدث عن المأساة السورية. ويبدو الأمر كأنما هو قائم على العلاقة بين الطرفين الغربيين، وكلاهما استعماري النزعة والسلوك. أما مادة التحدث والحوار بين الفريقين الغربيين، فأمر يخرج من يد أصحاب هذه المادة.
وكما يلاحظ، فإن الحوار بين الفريقين المذكورين لم ينجز سوى الاضطراب والتعقيد، وذلك على نحو يتفقد فيه المعنيُّ بموضوع ذلك الحوار، الوضوح أولاً، والمصداقية، السياسية والأخلاقية ثانياً! وماذا يمكن ذلك أن يعني في مرحلة تبدو برأي البعض وكأنها تبشر بما قد يفضي إلى انتداب أو هيمنة استعمارية، يصر عليها الفريقان المتحاوران؟ إنه قد يعني العودة إلى ما يريده البعض متمثلاً أو قريباً من مشروع سايكس- بيكو الشهير، ذلك المشروع الذي كان يلح على تقسيم سوريا الأم أرضاً وشعباً.
لقد تكلمنا عما أصبح عصياً على الآخرين. إلا أن اتفاقات الفريقين المتحاورين حول الهدنة في سوريا وما يساورها من الأوهام، تدعو أبناء الشعب السوري، بكل أطيافه وتجلياته الطائفية والعرقية والإثنية والعرقية وغيرها، لأن يكونوا حقاً أوفياء لأجدادهم، أمثال يوسف العظمة، وصالح العلي، وسلطان باشا الأطرش، وغيرهم كثير من أمثال خيرو الشهلي وفارس الخوري، ومن ثم أوفياء للوطن الكبير، سوريا العربية الأم، فالمرحلة معقدة أشد التعقيد، فعليهم أن يرتفعوا إلى مستوى الحدث الجلل، وأن ينتجوا وطناً حراً ديموقراطياً، وشعباً سعيداً، وهكذا، تواجه الأمور بتحدياتها الكبرى.