الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سوريا ومسألة الهوية: البحث عن فكرٍمختلف

سوريا ومسألة الهوية: البحث عن فكرٍمختلف

07.07.2013
د. وائل مرزا

المدينة
السبت 7/7/2013
تساءلنا منذ أكثر من عام: هل يُعقل أن يكون الصراع على الهوية الحضارية لسوريا المستقبل عاملاً رئيساً في تأخير الحسم بالنسبة للثورة السورية؟
جَزَمنا يومها أن الجواب هو نعم.
ومنذ ذلك اليوم، يُثبتُ كل حدثٍ وموقف أهمية التفكير جدياً بهذه القضية.لايقتصر هذا على الداخل السوري، وإنما ينسجم أيضاً مع كل مايجري في المنطقة من أحداث، وخاصةً في مصر.
فمن ناحية، كان هناك إجماعٌ منذ بداية الثورة على الطبيعة الإسلامية (المُحافظة) للمجتمع السوري، وعلى أن تطبُّع الثورة بهذا الطابع ليس غريباً. وثمة إقرارٌ اليوم بأن رؤيةً إسلاميةً ما للإنسان والحياة والكون ستُضحي مكوناً رئيساً من مكونات الهوية الجديدة لسوريا المستقبل.
ومن ناحية أخرى، ثمة هاجسٌ يبلغ أحياناً درجة الهوس يتعلق بالإسلام ودوره في تشكيل تلك الهوية لدى كل القوى التي لا تُسمي نفسها إسلامية.
من الضرورة بمكان أن نتفهّم الهاجس المذكور، وأن نتعاون على صياغة ذلك الدور بتوازنٍ يُنجينا من أي تطرفٍ قادم، لكنه في الوقت نفسه يتجاوز أخطاء الماضي القاتلة، والتي وقعت فيها أغلب النخب السياسية السورية خلال العقود الماضية.
ثمة مشكلاتٌ ثقافية وسياسية تاريخية وصلت بنا إلى هذه النقطة، وقد تحدثنا عنها في كثيرٍ من المقالات السابقة، ربما يمكن اختصارها في فقرتين.
فعلى مستوى الرؤية والطروحات النظرية وعلـى مستوى البرامج والممارسات،لم يستطع المتحدثون التقليديون باسم الإسلام إظهار جوانب كمونه الحضاري الكبير من جهة، ولم يستطع رافعو لواء الحداثة إظهار مصداقيتهم في إيجاد حدٍّ أدنى معقول من مقتضيات الحداثة العملية على أرض الواقع من جهة أخرى.
الأسوأ من هذا، انحصرت نظرة الشريحة الأولى إلى الشريحة الثانية في مدخل تصنيفهم على أنهم دعاة تغريب يقودون البلاد والعباد للحياة في حضن (الآخر)، بينما انحصرت نظرة الشريحة الثانية إلى الأولى في مدخل تصنيفهم على أنهم دعاةُ رجعيةٍ يأخذون البلاد والعباد للحياة في (الماضي).
المفارقة أن واقعنا الحالي لايسمح بتبرير ماجرى من الطرفين عبر لوم السلطة السياسية. ببساطة، لأن التحليل المذكور أعلاه ينطبق بدرجةٍ كبيرة على ممارسات الغالبية العظمى من العاملين في المعارضة التي يُفترض بها أن تكون القيادة السياسية للثورة السورية.
إن شيوع هذه الظاهرة في سوريا ومصر وغيرها، يُبين حقيقة المشكلة الأصليّة لإنسان المنطقة، وأنها في نهاية المطاف مشكلة طريقته في التفكير، قبل أن تكون مشكلة انتمائه الأيديولوجي المعيّن.
بمعنى آخر، تكمنُ المشكلة في منهجٍ معين في فهم الحياة والسياسة ومداخل بناء الدول وصيانة الأوطان، وفي إدراك كيفية التعامل مع هذه القضايا الحساسة.حين يحصل هذا من خلال الشعارات والمشاعر المنبثقة إما من الانتماءات الأيديولوجية البحتة، وغالباً بتطبيقٍ مشوهٍ لها، أو من خلال ضغوط الواقع ومتغيراته. وبالتالي فإن من الممكن لهذه المشكلة أن توجد عند كثيرٍ ممن يسمون أنفسهم إسلاميين، بنفس القدر الذي يمكن أن توجد فيه عند كثيرٍ ممن يسمون أنفسهم ليبراليين أو قوميين أو حداثيين أو ما إلى ذلك من التصنيفات الشائعة.
بناءً على هذا، نُؤكدُ مابات واضحاً: هناك صراعٌ حقيقي يجري في أوساط العاملين للثورة السورية، من السياسيين على وجه التحديد، فيما يتعلق بالهوية الحضارية لسوريا القادمة.
ثمة مفارقةٌ حساسةٌ يجب الانتباه إليها في هذا المجال. ففي خضم الغرق المحموم في الممارسات السياسية المتعلقة بقيادة المعارضة السياسية، تتغير خرائط التحالفات بشكل غير مسبوق بين المنتمين لتياراتٍ أيديولوجية وسياسية مختلفة، وقد يوحي هذا زيفاً وبُهتاناً بعدم وجود الصراع المذكور أعلاه.
لكن من يعرف حقيقة الوضع يُدرك تماماً أن كل طرفٍ يعمل كل ما في وسعه لخلق واقعٍ يتناسب مع هاجسه، بكل الوسائل السياسية والإعلامية والدبلوماسية الممكنة، بل وبمحاولة خلق وقائع على الأرض تخدم رؤيته في المستقبل.
وفي نهاية المطاف يبقى هذا الصراع، وسيبقى، سبباً أساسياً من أسباب تأخير الحسم فيما يتعلق بالثورة السورية.
وكما ذكرنا سابقاً، لا مفرّ من إعادة الاعتبار إلى دور الإسلام في صياغة هوية سوريا القادمة، ولا مهرب من وجود طرحٍ جديدٍ لذلك الدور يختلف عن الطرح التقليدي السائد، ولا مخرج من المأزق دون اعتراف جميع الأطراف بالدور المذكور. وفي معزلٍ عن هذا، سيصبح الساسة تدريجياً جزءاً من المشكلة بدل أن يكونوا جزءاً من الحلّ المنشود.
من الضرورة بمكان بناء سوريا تتسع لكل أبنائها وتستوعب جوهر هويتها وثقافتها التاريخية، بينما تعيش في الحاضر وتتطلع للمستقبل. لكن هذا لن يحدث إلا بوجود أجيالٍ جديدة تتجاوز نظرة التضارب الكامل وتُركّز على الحجم الكبير لما هو (مُشترَك) بين الإسلام والليبرالية، بقراءةٍ موضوعية شاملة بعيداً عن عمليات القص واللصق التي جرت وتجري حتى الآن.
ثمة حاجةٌ لثورةٍ أخرى في هذا المجال تهدف إلى تجاوز مرحلة الطفولة الأيديولوجية التي تنظر إلى العالم من خلال أحادية الانتماء إلى الدوائر الضيقة المُحيطة بالإنسان، والعبور إلى مرحلةٍ أخرى ينفتح فيها العقل والقلب على ذلك العالم ليرى ما فيه من فُسحةٍ هائلة للتنوّع والتعددية والاختلاف الإيجابي.
لكن من الصعوبة بمكان أن تحصل هذه الثورة على يد التقليديين وبطريقتهم في العمل والتفكير.
بل ربما يمكن القول أن الثورة السورية لن تنتصر إلا بوجود الثورة التي نتحدث عنها. وهذه الأخيرة لن تحصل إلا بسواعد قوى جديدة تتجاوز طرق التفكير والعمل التاريخية والأيديولوجية، تؤمن بقيم الكفاءة والفعالية والتخطيط والإدارة، وتمتلك صفات الديناميكية والحيوية والإبداع والحركة بلغة العصر وأدواته، وتجتمع على المُشترك الوطني، وتفرض تدريجياً حضورها في كثيرٍ من مفاصل الواقع السوري بجميع تجلياته الثورية والسياسية والاقتصادية.