الرئيسة \  مشاركات  \  سورية ، قرن الحصاد المرّ ( 1914 ــ 2014 )

سورية ، قرن الحصاد المرّ ( 1914 ــ 2014 )

09.08.2014
د. أحمد محمد كنعان


إعداد :  د.أحمد محمد كنعان
البدايات :
لقد كان القرن العشرون ــ الذي كنا بعض مودِّعيه ــ نقطة تحول حاسمة في التاريخ البشري(1) ، فإن ما شهده هذا القرن من إنجازات وكشوف علمية كان شيئاً يفوق الخيال ، وقد تزامنت هذه الإنجازات العلمية العظيمة مع تحولات أخرى حاسمة ومثيرة جرت على الساحتين الاجتماعية والسياسية ، فأدت إلى تغييرات سريعة وعميقة وبعيدة المدى في خارطة العالم ، ففي مطلع القرن العشرين بدأت تلوح في الأفق إرهاصات تنذر بأحداث جسام ، وكانت الأرض على موعد مع مسرحية عالمية مغرقة في دراميتها(2) ، توزعت أدوارها الرئيسة بين فرنسا وبريطانيا وألمانيا في أوروبا ، ثم اليابان التي دخلت المسرح على عجل من هناك من أقصى الشرق ، فيما دخلت الولايات المتحدة من أقصى الغرب في عام 1917 قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى وراحت على الفور تستعرض قدراتها المسرحية في محاولة جادة لتستأثر بدور البطولة ، وفي الوقت نفسه دخل الاتحاد السوفياتي من أعالي آسيا رافعاً راياته الشيوعية الحمراء بلون الدم باحثاً له عن دور يليق بحجم ثورته الشيوعية التي أزهق من أجلها ملايين الأرواح ، أما في القلب من العالم فإن "الرجل المريض" الذي حكم العالم عدة قرون باسم الخلافة العثمانية ، تحت راية الإسلام فقد وقف يلقي كلماته الأخيرة استعداداً لمغادرة الخشبة !
 
وبالفعل سريعاً ما غربت شمس العثمانيين ، وانسحبت القوات التركية وحلفاؤها الألمان من سورية في عام 1918 مع انتهاء الحرب العالمية الأولى ، وجاء "مصطفى كمال أتاتورك" ليجهز على ما تبقى من الخلافة ويعلن سقوطها رسمياً في عام 1924 ، ودخل العالم العربي أولاً ثم العالم الإسلامي مرحلة جديدة أسفرت عن ظهور ما سيعرف لاحقاً باسم حركات الإسلام السياسي التي أصبح لها منذ ذلك الحين دور كبير ، بل أساسي ، في ما شهده العالم من تغيرات سياسية واجتماعية بعد ذلك .
 
وفور انسحاب القوات التركية من سورية دخلت الجيوش البريطانية في إثرها من الجنوب ، ولحقت بها قوات الثورة العربية في شتاء 1918 بقيادة "الشريف حسين" ، وشقيقه "الشريف ناصر" ، وقيادة مباشرة ولكن سرية من الضابط البريطاني "لورنس العرب" ، ثم دخل الجنرال البريطاني "إدموند هنري هاينمان اللنبي" إلى سورية قادماً من القدس ، والتقى الجيشان في دمشق ، واستمرت القوات البريطانية في التقدم شمالاً حتى اشتبكت بآخر القوات التركية المغادرة لسورية قرب حلب في منطقة سميت فيما بعد "قبر الإنكليزي" ، وأصدر لورنس قراراً بتعيين شكري باشا الأيوبي حاكماً عسكرياً على سورية ، ثم دخل الأمير فيصل دمشق في استقبال جماهيري واسع يملؤه الأمل بعهد جديد لبلاد الشام ، وكانت القوات الفرنسية بدأت بالوفود إلى سواحل سورية لاستلام المواقع من الجنود الإنكليز حسب الاتفاق المسبق بينهما .
وعجَّل الأمير فيصل بتشكيل أول حكومة عربية نصَّب على رئيسها الضابط السابق في الجيش العثماني الدمشقي علي رضا الركابي ، ضمت ثلاثة وزراء من جبل لبنان ، ووزيراً من بيروت ، ووزيراً من دمشق ، وساطع الحصري من حلب ، ووزيراً للدفاع من العراق ، محاولاً الإيحاء بأن هذه الحكومة تمثل سورية الكبرى ، بينما كانت في الحقيقة مجرد حكومة شكلية على بعض المناطق الداخلية .
وتقدم فيصل بطلب من الإنكليز لتسليح جنوده ، لكن الإنكليز رفضوا الطلب بحجج واهية ، فيما الحقيقة أن الإنكليز خشوا أن يصبح للعرب شوكة وتأثير في مصير البلاد يقوض نفوذهم ، وعندما ألح فيصل على الطلب دعوه في نهاية عام 1918 إلى أوروبا للمشاركة في "مؤتمر الصلح" الذي انعقد بعد الحرب العالمية ليوهموه بشيء من المكانة العالمية ، ويسكتوه عن طلبه ، فزار فرنسا وبريطانيا اللتين أكدتا له حسن النوايا تجاه سورية ، بينما كانوا من وراء ظهره يجهزون "اتفاقية سايكس بيكو" لتقسيم البلاد ، وقد طرح الأمير فيصل في المؤتمر تشكيل ثلاث حكومات عربية : في الحجاز وسورية والعراق ، لكن اقترح الأمريكيون نظام الانتداب ، وإرسال لجنة لاستفتاء الشعب حول رغباته السياسية ، فوافق الفرنسيون والبريطانيون مكرهين على إرسال اللجنة .
عاد الأمير فيصل إلى سورية بعد خمسة أشهر من الإقامة في أوروبا ، فعقد في صيف عام 1919 المؤتمر السوري الذي شارك فيه زعماء السياسة آنذاك : تاج الدين الحسيني ، وفوزي خالد العظم ممثلين عن دمشق ، وإبراهيم هنانو ممثلاً عن قضاء حارم ، وسعد الله الجابري ، ورضا الرفاعي ، ومرعي باشا الملاح  ، والدكتور عبد الرحمن كيالي ممثلين عن حلب ، وحكمت الحراكي ممثلا عن المعرة ، وعبد القادر الكيلاني ممثلا عن حماة ، وأمين الحسيني ممثلا عن القدس ، وانتخب هاشم الأتاسي رئيسا للمؤتمر ، ومرعي باشا الملاح ويوسف الحكيم نائبين للرئيس ، وقرر المؤتمر المطالبة بوحدة سورية واستقلالها ، وقبول انتداب أمريكا وبريطانيا ، ورفض الانتداب الفرنسي ، وأن يكون مفهوم الانتداب هو المساعدة الفنية فقط ، لكن احتالت بريطانيا وفرنسا على الملك فيصل بعد أن استدعته لحضور الاتفاق النهائي ، وعملت على تأخير وصوله ريثما وقعتا الاتفاق بانسحاب القوات البريطانية نحو العراق والأردن وفلسطين ، ودخول القوات الفرنسية إلى سورية ولبنان .
وعند وصول هذه الأخبار إلى السوريين وانفضحت نوايا الاستعمار اندلعت الثورات الوطنية في أرجاء البلاد ، منها ثورة الشيخ صالح العلي ، وثورة صبحي بركات ، وثورة إبراهيم هنانو ، وثورة الشيخ رمضان باشا الشلاش في المنطقة الشرقية ، وثار الدنادشة في منطقة تلكلخ ، وثار غيرهم من الثوار إلى أن توحدت كل هذه الثورات تحت راية سلطان باشا الأطرش ، واضطر الإنكليز للانسحاب من سورية أواخر عام 1919 بعد تواجد دام حوالي عام ، تاركين البلاد بأيدي الفرنسيين .
الانتداب الفرنسي :
بدأ الانتداب الفرنسي على سورية في أوائل عام 1920 بعد معركة ميسلون التي قادها "يوسف العظمة" ، وكان تعداد الجيش السوري أقل من 3000 متطوع بأسلحة بسيطة ، بينما قاد الجيش الفرنسي "الجنرال غورو" وكان مجهزاً بأحدث الأسلحة بما فيها الدبابات والطائرات ، وانتهت المعركة بدخول الجيش الفرنسي إلى دمشق ، وبدأت مرحلة الانتداب على سورية التي شهدت عدة ثورات متلاحقة إلى أن انسحب الفرنسيون وانتهى الانتداب يوم 17 نيسان عام 1946 وأعلن استقلال سورية .
وكانت الحكومة الفرنسية خلال انتدابها على سورية قد اضطرت لإعطاء بعض الحرية النسبية في البلاد ، فسمحت في عام 1925 بتشكيل جمعية تأسيسية جرت انتخاباتها في نيسان 1928 ، ووضع دستور للبلاد ، لكن لم يقره المفوض السامي الفرنسي إلا في شهر أيار من عام 1930 مع احتفاظ المفوضية العليا الفرنسية بشؤون البلاد الحساسة : الجيش ، الجمارك ، الأمن العام ، والشؤون الخارجية .
وقد اشترط الفرنسيون تشكيل أحزاب تشرف على تنظيم الحياة السياسية في البلاد ، فبدأ العمل بين الأرستقراطيين الدمشقيين والحلبيين ، وأعلن عن تشكيل "حزب الشعب" في نفس العام ، وقد نادى بالسيادة الوطنية ووحدة سورية الطبيعية والديمقراطية وتشجيع الصناعة الوطنية ، وكان من أبرز قيادييه عبد الرحمن الشهبندر ، وفارس الخوري ، وإحسان الشريف ، وبعد أقل من عامين أعلن عن تشكيل "الكتلة الوطنية" التي ضمت أبرز الزعامات المحلية من الوطنيين والقوميين في سورية ، مثل إبراهيم هنانو وهاشم الأتاسي وآخرين .
وبالرغم من مشاركة الأحزاب للعملية البرلمانية والدستورية فقد استمرت في نشاطاتها المناوئة للانتداب الفرنسي ، من خلال الاحتجاجات والمنشورات والإضرابات والمظاهرات ، وكان أهمها الإضراب الخمسيني فيما بين الشهر الأول والشهر الثالث من عام 1936 الذي أجبر السلطة الفرنسية على توقيع معاهدة 1936 ، لكن هذه المعاهدة كانت من وجهة نظر المعارضة لا تحمل صفة الاستقلال الحقيقي ، إذ هي تفرط بمسائل وطنية هامة ( مسألة لواء الاسكندرون ، وحدود لبنان مع سورية ، وغيرها من المسائل ) وعندما ازدادت وتيرة الاحتجاجات أوقف المفوض السامي الفرنسي في 8/7/1939 العمل بالدستور ، وحل المجلس النيابي ، لتعود سورية تحت الحكم العسكري الفرنسي المباشر منذ عام 1939 وحتى أيلول 1941 حين سُمح من جديد بقيام حكومة وطنية ائتلافية من صفوف الكتلة الوطنية وحزب الشعب ، وبرز خلال هذه الفترة السيد "شكري القوتلي" زعيماً للكتلة الوطنية ، وزعيماً للجماهير المطالبة بالاستقلال .
وقد استمر النضال الوطني ضد الانتداب طوال وجود الفرنسي في البلاد ، واجتمع المجلس النيابي من جديد في 17/8/1943 وسيطرت عليه أغلبية من الكتلة الوطنية ، وانتُخب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية السورية ، وكلف سعد الله الجابري بتشكيل الوزارة ، وكان للبرلمان وللحكومة برئاسة فارس الخوري ــ التي أتت بعد حكومة الجابري ــ مواقف مشرقة ، أهمها رفض توقيع معاهدة مع فرنسا التي جعلت لنفسها امتيازات داخل سورية ، ما دفع السلطات الفرنسية في 29/5/1945 لقصف دمشق من أجل الضغط على القوتلي ، إلا أن الاستمرار والصمود ــ إضافة إلى الضغوط الخارجية من بريطانيا وهيئة الأمم المتحدة ــ جعلت فرنسا تدفع ثمناً باهظاً دفعها للموافقة على الجلاء في آذار 1946 ، ونفذ الجلاء فعلاً في 17/4/1946 .
 
المشاريع الاستعمارية :
أحس الإنكليز والأمريكان أن خروج فرنسا من سورية ولبنان سوف يضعف نفوذهم في هذه المنطقة الحساسة من الوطن العربي ، فسارع الطرفان إلى طُرح مشاريع عديدة ظاهرها الرحمة وباطنها المزيد من تكبيل سورية بأغلال الانتداب ، منها "مشروع سورية الكبرى" الذي تبناه الأمير عبد الله فور الحصول على استقلال الأردن في 22/3/1946 ، فأعلن نفسه أولاً ملكاً على المملكة الهاشمية ، ثم وجه دعوة في شهر آب 1946 إلى سورية ولبنان للعمل على تنفيذ هذا المشروع ، وفي 2/9/1947 بعد اجتماعات ومداولات عاصفة في أروقة أصدر المجلس النيابي السوري بياناً استنكر فيه هذه الدعوة ، ثم أعلن المجلس رفضه التام للمشروع الذي رأى أنه يخفي مطامح شخصية للأمير ، ويحمل في طياته تفجيراً لميثاق الجامعة العربية ، وينص على قيود استعمارية تمس استقلال البلاد ونظام الحكم فيها .
وعندما أيقن الاستعمار فشل المشروع السابق طرح مشروعاً آخر هو "مشروع الهلال الخصيب" الذي يتلخص بإقامة اتحاد فيدرالي بين الأردن والعراق وسورية ولبنان ، وقد لاقى هذا المشروع مصير المشروع السابق ، ولم يجد يتعاطف معه أحد سوى الحزب القومي السوري الاجتماعي ، وكان فشل هذين المشروعين انتصاراً للمحور المصري السعودي على المحور العراقي الهاشمي ، وأصبح للبرلمان السوري والقوى السياسية السورية منذ ذلك الحين دور أساسي بتحديد مستقبل سورية وتوجهاتها اللاحقة عربياً وإقليمياً ودولياً .
 
الاضطرابات السياسية والحزبية :
داخلياً بدأت بوادر الاضطرابات السياسية بسجال دستوري بين أعضاء البرلمان من جهة ، وبين البرلمان والأحزاب والكتل السياسية من جهة أخرى ، منها على سبيل المثال مشروع يمنح وزير الداخلية سلطة واسعة في ترخيص الأحزاب السياسية والجمعيات والمطبوعات ، إلا أن البرلمان رفض المشروع لمخالفته نصوص الدستور ويمهد لسيطرة أجهزة الأمن ، كما خاض البرلمان سجالاً حامياً مع الأحزاب السياسية حول مشروع تعديل قانون الانتخابات ، ما أجبر حكومة جميل مردم على سحب المشروع ، وفي أيار 1947 حصل سجال ساخن آخر في البرلمان حول تمثيل الاقليات الطائفية ، وانتهى البرلمان إلى قرار بإجراء الانتخابات على أساس قومي دون أي تمييز بسبب الدين أو المذهب أو الطائفة ، وصدر مرسوم بذلك في 4/6/1947،  وقد انتهزت بعض الطوائف للتسلل في مفاصل الدولة ، ثم الاستفراد بكل شيء ، مما فجر حرباً أهلية طاحنة فيما بعد .
وفي هذه الظروف عقد المؤتمر التأسيسي لحزب البعث في 4/4/1947 واستمر ثلاثة أيام وصدر أول دستور للحزب أقر في المادة 14 أن نظام الحكم الذي يتبناه البعث هو نظام نيابي دستوري ، والسلطة التنفيذية مسؤولة أمام السلطة التشريعية التي ينتخبها الشعب مباشرة ، غير أن الحزب لم يلبث أن انقلب على هذا الدستور عندما سيطر العسكر عليه بعد ثورة 8 آذار 1963 .
جرت أول انتخابات في سورية في ظل الاستقلال يوم 17/7/1947 ، وتمخضت الانتخابات عن مجلس ضم أغلب التكتلات السياسية النشطة على الساحة السياسية ، واحتفظ فيها "الحزب الوطني" بأربعين مقعداً ، وحصل حزب الشعب على 30 مقعداً ، ونجح أكرم الحوراني عن "حزب الشباب" ، ورشاد برمدا عن "الحزب القومي العربي" ، بينما سقط ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار عن "البعث" ، وجميل مردم عن "الكتلة الجمهورية" ، إضافة إلى أكثر من 50 من المستقلين ، وأول قضية ناقشها البرلمان تعديل الدستور بجعله يتيح لشكري القوتلي إعادة انتخابه رئيساً للجمهورية أربع سنوات أخرى ، وبعد جلسات ساخنة من النقاش والأخذ والرد وافق المجلس بالإجماع على هذا الاقتراح في 18/4/1948 ، ووقف البعث حينها في المعارضة لهذا الاقتراح من خارج البرلمان ، واعتبر إعادة ترشيح القوتلي تجديداً للحكم الدكتاتوري  (!)
ومن المواقف المشهودة للبرلمان السوري رفضه بالإجماع جميع مشروعات تقسيم فلسطين ، ودعوة الجماهير للتطوع في "جيش الإنقاذ" ، ومشاركة الجيش السوري في تحرير فلسطين ، وبعد الهزيمة حمل البرلمان حكومة جميل مردم مسؤوليتها ، واتهمها بالفساد في تجهيز الجيش وسرقة المجهود الحربي ، وتحت الضغط البرلماني استقال الشراباتي وزير الدفاع ، ونتيجة للنقد المتزايد عطل جميل مردم عقد جلسات البرلمان ، لكنه اضطر في النهاية بتاريخ 21/8/1948 إلى تقديم استقالة حكومته وتشكيل حكومة جديدة ، وكان من أهم نتائج نكبة فلسطين على الصعيد الوطني زيادة تدخل العسكريين في شؤون الحكم في سورية ، وتحميل مسؤولية الهزيمة للقوى التقليدية المسيطرة على البرلمان والحكومة ( الوطني - الجمهوري – الشعب ) ، وكان المجلس النيابي انعكاساً حقيقياً للجو السياسي المكهرب في البلاد ، فلم تخلُ جلساته من المشادات والاتهامات والمشاحنات الكلامية ، وأحياناً الاشتباكات بالأيدي ، وتدخلت قوى الشرطة أكثر من مرة ، ونتيجة الجو المشحون أجرى الرئيس شكري القوتلي حواراً شاملاً مع ممثلي التنظيمات السياسية والحزبية في القصر الجمهوري بتاريخ 31/11/1948 دعاهم فيه إلى الوحدة الوطنية والاشتراك بوزارة ائتلافية وطنية تخرج البلاد من أزماتها المتلاحقة ، وبالفعل انهارت حكومة مردم الثانية وقدمت استقالتها ، وكلف هاشم الأتاسي بتشكيل وزارة جديدة .
واستطاع الرئيس شكري القوتلي من خلال الحزب الوطني أن يكون رئيساً للجميع ، وأن يقف على مسافات متساوية من مختلف القوى والتشكيلات السياسية والحزبية ، ما أظهره بمظهر الزعيم الوطني الحيادي أمام الجماهير ، وأكسبه احترام الجميع وتجاوبهم معه ، ولعل تكليفه هاشم الأتاسي المنتمي إلى حزب الشعب - العدو التقليدي لحزبه والمناقض التاريخي لمشروعه - كان من أكثر المواقف دلالة على هذا الموقع المنصف الذي احتله شكري في تاريخ الحكم في سورية ، إضافة إلى استقالته لصالح الرئيس جمال عبد الناصر أثناء الوحدة في عام 1958 ، وغيرها من المواقف التي يجب أن تُذكر بصفحات بيضاء ناصعة لهذا الرجل شكري .
ومن المواقف المشرفة للبرلمان السوري رفضه التصديق على اتفاقيتي النقد مع فرنسا ، والتابلاين مع الولايات المتحدة ، وإصراره على التحقيق مع العديد من العسكريين الذين اتهموا بالفساد والاختلاس ، كل هذا عجل في سعي العسكريين للانقضاض على الحكم المدني البرلماني ، ودخول سورية مسلسل الانقلابات العسكرية التي أسفرت عن نتائج كارثية ، وكان من الواضح تأثير الأيدي الخارجية في هذه الانقلابات .

مسلسل الانقلابات :

في 30 آذار من عام 1949 ولم يكن قد مضى سوى فترة قصيرة على استقلال سورية عن فرنسا وتأسيس الجيش السوري أقدم "حسني الزعيم" على أول انقلاب في سورية مدشناً بذلك مسلسل الانقلابات العسكرية التي أحكمت سيطرة العسكر ، وجعلت سورية تعيش أسوأ فترات تاريخها ، حيث عانت من التخلف في شتى المجالات الاقتصادية والعلمية والاجتماعية ، وجملة من الهزائم العسكرية المتلاحقة .
فمن الناحية العسكرية تفتت الجيش مع أول انطلاقة له وأصبح شراذم متناحرة بين قادة الفرق والألوية على أسس حزبية أو طائفية أو مناطقية ، ومن الناحية السياسية عطل حسني الزعيم عمل الدستور ، وحل البرلمان في 3/4/1949 ، وأودع رئيس الجمهورية شكري القوتلي في السجن ، ونفذ الإعدام بكل من صدر بحقه حكم بالإعدام مسبقاً ، ونشر الرعب في كل مكان ، وسلَّم أنطون سعادة رئيس الحزب القومي السوري إلى رياض الصلح رئيس وزراء لبنان الذي عجل بإعدامه ، وأوقف التحقيقات البرلمانية مع الضباط المتهمين بالفساد ، وأطلق سراح أنطون بستاني المتهم الأساسي بقضايا الفساد في تموين الجيش وأعاده إلى منصبه ، وأبرم عدة اتفاقات أبرزها مع شركة نفط العراق البريطانية بمد أنبوب النفط عبر سورية إلى طرابلس في لبنان ، وانغمس حسني في حفلات السهر واللهو والمجون .. ما جعل رئيس حزب الشعب (الكيخيا) يصف حال البلاد بعد ذلك الانقلاب فقال : سوف تعيش سورية 50 سنة على الأقل من الألم والاضطهاد من أجل أن تقضي على هذا الداء الذي أصيبت به !
ولم يكتف حسني بكل هذه المصائب ، بل أمر بتشكيل لجنة دستورية لوضع دستور جديد للبلاد ، ومشروع قانون انتخابي جديد ، وأعلن أن انتخاب رئيس الجمهورية سوف يتم بالاقتراع السري من الشعب مباشرة وليس من مجلس النواب ، وبدأت فكرة المرشح الوحيد للرئاسة بالظهور لأول مرة في تاريخ سورية ، وكان الزعيم هو المرشح الوحيد حيث نال النسبة الشهيرة 99.99 في المائة في انتخابات 25/6/1949 التي أصبحت بعد ذلك ظاهرة وسمت التاريخ السياسي السوري ومازالت حتى اليوم ، وبدأت أجهزة المخابرات تنمو وتتضخم وتتوسع وتتغلغل في الكبيرة والصغيرة ، وازداد تدخل العسكر في شؤون البلاد ، وسجن الزعيم أغلب القيادات السياسية وعذبهم ، مثل الكيخيا والأتاسي وعفلق والبيطار وجلال السيد وغيرهم من القيادات الحزبية والشعبية والسياسية ، وبدأ يعتمد على الأقليات والجيش والمخابرات في حكمه ، ما جعل الضباط القوميين في الجيش السوري يحقدون عليه ، ولم يلبثوا أن اتفقوا سراً مع رئيس أركانه سامي الحناوي على إنهاء حكمه ، وبالفعل في 14 آب 1949 اعتقل حسني الزعيم من قبل عدد من الضباط الذين عجلوا بإعدامه ، وانتهت مرحلة حسني الزعيم التي دامت عدة أشهر فقط لكنها أدت الى نتائج كارثية على سورية ، ودشنت فترة الانقلابات العسكرية ، وكانت هناك مؤشرات عديدة تشير بشكل واضح إلى دور المخابرات الفرنسية والأمريكية في انقلاب الزعيم .
أما الحناوي فقد زعم أنه سوف يعيد ترتيب البلاد ، وأن الجيش سوف ينهي حالة الاستبداد ثم سيعود إلى ثكناته ، وأصدر قراراً برفع الحظر عن الأحزاب السياسية ما عدا الشيوعي والتعاوني الاشتراكي ، وشكل وزارة ائتلاف ضمت وزراء من حزب الشعب والحزب الوطني وحزب الشباب وحزب البعث ، ووضع قانوناً انتخابياً جديداً أفضل مما سبقه ، وجرت انتخابات جديدة في 15/11/1949 أسفرت عن نجاح 43 مرشحاً من حزب الشعب ، و 42 مستقلاً نصفهم مناصرون لحزب الشعب ، ونجح مرشح واحد عن حزب البعث هو جلال السيد ، ومرشح واحد عن الحزب القومي السوري ، و 13 مرشح عن الحزب الوطني و 4 مرشحين عن الجبهة الإسلامية ، ومرشح واحد عن حزب الشباب هو أكرم الحوراني ، وانتخب هاشم الأتاسي رئيساً مؤقتاً للجمهورية ريثما يعدل الدستور .
ومن المواضيع المهمة التي ناقشها البرلمان في الجلسة الرابعة يوم 17/12/1949 مناقشة نص القسم الذي سيؤديه رئيس الجمهورية إذ قدم مؤيدو الاتحاد العراقي السوري نص القسم التالي : "أقسم بالله العظيم أن احترم قوانين الدولة ، وأحافظ على استقلال الوطن وسيادته وسلامة أراضيه ، وأصون أموال الدولة ، وأعمل على تحقيق وحدة الأقطار العربية" وقد لاحظ المعارضون لهذا الاقتراح حذف الإشارة إلى المحافظة على النظام الجمهوري ، وفسره المعارضون أنه محاولة لتمهيد الطريق أمام مشروع وحدة سورية والعراق تحت عرش الوصي العراقي "عبد الإله" ، وجرت مناقشات صاخبة ، وكان من أهم المعارضين لهذا المشروع ممثلو الكتلة الإسلامية ، وعلى رأسهم الزعيم الإخواني "مصطفى السباعي" ، وحزب الشباب ، مع كتلة أطلقت على نفسها اسم "الكتلة الجمهورية" إلا أن هذه المعارضة فشلت نظراً للأغلبية التي كان يحظى بها حزب الشعب المؤيد للاتحاد مع العراق داخل البرلمان .
ولم يطل العهد المنفتح نسبياً على سورية إذ سرعان ما قام الجيش بقيادة العقيد أديب الشيشكلي في 19/12/1949 بالانقلاب الثالث في سورية ، واعتقل الحناوي وصهره أسعد طلس ، ومرة جديدة كان للاستقطاب الإقليمي بين المحورين الهاشمي من جهة ، والسعودي المصري من جهة ثانية ، دور وراء هذا الانقلاب ، وكان البلاغ الثاني للانقلاب يوم 26/12/1949 واضحاً ، إذ أعلن أن مشروع الاتحاد مع العراق هو مشروع استعماري الهدف منه القضاء على استقلال سورية ، وإنشاء عرش جديد يبعد هدف تحقيق الوحدة المنشودة .
وفي يوم 22/7/1950 نوقشت في البرلمان ( المادة 3 ) من الدستور التي تنص على أن دين الدولة هو الإسلام ، فقد طلب استبدالها بـ "علمانية الدولة" من قبل أعضاء حزب البعث والشباب (أصبح اسمه حينها العربي الاشتراكي) والحزب القومي السوري والحزب الشيوعي وبعض عناصر حزب الشعب ، لكن ووجهت الفكرة برفض شديد من قبل أعضاء التيار الإسلامي وعلى رأسهم "الإخوان المسلمون" ، وكذلك الحزب الوطني وبعض عناصر حزب الشعب ، وأصر أنصار هؤلاء على وجوب بقاء المادة كما هي ، لكن حقق أنصار التيار الأول نصراً نسبياً فعدلت المادة وأصبحت "الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع" .
وعاد حزب الشعب بزخم إلى البرلمان والوزارة التي شكلها هاشم الأتاسي وجعل على رأسها الدواليبي ، لكن بدأ العسكر يبدون تذمرهم ولاحت منهم بعض التحركات المريبة ، فسارع الشيشكلي يوم 28/11/ 1951 على انقلابه الثاني ، متهماً الجيش بالعمل على بسط نفوذه ، واتهام حزب الشعب بالتآمر على البلاد والسعي إلى تخريب الجيش وإعادة الملكية ، لهذا أمر الشيشكلي بحل البرلمان فوجَّه ضربة مضاعفة لحزب الشعب ، وتسلم بنفسه مهمات السلطتين التشريعية والتنفيذية ، وفي 15/1/1952 حظر نشاط الحزب الوطني وحزب الشعب والإخوان المسلمين والتعاوني الاشتراكي ، وأغلق مكاتبهم بالشمع الأحمر ، وأبقى على نشاط البعث والعربي الاشتراكي ، ثم حظر بقية الأحزاب ما دفعها للعودة إلى النضال السري ضده بحجة دكتاتوريته وانفراده بالسلطات كلها .
وقد أسس الشيشكلي حركة سياسية خاصة به سماها "حركة التحرير العربي" التي انتخبته مسؤولاً أول في مؤتمرها التأسيسي الذي عقدته في حلب يوم 25/7/1952 ، ثم عدل الدستور بتاريخ 21/6/1953 وحول النظام الحكومي من نظام نيابي إلى نظام رئاسي ، وأجرى استفتاء عاماً يوم 10/7/1953 أسفر عن الموافقة على التعديل ونجاح الشيشكلي المرشح الوحيد للرئاسة ، وكان من أبرز المؤيدين للشيشكلي إضافة إلى الحزب الذي شكله هو الحزب القومي السوري الاجتماعي ، ثم أصدر الشيشكلي قانوناً جديداً للانتخابات خفض فيه عدد أعضاء البرلمان إلى 82 عضواً ، وسمح بعودة النشاط الحزبي مستثنياً الحزب الشيوعي ، لكن القوى السياسية قاطعت الانتخابات باستثناء حركة التحرير التي حصلت على 72 مقعداً ، أما المقاعد الباقية فكانت للقوميين السوريين وللمستقلين ، وانتخب "مأمون الكزبري" رئيساً لمجلس النواب ، وشهدت سورية في هذه الفترة مرحلة خصبة من العمل السياسي ، تخللتها مظاهرات وإضرابات وبيانات وحشود جماهيرية ضد ديكتاتورية الشيشكلي ، فكان رد الشيشكلي إعلان الأحكام العرفية ، واعتقال أغلب القيادات السياسية للأحزاب ( الكيخيا ، وعدنان الأتاسي ، والجابري ، والعسلي ، وميشيل عفلق ، وأكرم الحوراني ، وصلاح الدين البيطار ) ووضع هاشم الأتاسي تحت الإقامة الجبرية ، ثم تراجع عن قراراته حين شعر بالعزلة ، وفاجأه الانقلاب الرابع في 25/2/1954 فوضع نهايته ، وقد وقع هذا الانقلاب بالتعاون بين الأتاسي واتباعه داخل الجيش مع مصطفى حمدون وبعض الضباط البعثيين ، وقد أبعد الشيشكلي إلى بيروت ، وعاد الأتاسي إلى ممارسة صلاحياته رئيساً للجمهورية ، وفي يوم 18/8/1955 عاد شكري القوتلي إلى الرئاسة بعد انتهاء فترة رئاسة الأتاسي .
الحركة القومية :
في هذه الفترة كان المد القومي يكتسح الساحة العربية من المحيط إلى الخليج  بعد نجاح ثورة 23 تموز 1952 في مصر بقيادة الضباط الأحرار الذين أسقطوا عرش الملك فاروق وأجبروه على مغادرة مصر ، وبدأت الحركات القومية في سورية تتخذ مكان الصدارة وتزداد قوة واتساعاً في المشهد السياسي ، فطرح القوميون مسألة الوحدة مع مصر لحماية المنطقة العربية من المشاريع الاستعمارية التي بدأت تطرح على الساحة ، منها "مشروع ايزنهاور" الذي دعا الولايات المتحدة إلى سد الفراغ السياسي الذي حصل في المنطقة بعد انسحاب بريطانيا .
وأقر المجلس النيابي السوري قانوناً جديداً للانتخاب ، وزاد عدد النواب إلى 142 نائباً ، وأقر نظام الاقتراع السري ، وحدد موعد الانتخابات في 20/8/1954 ، لكن الحزب الوطني والحزب الشعب أعلنا مقاطعة الانتخابات احتجاجاً على تدخل الضباط البعثيين في السياسة ، ونشر أفكارهم الحزبية داخل الجيش ، ما يتعارض مع المهمة الأساسية للجيش بالدفاع عن الوطن ، فأمر الأتاسي بتأجيل الانتخابات لإقناع الحزبين بالمشاركة ، فتراجع الحزبان عن المقاطعة ، وجرت الانتخابات فتقدمت فيها الحركة القومية العربية والحركة اليسارية ، إذ حصل البعث على 16 مقعداً ، وحزب الشعب 30 مقعداً ، والحزب الوطني 19 مقعداً ، لكن شهد هذا البرلمان صراعات مريرة بين اليمين واليسار ، وكان لاغتيال العقيد البعثي عدنان المالكي يوم 22/4/1955 أثر كبير على انتشار الحركات القومية واليسارية ، وتراجع الحزب القومي السوري الذي اتهم باغتيال المالكي ، وضربت قواعده واعتقلت كوادره .
وكانت الأجواء قد تشكلت لإتمام الحلم الكبير بالوحدة مع مصر ، فصادق البرلمان السوري على ذلك يوم 5/2/1958 ، وبالفعل تمت الوحدة ، وتحولت سورية إلى إقليم شمالي في جمهورية الوحدة التي أصبح اسمها "الجمهورية العربية المتحدة" ورشح جمال عبد الناصر رئيساً لها ، وجرى الاستفتاء على الدستور المؤقت للجمهورية الوليدة ، ونصَّ الدستور على أن تكون السلطة التشريعية من اختصاص "مجلس الأمة" ، وأن يكون نصفه من النواب السوريين والنصف الآخر من المصريين ، وكان عبد الناصر قد اشترط حل الأحزاب السياسية في سورية لإقامة الوحدة ، لكن لم يرق هذا للبعثيين ، ونشبت الخلافات بينهم وبين عبد الناصر ، وراحوا يعيدون تنظيمهم ويبثون نشرات تتهجم على سياسات عبد الناصر ، وانتهت هذه الأحداث بانقلاب العسكريين على الوحدة بتشجيع من البعثيين المدنيين والعسكريين ومعهم معظم الشيوعيين ، بدعم إقليمي وخارجي ، ووقع الانفصال الذي ولدت في أعقابه "الحركة الناصرية" على خريطة الحياة السياسية في سورية في محاولة لإعادة الوحدة .
وبدأت الأحزاب في سورية تعود إلى نشاطها من جديد ، وجرت في كانون الأول 1961 انتخابات جديدة للبرلمان اشترك فيها أكثر رجالات الأحزاب المنحلة ( الوطني ، الشعب ، البعث ،  الإخوان ، والقومي السوري ) وشكل "معروف الدواليبي" وزارة ضمت أكثرية من حزب الشعب والحزب الوطني ، وتقدمت الوزارة إلى البرلمان بمشروع جديد لإلغاء قانون التأميم وتعديل قانون الإصلاح الزراعي وغيرها من القوانين الاشتراكية التي أصدرها عبد الناصر إبان الوحدة ، واستطاعت الوزارة أن تحصل على موافقة البرلمان بالرغم من بعض الاعتراضات من كتلة البعث (8 مقاعد) .
وفي يوم 28/3/1962 فوجئ السوريون بانقلاب جديد تزعمه "عبد الكريم النحلاوي" الذي أمر بحل البرلمان ، وأقال حكومة الدواليبي ، وزج أعضاءها في السجن ، ودخلت الحياة السياسية من جديد في نفق مظلم رافقها طويلاً بعد ذلك ، وبالرغم من أن النحلاوي حاول مد يده إلى الناصريين فإن التنظيمات الناصرية رفضت أي تعاون معه إلا بشرط إعادة الوحدة مع مصر ، وبدأت حركة العصيانات المدنية والعسكرية تتصاعد ، ما اضطر القيادة العسكرية أن تفرج عن المعتقلين ، وتسمح بالنشاط الحزبي وحرية الصحافة والتظاهر ، وتعيد تأميم معمل الغزل والنسيج التابع للشركة الخماسية ، وتلغي التعديل الذي أجرته حكومة الدواليبي على قانون الإصلاح الزراعي ، وتعيده كما كان أثناء فترة الوحدة ، وقد انتهت تلك المرحلة من الاضطرابات السياسية الواسعة بانقلاب حزب البعث يوم 8 آذار 1963 الذي سوف تخيم ظلاله القاتمة على البلاد لأكثر من نصف قرن .
انقلاب البعث :
من الجدير بالذكر أن حزب البعث بالتعاون مع عدد من الأحزاب الأخرى قد وقَّع على وثيقة الانفصال في عام 1961 ، وعلى إثر ذلك اعتقل الضابط البعثي "حافظ الأسد" مع رفاقه العسكريين السوريين الذين كانوا متواجدين في مصر عندما وقع الانفصال ، ثم أطلق سراحهم وأعيدوا إلى سورية في إطار عملية تبادل مع ضباط مصريين كانوا محتجزين في سورية ، وأبعد حافظ بعد عودته عن الجيش لموقفه الرافض للانفصال ، وأحيل إلى الخدمة المدنية في إحدى الوزارات ، وبعد أن استولى حزب البعث على السلطة في انقلاب 8 مارس 1963 فيما عرف باسم "ثورة 8 آذار" أعيد حافظ الأسد إلى الخدمة من قبل صديقه ورفيقه في اللجنة العسكرية مدير إدارة شؤون الضباط آنذاك المقدم "صلاح جديد" ، ورقي حافظ في عام 1964 من رتبه رائد إلى رتبة لواء دفعة واحدة ، وعين قائداً للقوى الجوية والدفاع الجوي .
وكان مجلس قيادة الثورة قد سيطر عليه العسكريون بقيادة اللواء "لؤي الأتاسي" ، وبدأ البعث يقوي نفوذه داخل مؤسسات الدولة ، لاسيما في الجيش والأمن ، وبالرغم من أن حافظ الأسد ورفاقه البعثيين قد تظاهروا طويلاً أنهم ضد الانفصال وأنهم مع الوحدة مع مصر إلا أنهم قمعوا بشراسة لا نظير لها كل المظاهرات التي نظمها الناصريون من أجل الضغط لإعادة الوحدة مع مصر ، وانتهى الأمر بمجزرة يوم 18/7/1963 خلال محاولة الانقلاب الفاشلة بقيادة الناصري "جاسم علوان" ، وحصلت بعدها القطيعة النهائية بين الناصريين والبعثيين ، وبدأ البعث يقدم نموذجاً للحكم يتناقض مع كل الشعارات التي أطلقها في الأربعينات والخمسينات ، وبدأ يقمع الحركات الاحتجاجية بوحشية ، وكان وراء إصدار قانون من قيادة الثورة ينص على أن إغلاق المحلات بهدف الإضراب جريمة تستوجب السجن 20 عاماً مع مصادرة المحل .
وفي حزيران 1965 أقر المؤتمر القطري الاستثنائي لحزب البعث أن يتولى مجلس قيادة الثورة ــ الذي يسيطر عليه العسكريون ــ السلطة التشريعية والإشراف على السلطة التنفيذية ، واعتبر التنظيم السياسي في سورية أن حزب البعث هو الحزب القائد ،  وكل السلطات عليها أن تنفذ مبادئ الحزب ومقررات مؤتمراته ، وأصبح المؤتمر العام للحزب هو البرلمان الذي يرسم السياسة العامة للحكومة ، وبعد الشعارات التي رفعها البعث طويلاً للمناداة بالديمقراطية والحياة النيابية تحول إلى حكم دكتاتوري متشدد ، وأصبحت المنطلقات النظرية للحزب تفوح منها رائحة كتاب  "ما العمل" الذي ألفه الزعيم الروسي الدكتاتوري "لينين" الذي يعد الأب الروحي للشيوعية والشيوعيين .
وواصلت اللجنة العسكرية تعزيز نفوذها ، وتوسيع شبكة مؤيدي الحزب في الجيش ، وأقدمت اللجنة في 23 فبراير 1966 بقيادة صلاح جديد وحافظ الأسد بالانقلاب على القيادة القومية لحزب البعث التي ضمت آنذاك "ميشيل عفلق" أبرز مؤسسي البعث ، مع رئيس الجمهورية "أمين الحافظ" ، وتخلى صلاح جديد عن رتبته العسكرية لإكمال السيطرة على الحزب والتمهيد لحكم سورية ، وتولى حافظ الأسد وزارة الدفاع ، لكن سرعان ما دبت الخلافات بشدة بين الصديقين اللدودين في أعقاب هزيمة "حزيران 1967" فقد انتقد صلاح جديد أداء وزارة الدفاع خلال الحرب ، لاسيما قرار حافظ بسحب الجيش وإعلان سقوط القنيطرة قبل أن تسقط فعلاً بأيام ، مع تأخر غير مفهوم لسلاح الجو السوري بدعم نظيره الأردني ، مما أدى لتحميل حافظ الأسد مسؤولية الهزيمة .
ثم تفاقمت الخلافات بينهما مع توجه صلاح جديد نحو خوض حرب طويلة مع إسرائيل ، بينما عارض حافظ الأسد ذلك بحجة أن الجيش ليس مؤهلاً لهذه الحرب ، لاسيما بعد موجة التسريحات التي أعقبت انقلاب 8 آذار 1963 التي طالت الضباط السنة بخاصة ، ووصلت الخلافات بين الرجلين إلى أوجها خلال أحداث "أيلول الأسود" في الأردن عام 1970 ، فقد أرسل صلاح جديد الجيش السوري لدعم الفلسطينيين هناك الذين اشتبكوا مع الجيش الأردني ، لكن حافظ امتنع عن تقديم التغطية الجوية للجيش وتسبب بإفشال المهمة ، وعلى إثر ذلك عقد صلاح جديد اجتماعاً للقيادة القطرية لحزب البعث قررت بالإجماع إقالة حافظ الأسد مع رئيس الأركان مصطفى طلاس من منصبيهما ، لكن حافظ الأسد رفض القرار ، وتمكن في 16 تشرين الثاني 1970 بمساعدة بعض القطع الموالية له في الجيش من الانقلاب على صلاح جديد ورئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي ، وأودعهما في السجن مع مؤيديهما من الرفاق فيما أطلق عليه حافظ الأسد اسم "الحركة التصحيحية" .
فترة حافظ الأسد :
بعد قيامه بالحركة التصحيحية تولى حافظ الأسد منصب رئاسة مجلس الوزراء ، ثم وزير الدفاع في 21 تشرين الثاني  1970 ، ثم ما لبث أن حصل على صلاحيات رئيس الجمهورية ، وفي 12 آذار 1971 أصبح رئيساً للجمهورية لمدة سبع سنوات بعد استفتاء شعبي شكلي أعده مسبقاً ، ليكون بذلك أول رئيس علوي في تاريخ سورية ، واستفرد بالحكم وأصبح الآمر الناهي دون منازع ، وبعدها أعيد انتخابه في استفتاءات متتابعة أعوام 1978 و 1985 و 1992 و 1999 .
ومن أجل الكسب الشعبي أظهر حافظ أول عهده بعض الانفتاح على القوى السياسية ، ولاسيما انفتاحه على الناصريين والشيوعيين واليساريين ، واختار مجلساً للشعب مؤقتاً ضم 173 عضواً ، ووضع دستوراً جديداً ، ووقع على ميثاق "الجبهة الوطنية التقدمية" في 7/3/1972 التي جمعت عدداً من الأحزاب القومية واليسارية ، لكنها ظلت مجرد ديكور للنظام الدكتاتوري الذي ظل حافظ فيه هو الحاكم بأمره دون منازع .
ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم تحول البرلمان السوري إلى مؤسسة تعيش عطالة شبه كاملة ، وأي صوت نيابي يحاول انتقاد سياسات الحكومة والنظام يقمع بلا رحمة ، وتحولت الانتخابات إلى احتفالات كرنفالية فلكلورية دون أية برامج انتخابية حقيقية ، وتحول المجلس في عيون الناس إلى مكان للحصول على الامتيازات ، وكثيراً ما يلمز المواطنون بالمجلس بكلمة "موافقون" إشارة إلى الدور الذي يقوم به البرلمان في الموافقة فقط على ما تطلب منه الحكومة .
وهكذا تميزت فترة حافظ الأسد على الصعيد الداخلي بالحزم ، والسلطة المطلقة ، وتعيين العلويين في المناصب العسكرية والأمنية وحتى المدنية ، وأصبح حزب البعث مجرد شكل بلا مضمون ، وأصبح حافظ يوصف بأنه "الأب القائد" في إشارة علنية إلى ضرورة الطاعة التامة من قبل المواطنين ، إلى جانب احتكاره العنف والولاية العامة دون منازع ، فلا غرابة إذن أن يشاع في شتى الأمكنة شعار "الأسد إلى الأبد" معلناً الدكتاتورية بأبشع صورها ، ومبشراً بحكم وراثي ينحصر في عائلة الأسد دون غيرها .
أما على الصعيد الخارجي فقد استمر حافظ الأسد يرفض بالظاهر "اتفاقية كامب ديفيد" التي وقعت السلام بين مصر وإسرائيل بعد حرب 1973 ، بينما ظل حافظ في الحقيقة مهادناً لإسرائيل طوال فترة حكمه ، فلم يسمح بإطلاق رصاصة واحدة ضدها ، بل منع أي رد على اعتداءاتها المتكررة في عمق سورية مراراً وتكراراً ، حتى إنه في عام 1991 دفع الجيش السوري للمشاركة مع قوات التحالف الدولي إلى جانب الولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل في "حرب الكويت" ، ثم شارك في عام 1991 في "مؤتمر مدريد للسلام" إلى جانب الصهاينة ، وأدخل سورية رسمياً في مفاوضات السلام مع إسرائيل ، على أساس قرارات الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام القاضي بانسحاب إسرائيل حتى خط الرابع من حزيران 1967 ، لكن تعثرت المفاوضات لأسباب مبهمة يرجعها المحللون إلى اتفاق سري بين حافظ وإسرائيل لإبقاء الحالة على ما هي عليه ( لا سلام ولا حرب ) مع استمرار احتلال الجولان لكي يظل حافظ يدعي أنه يعمل على استرجاع الأرض المحتلة ، ويظهر نفسه أمام الشعب أنه بطل المقاومة والممانعة ، وهذا الوضع أتاح له أن يحكم البلاد بالحديد والنار بحجة أن سورية بلد محتل ومستهدف من العدو ، وقد استمر حافظ الأسد على سدة الرئاسة حتى وفاته في 10 يونيو 2000 ، أي زهاء ثلاثين عاماً وهو يتلقى اعتداءات الصهاينة بالقول إنه "يحتفظ بالرد في الوقت المناسب" ، وهذا الوقت لم يأت مطلقاً طوال حكمه ولا حكم ولده بشار من بعد ، مما يؤكد أنه كان بينه وبين الصهاينة اتفاقاً سرياً يضمن لهم احتلال الجولان مقابل ضمان بقائه في الحكم ثم بقاء أولاده من بعده ، وهذا ما حصل فعلاً إذ تولى ولده بشار مقاليد الحكم متجاوزاً بذلك كافة التقاليد الحزبية والأعراف الدستورية .
حكم بشار الأسد :
عندما اشتد المرض بحافظ الأسد ، وشعر بقرب هلاكه ، راح على عجل يرتب الأمور لكي يخلفه في الحكم ولده بشار ، وبالفعل هيأ كل شيء لفرض ولده على الشعب وعلى الرفاق في الحزب الذين كانوا أعرق وأقدر من بشار في العمل الحزبي ، وعندما هلك حافظ صدر مرسوم تشريعي استثنائي برفع بشار إلى رتبة فريق متجاوزاً بذلك رتبتين عسكريتين من أجل تمكينه لمنصب قيادة الجيش ، ثم عينه الرئيس المؤقت عبد الحليم خدام قائداً للجيش والقوات المسلحة ، وانتخب بعدها أميناً قطرياً في المؤتمر القطري التاسع لحزب البعث العربي الاشتراكي في 27 حزيران 2000 ، ثم عرض موضوع الرئاسة على مجلس الشعب لمنح الثقة لبشار ، فاعترض بعض النواب بأن عمر بشار هو 34 عاماً و 10 أشهر ، بينما هناك مادة في الدستور تنص على أن لا يقل عمر رئيس الجمهورية عن 40 عاماً ، لكن أرغمت اللجنة القانونية في المجلس على تعديل تلك المادة خلال دقائق لكي تتناسب مع عمر بشار ، ووافق مجلس الشعب بالإجماع على تنصيبه رئيساً للجمهورية في 10 تموز 2000 .
وفي بداية عهد بشار أظهر بعض الانفراج في مجال الحريات كما هي عادة الأنظمة العسكرية والدكتاتورية ، وسميت تلك الفترة الوجيزة "ربيع دمشق" فقد سمح خلالها بظهور عدد من المنتديات السياسية ( أشهرها منتدى جمال الأتاسي ) وحصل بعض الانفتاح على الصعيد الاقتصادي في البلاد ، فسمح لأول مرة بفتح فروع للمصارف الأجنبية ، وسُمح للمواطنين بفتح حسابات بالعملات الأجنبية ، وترافق هذا الانفتاح مع تحسن نسبي في وضع المعيشة للمواطن العادي ، لكن سرعان ما انقلب الحال من جديد لتعيد سيرة الولد الطائش سيرة الوالد الهالك ، فقد ظل بشار يضيق على المواطنين معاشهم وحرياتهم ، ويقمع الحركات المعارضة بشدة ، حتى ضاق الشعب ولم يعد يحتمل الصبر ، فانطلق في شهر آذار عام 2011 بانتفاضة شعبية سلمية عارمة في طول البلاد وعرضها ، تطالب ببعض الإصلاحات السياسية والاجتماعية ، لكن بشار واجهها بالحديد والنار ، ولسان حاله يقول : أنا أو أحرق البلد ! فقتل الآلاف ، واعتقل الآلاف وعرضهم لأبشع أشكال التعذيب والتصفية الجسدية ، وبهذا الرد الإجرامي من بشار تفاقمت الأزمة من المطالبة بالإصلاح إلى المطالبة باسقاط النظام ، ومن مطاهرات سلمية إلى عمل مسلح ، فانشق عدد كبير من ضباط الجيش وعناصره والتحقوا بنتفاضة الشعب ، واستخدم بشار لإخماد الانتفاضة كافة أنواع الأسلحة حتى المحرمة منها كالأسلحة الكيميائية ونحوها ، ما أسفر عن آلاف القتلى والجرحى وملايين المهجرين واللاجئين ، وتدمير البنية التحتية في طول البلاد وعرضها ، ولم تمنع كل هذه الجرائم التي ارتكبها بشار أن يأمر بإجراء انتخابات رئاسية في عام 2014 ، وأعلن حصوله على غالبية كاسحة كالعادة ، ونصب نفسه رئيساً للمرة الثالثة ، ولسان حاله يقول : أنا ربكم الأعلى .
وبعد ...
فإن سورية على مدار قرن كامل وهي تعيش على صفيح ساخن ، فلم تعرف الاستقرار أو راحة البال طوال هذه السنوات العجاف ، وإذا كان الأعداء قد خططوا لتعيش سورية قرناً كاملاً حصاده مرّ فإن النخب السياسية السورية تحمل المسؤولية الأكبر ولن يغفر لها التاريخ أنها شاركت ــ عن وعي أو غير وعي ــ بهذا الحصاد ، فقد ظلت هذه النخب تترفع عن الشعب الذي يعتبر هو المعني أساساً بأي عمل سياسي أو اجتماعي ، ولم تكتف تلك النخبة بالإقصاء وإنما شاركت بقمع هذا الشعب بشتى الوسائل ، وانتهكت حقوقه ومنعته من الحرية ، واستهترت بحق المواطنة ، ومنعته من المشاركة بالشأن العام ، تحت تهديد قانون الطوارئ الذي جعلته سيفاً مسلطاً عليه ، ما جعل البلاد تعاني من التخلف والفقر وتفشي كل أشكال الفساد في المؤسسات الرسمية المدنية والعسكرية ، وجاءت عائلة "الأسد" لتكمل هذا المسلسل الكارثي بزرع بذور الطائفية المقيتة في المجتمع مما فجر حرباً أهلية لم تبق ولم تذر لم تزل مستعرة بصورة يمكن أن تأتي على ما تبقى من الوطن ، ويبدو أن هذا الوضع سوف يتفاقم بعد أن وصل الأمور إلى حالة شائك شديدة التعقيد ، يمكن أن ينتهي بدولة فاشلة يقودها زعماء ميليشيات يبدو أنها عزمت على تفجير المنطقة بأسرها ، لاسيما وأن المجتمع الدولي يقف مكتفياً بالفرجة على المشهد وكأنه قد تواطأ عن سبق تصميم وترصد أن يحرق المنطقة ليعيد رسمها من جديد كما صرح كثير من قادة الغرب والشرق ، ونحن بطبيعة الحال لم نتوقع من الأعداء غير هذا الموقف الشائن ، لكن الغريب أن تقف معظم الأنظمة العربية موقف المتفرج نفسه وكأنها تعتقد أن المأساة لا تعنيها ، وأن الكارثة لن تطالها ، ناسياً ــ عن وعي أو تواطؤ ــ حكاية الثور الأبيض !
د.أحمد محمد كنعان
Kanaan.am@hotmail.com
 
 



(1)  انظر تفاصيل هذه الرحلة الشيقة في كتابنا ( ذاكرة القرن العشرين ) دار النفائس ، بيروت 2000 .
(2)  الدراما : المسرحية التي تنطوي على تداخل وتناقض في الأحداث .