الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سورية بين الدب والحمار

سورية بين الدب والحمار

19.01.2015
عمر قدور



الحياة
الاحد 18-1-2015
يريد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الإيحاء بأن بلاده أمسكت نهائياً بالملف السوري، إذ يحذّر المعارضة السورية بفقدانها مواقعها في مجمل العملية التفاوضية إذا امتنعت عن حضور لقاء موسكو. وهو تحذير من المرجح ألا يكتسب أدنى صدقية لولا تبرع جون كيري وزير الخارجية الأميركي، في اليوم نفسه، بتصريح يؤيد فيه المساعي الروسية (لجمع الأطراف السورية في محادثات سلام). في الواقع، كانت الخطط الروسية قريبة جداً من الانهيار، فأطراف من المعارضة السورية، بما فيها تلك التي تربطها بموسكو علاقة جيدة، أعلنت تحفظات قوية على مجمل الخطة، وأيضاً على الجوانب الإجرائية فيها، بخاصة دعوة شخصيات موالية للنظام واحتسابها على المعارضة.
وإذا كان مفهوماً منذ البداية ألا تنطلق المبادرة الروسية من دون موافقة أميركية، فإن تبرع كيري بإنقاذها يؤشر إلى الإسناد الخلفي الذي تقدمه إدارته، ويذكّر بولعها بما يدعى سياسة اللعب من الخلف، أي أننا على الأرجح أمام مبادرة لا تقدّم فيها الإدارة تنازلات علنية في الشأن السوري، لكنها تضغط مواربةً على المعارضة لتقوم هي بتقديم التنازلات المطلوبة تزامناً مع إقصاء مجموعة "أصدقاء سورية" التي أطاحت الإدارة فاعليتها على مراحل، وصولاً إلى إنهاء دورها الإنساني. في الوقت نفسه، أطاحت الإدارة ائتلافَ المعارضة، الذي سبق أن نال اعترافاً تمثيلياً منها ومن دول أخرى فاعلة في الملف السوري، وبذلك مهدت الطريق للقوى التي لا تشترط رحيل الأسد في تسوية سياسية مأمولة.
غير أن دعم المبادرة الروسية لا يعني تبنيها بالمطلق. فسياسة اللاعب الخلفي تحتاط من مسؤوليتها عن الفشل، وقد تفسح في المجال أمام الآخرين ليثبتوا فشلهم. هكذا، على سبيل المثل، لا تظهر الإدارة مسؤولة عن فشل مجموعة أصدقاء سورية، على رغم فرملتها المندفعين فيها، ولا تظهر مسؤولة عن بؤس المعارضة على رغم تخليها عن دعمها وتنصلها من الكثير من الوعود. بل، حتى لا تظهر مسؤولة عن الفشل الإيراني والروسي في سورية، فهي قد أتاحت عملياً لحليفي النظام تقديم أقوى أنواع الدعم، وهما من فشل في إنقاذ النظام حتى الآن.
إذاً، من المرجح للإدارة الأميركية الاحتفاظ بتوقعات منخفضة من لقاء موسكو المقبل، وإذا لم يكن النجاح ممكناً فلن يضيرها الفشل بشيء، ولا يُستبعد أن تعمد إلى إفشاله حين تقتضي سياستها ذلك. الأولوية الآن في السياسة الأميركية هي محاربة "داعش"، ولا مانع من اتفاق المعارضة مع نظام الأسد لعزل المتطرفين ما دام ذلك يصب في أولويتها. تنحية الأسد لم تكن لها الأولوية يوماً، مع أن الإدارة تحبّذ حلاً من دونه، لكنها طوال السنوات الخمس الماضية لم تضغط من أجل تنحيه. ما تسمّى عقدة الأسد ربما قد تكون وجدت طريقها إلى الحل، حيث لا تمانع الإدارة في بقائه مجرداً من بعض الصلاحيات التنفيذية، بينما "الشريك" الروسي يعمل على منح المعارضة حصة تنفيذية صغيرة خارج منظومتي الجيش والمخابرات تحديداً.
اتفاق الطرفين يجرى تظهيره على أرضية مكافحة الإرهاب، وليس إطلاقاً على أرضية الحقوق المشروعة للسوريين. الاتفاق مبني على أن أجهزة الجيش والمخابرات الحالية هي وحدها من يستطيع مكافحة الإرهاب، ومن دون تغيير حقيقي في تلك الأجهزة. التشكيك الدائم في قدرة المعارضة السورية على تسلم هذا الملف يعني القول بأحقية نظام الأسد به من جهة الروس، أما المخابرات الأميركية فقد اختبرت سابقاً التعاون الجيد الذي أبداه النظام إثر أحداث أيلول (سبتمبر)، وعلى رغم اعتراضها على ازدواجيته في ما يخص مكافحة الإرهاب لم تعلن على نحو حاسم أنه شريك للإرهاب، باستثناء تصنيفه القديم على لائحة وزارة الخارجية. ثم، إن فشل المبادرة الروسية قد لا يزعج الكثيرين. فالروس أنفسهم لم يكونوا إلى وقت قريب من دعاة الحل، وإذا لم يتمكنوا من فرض رؤيتهم في المفاوضات فلن يتأسفوا على انهيارها. الحليف الإيراني ليس مستعجلاً الحل، على الأقل لا يريده الآن وبمعزل عن مفاوضات الملف النووي. النظام السوري، كشأنه منذ حوالى خمس سنوات، لا يمانع في عملية غير جادة تمنحه مزيداً من المماطلة والوقت. في الجانب الأخير، قد يلتقي النظام والإدارة الأميركية التي لم تمانع في منح النظام مهلة تلو الأخرى، لا محبة به وإنما لغياب سياسة أميركية قوية واضحة إزاء الملف السوري.
سورية، بخلاف ملفات أخرى شائكة، تبدو كأنها من مخلفات الحرب الباردة، حيث لجأت القوتان الكبريان إلى احتكار ملفها بعيداً من القوى الدولية والإقليمية الأخرى، ومنذ اتفاق "جنيف - 1" بينهما تنازلت الإدارة الأميركية لنظيرتها الروسية عن أوراق كثيرة، منها التفسير الروسي للاتفاق. ذلك يعيد إلى الأذهان عهد القطبين من جانبه الأكثر سوءاً، حيث لم يكن الاتفاق بينهما خارج القضايا الاستراتيجية الكبرى إلا تنازلاً عن النفوذ في إحدى الدول الصغيرة من أحدهما للآخر. مفاوضات موسكو قد تشبه عربة يجرها الدب الروسي ويدفعها الحمار الأميركي، وربما يكون ضرورياً التذكير بأن الديموقراطيين هم تقليدياً أقلّ انخراطاً في شؤون المنطقة العربية، وأقل حماسة للتغيير فيها، من نظرائهم الجمهوريين. وإذا كانت سياسة الديموقراطيين تميل تقليدياً إلى حقوق الفئات الأدنى اقتصادياً واجتماعياً في الولايات المتحدة فهي لا تُظهر الاهتمام نفسه تجاه الفئات أو الشعوب المضطهدة خارج أميركا، بل إن الديموقراطي أندرو جاكسون الذي كان أول رئيس يستخدم الحمار كرمز للتقرب من الطبقات الأدنى، هو ذاته الذي وقع على قانون ترحيل الهنود الحمر إلى الغرب الأميركي بالقوة.
سورية ليست أوكرانيا، بالنسبة إلى أميركا وإلى روسيا، ما يجمع الطرفين هنا عدم امتلاك سياسة فعالة. الروس، ما عدا تفضيلهم بقاء النظام الحالي بكل مساوئه، لم يتقدموا خطوة إلى الأمام بدعوتهم شخصيات يريدون فرض بعضها على المعارضة، وأخيراً يريدون فعل ذلك تحت تهديدات لافروف. أما إدارة أوباما فلسان حالها يشبه ما قاله إسحق رابين يوماً ما، عندما تمنى أن ينام ويفيق فيرى قطاع غزة قد غرق في البحر. المفارقة أن غياب سياسة أميركية فعالة هو ما يدفع موسكو إلى الصدارة، وهو أيضاً بسلبيته التامة ما ينذر بفشلها.