الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سورية و"الربيع العربي": تفكير في الضرورة والإمكان

سورية و"الربيع العربي": تفكير في الضرورة والإمكان

18.09.2016
يوسف فخر الدين


الحياة
السبت 17/9/2016
لم يعد التشاؤم حول مستقبل المنطقة ومآلاتها حكراً على مثقّفين تنبؤيّين يُنظر إليهم كسوداويّين غالباً. فبعد أن تحوّل الربيع المبشِّر إلى خريفٍ قاتمٍ، بسبب انتهاج السلطات المثار عليها منهج التدمير، ونتيجة خطايا المعارضات، عمَّ الإحباط جنبات المنطقة، من دون أن يكون كافياً وحده لوقف الحرب، وإعلان انتصار الطغاة الذين أشعلوها لمواجهة "الربيع العربي"، من خلال استخدامهم العنف، وإطلاقهم الجهاديّين، وإثارتهم التشاحنات الأهليّة، استناداً إلى مقاربتهم السياسيَّة القائمة على أنَّ الحكم هو إرهابُ المحكومين. فما زالت الأيديولوجيّات الخلاصيّة لدينا تشكّل عاملاً مستقلاً قادراً، إن توافرت له ظروفٌ مساعدةٌ، على إضعاف أثر - بحدود، وإلى حين - العوامل الأخرى ودفع الواقع باتجاهاتٍ غير متوقعةٍ، فنحن نعيش حيث تحوّلت معركةٌ على السلطة قبل ما ينيف على 1400 عام إلى مذاهب متناحرةٍ تُغذي حروباً راهنةً، وتستبعد عن نظر كثر من المتورطين فيها مسبباتها الآنيّة. كما أنَّ انتصار الطغاة يستلزم في حاضرنا تواطؤ الولايات المتّحدة التي تعلن أنّها لن تتمّه من دون تنفيذ شروطها.
وإلى حين، نشهد رغبةً أميركيّةً في حصر الحرب الجارية في نطاق الجهاديّين، بعد أن استثمرتها في نطاقاتٍ أخرى، لإنهاك أطرافها، بينما تسعى الى تكريس حياةٍ شبه اعتياديّةٍ في المساحات/النطاقات الأخرى تتيح المجال للتسويات. وهو ما يعني نقل الحرب من الاستثناء إلى الاعتياد.
وإذ تمانع سلطة الأسد هذا التوجّه إصراراً منها على نهجها للاستثناء، بغية إعادة تفويضها بسورية وشعبها، وتمانعه الجهاديّة دفاعاً عن النفس على أمل أن تنجح بجعل الاستثناء فضاءً لتكريس سطوتها، فإننا نعتقد أنَّ كسر حلقة الاستثناء وضعٌ يستلزم التعامل معه من جانب الوطنيّين الديموقراطيّين عبر إطلاق أفكارٍ جديدةٍ عن واقعنا ومستقبلنا، الأمر الذي يكتسب أهميته من أسبابٍ عمليَّةٍ نحاول في عجالةٍ معالجة بعضها.
ينطلق التفكيرُ الأميركيُّ بالناس من المصلحة والقانون، فالولايات المتّحدة الأميركيّة، بخلاف أوروبا التنويريّة، لم تنشغل يوماً بكليتها بالفلسفة، بل إنّها حوّلت آليّات إدارة الحياة اليوميّة إلى ما يشبه الدين الجماعيّ المنضبط بالقوانين، مع هامشٍ ضعيفٍ لنقل ما فعلت إلى مصاف الفلسفة. وحتى أوروبا، التي سبق لها أن غرقت حتى أذنيها في الفلسفة، نجدها حاليّاً تعيش زمن نهاية الفلسفة (نقول ذلك من دون أن نجزم بمآلات هذه الحال). وإذ يعني هذا في جانب منه توطن ما سبق وطرحته الفلسفة، فإنه في جانبٍ آخر يعني تقدّم الاهتمام بالقانون، الضابط لإيقاع العيش في حدود رفاهةٍ أعلى من باقي البشريّة، وبآليّات إنتاجه، على الاهتمامات الفلسفيّة التي باتت أمديتها - على ما نقدّر - مرهقة لهم، وهو ما أدّى الى تغيّرٍ في الموضوعات النظريَّة للقوى السياسيّة المنقسمة يساراً ويميناً يصعب على من اطلعنا على رأيه من اليسار في بلادنا إدراكه، وإن فعل بعضه يصعب عليه تقبّل أنّ موضوعات تفكير اليسار هي القوانين، وما تتضمّن من حقوق، وليس التفرغ لليوتوبيا وحلّ معضلات "الحقّ" في صراعات الماضي (وهو ما حول هذا اليسار إلى دين). ونجد أنّه نتيجة تلاقي صعوبة الفهم هذه مع انقسام على اليوتوبيا، بين راغب في التحرر منها وباحث عما يبرّرها، نشهد في منطقتنا اندفاعاتٍ فرديّةً من اليسار باتجاه يمينٍ نكوصيٍّ، وذلك إمّا من طريق التماهي مع الدينيّ الطائفيّ الخلاصيّ، المستخدم لصرخات العداء تجاه الولايات المتّحدة في سياق تفاوضه معها لقبوله، أو إلى "ديموقراطيّةٍ نخبويّةٍ"، خلاصيّة فرديّةٍ، تزدري الجمهور، وحقوقه، ومشاركته السياسيَّة، وتركِّز اهتمامها على التماهي مع اليمين الأميركيّ.
يبقى أن نقول إنّ كلتا الحالتين (الولايات المتّحدة وأوروبا اليوم) ما كان يمكن تحقّقهما من دون تحقّق الدولة، والتي يعيشها المجتمع في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، وهي التي تضمن مستوى من العيش يصبح الحفاظ عليه هو الهمُّ الشاغل للمجتمع عبر المشاركة السياسيَّة.
وإذ جرت مقاربة التناقض بين المسار الغربيِّ ومسار منطقتنا من خلال الحديث عن الاختلاف بين الثقافات الماديّة والأخرى الروحيّة (وهو ما نوافق عليه إن عنى أنّه تمت لدينا مأسسة الأيديولوجيا الدينيّة بالشراكة مع السلطات، وإن في نطاق التنافس بينها أحياناً، وإضعاف الدولة الأمة إن وجدت وفي ظلِّ غيابها غالباً)، فإن العولمة لم تعد تحتمل وجود عالمين منقسمين ببرزخٍ يكبح ما يرشح منه، وهي تعمل على استعادة آليّة الصدمات الحضاريّة التي جرت في عصر الاستعمار الأوروبيّ لنا، وإن كان لمساحةٍ أوسع من مجتمعاتنا، وبديناميّات غير مسبوقةٍ، منها ثورة الاتصالات والمعلومات، وبعضها متوحش (احتلال العراق، أو جرائم سلطة الأسد). ويجري هذا بغضِّ النظر عن مدى وعي الفاعلين السياسيّين بتفاصيله، بل بما يعاكس هذا الوعي أحياناً، فإن سيطرت على صناع القرار الأميركيّين، إثر التجربة الأفغانيّة والعراقيّة، رغبةٌ بترك مهمة "الدمقرطة" المباشرة الإرادية، الأثيرة عند المحافظين الجدد الذين خلفوهم، فإن الوقائع على الأرض تبيّن أنّ أيَّ مساحةٍ ينشأ فيها ما يشبه الفراغ تندفع إليها قوى ظلاميّةٌ (بفاعليّتها الذاتيّة، وبدفعٍ من السلطات الأمنيّة في المنطقة، والتناحر المذهبيّ المشار إليه)، يتجاوز فعلها تدمير ما بين يديها إلى جذب مناطق التوتر في العالم، بما فيه الغرب، ودفعها الى الانفجار، كونها ولدت من ردِّ فعلٍ على الصدمة الحضاريّة إبّان عهد الاستعمار الأوروبيّ، واستقرّت كردِّ فعلٍ على العولمة.
ولكون آليات العولمة أقوى بما لا يقارن من عوامل "المقاومة المحافظة" لها في مجتمعاتنا، حتى لو اعتمدت الأخيرة على "محور الممانعة"، لأنّ الصراع في سورية وضع قطاعاً واسعاً منها في مواجهةٍ مع هذا المحور تحديداً، ما أضعفها وأفقد "الممانعة" أداةً لا غنى لها عنها، وهو ما تستثمر فيه الإدارة الأميركيّة - أصبح تساوقنا مع تقديم الجمهوريَّة وآليّاتها وقوانينها على الأيديولوجيا، بل قل طرحنا أيديولوجيا تقدّمها على ما عداها، ممكناً بعد أن كان ضرورةً. وبتلاقي الضرورة مع الإمكان يصبح وعينا لهما حاسماً للخروج من الاستعصاء الراهن وتقدّمنا.
وأصبح من الممكن أيضاً، وفقاً للتجربة التي نعيش فصولها، البرهنة على أنَّ إنتاج "أيديولوجيا الدولة والقانون" ضرورةٌ مفيدةٌ لحالتنا، حيث أدّى تقدّم الأيديولوجيا الدينيّة إلى استدعاء كلِّ صنوف التشظي الأيديولوجيّ من الماضي ليضاف، ويتفاعل، من موقع المهيمن، مع عوامل التشظي الراهنة التي تستثيرها سلطةُ الأسد ومعارضوها، في شكلٍ ممنهجٍ و/أو كأثرٍ لخطابهما وسلوكهما. ما يعني وضوح أهمية تقديم القانون، وروحه، وأفكاره المؤسّسة، محلّ تركيز الاهتمام كأولويّةٍ على حلِّ ما لا يحلّ - في الأفق المنظور - من قضايا دينيّة. من دون أن نعتبر ذلك دعوةً للتقاعس عن الإصلاح الدينيّ، بل على العكس نعتقد أنّه منهجٌ مناسبٌ لفعل ذلك.
إلا أنَّ هذه العمليّة لا تكون قدريّةً تقدميّةً (والتقدميّة قيمة إيجابيّة، نفهمها حياةً أفضل للناس) بالضرورة، حيث أنَّ دفعَ المجتمعات باتجاه مدن الصفيح على هامش حضارة الرَّفاهة، وتسويرها بالأسلاك الشائكة، وبأسوار الفصل العنصريِّ (كما يحصل في فلسطين، وبين تركيا وسورية، والجدار الأمني المشترك الجزائري والتونسي على حدود ليبيا)، أمرٌ سبق وحصل حيث استطاعت نخبٌ نهّابةٌ أن تبعد العدالة الاجتماعيّة عن نطاق الأفكار المؤسّسة للقانون، في بلدان ديكتاتوريّةٍ أو بلدان كان تحقّق الديموقراطية فيها شديد اليمينيّة. وهو المصير الذي لا يمكن تجنّبه إلا من خلال دورٍ فاعلٍ من نمطٍ جديد، جمهوريٍّ ديموقراطيٍّ، يصيغ ويقدّم أيديولوجيا "الدولة والقانون" على أسس: العدالة، والمساواة، والمشاركة السياسيَّة، في مسعاه للاندماج في العالم من مدخل فوائده للدول والمجتمعات التي يمثّلها كأولويّةٍ على فوائد الدول والمجتمعات الأخرى وليس بالتعارض معها.