الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سورية في ذمة الله

سورية في ذمة الله

20.03.2016
سلمان مصالحة


الحياة
السبت 19/3/2016
ربّما آن الأوان، بعد خمسة أعوام على هذه الحرب التي تدور رحاها في ما يسمّى بلغة السياسة وحتى هذه اللحظة الدولة السورية، للنظر في المرآة بعيون مجرّدة من لغة البلاغة العربية. خمسة أعوام محمّلة بالقتل والتدمير والتهجير في كلّ بقعة من بقاع هذا "القطر"، كما نهجت لغة البعث تسميته. كلّ هذا الخراب الذي أصاب البشر والحجر في هذا البلد خراب ليس فقط للتمدّن السوري، بل خراب لهذه "الهويّة" السورية التي أُشيعت لعشرات السنين بعد جلاء الاستعمار. كما يسعنا القول إنّه خراب أبعد من ذلك بكثير: إنّه يتخطّى هذه الحدود الضيّقة ناخراً في الهويّة "العربيّة" في الدائرة الأوسع.
الاستبداد وحده لا يكفي لتفسير ما جرى ويجري على الساحة العربية. الاستبداد يشكّل فقط واجهة واحدة من واجهات الحضارة العربية منذ القدم. وإن لم نبحث عن جذور هذا الاستبداد فلن نصل إلى سواء السبيل. فعندما يهدم البلاد على رؤوس العباد، فإنّه بهذه الجرائم يكشف عن حقيقته وعن جوهره المتخفّي خلف أقنعة قاتمة. إنّه يشطب ليس بجرّة قلم، بل ببرميل متفجّر، عقوداً من الدجل الذي أدمن عليه شعاراً مُقفّى عن "الأمّة الواحدة والرسالة الخالدة".
وعندما يدفع "حزب الله" بجنوده إلى ساحات الاقتتال في سورية، أو يتحدّث عن تقديم العون في أماكن بعيدة في جنوب الجزيرة العربية كاليمن مثلاً، فإنّ ذلك يعني، بين ما يعنيه، إلغاءً لكلّ الحدود المصطنعة لهذه الدول المصطنعة، كما يعني أيضاً أنّ هذه الدول ليست بذات بال من منظوره وأنّ الولاءات الأهمّ متشكّلة ونابعة من ينابيع لا علاقة لها لا بالنّسب إلى "العرب" ولا إلى "العروبة"، بل هي مرتبطة ب "العصب" الدّيني الطائفي، ليس إلاّ.
ومن الجهة الأخرى عندما تتهاوى حدود هذه الدول المصطنعة ويتقاطر الدواعش وأشباههم من كلّ حدب وصوب محمّلين بأيديولوجيّات برّيّة مُغرقة في تخلفها للفتك بمن يعتبرونهم "كفّاراً" وارتكاب تطهيرات عرقية، فمعنى ذلك أيضاً أنّ الاستبداد ليس هو المشكلة، بل ثمّة ما هو أبعد من ذلك بكثير. من هنا، لا يمكننا أن نفاضل بين استبداد وآخر. فالاستبداد هو الشرّ بعينه، أجاء من جهة اليمين أو من جهة اليسار. الاستبداد هو الشرّ بعينه أصدر عن نظام أم صدر عن معارضة.
وهكذا وصلت الحال السورية، مثلما هي العراقية وغيرها، إلى ما هي عليه الآن. جردة الحساب الحالية تفيد بأنّ هنالك نصف مليون من القتلى، وربمّا مليون أو أكثر من الجرحى، وأكثر من عشرة ملايين لاجئ ومهجّر من مسقط رأسه، ناهيك عن الخراب الذي أصاب المدن على طول البلد وعرضه. فهل يمكن أن تعود الحال إلى ما كانت عليه؟
التاريخ، قديمه وحديثه، أكان عربيّاً أو أعجميّاً، يعلّمنا أنّ الحروب الطاحنة ترسم حدوداً جديدة، كما تتشكّل نتيجتها كيانات جديدة تنبني على هويّات هي في نهاية المطاف عصبيّات إثنيّة وطائفيّة قابعة في الطبع البشري، وهي أكثر تجذّراً فيه من التطبّع بشعار سياسي لا يمتّ للحقيقة بشيء. الوضع في الحال العربية أشدّ عواصة لأنّ محاولات "التطبُّع" هذه كانت مجرّد شعار "وطنيّ" ظاهريّاً، إلاّ إنّه كان يُخفي حقيقة مرّة هي الاستحواذ القبلي والطائفي على مقدرات البلاد والعباد.
التاريخ يعلّمنا أيضاً أنّ ملايين البشر الذين يتمّ تهجيرهم عنوة خلال الحروب، "الأهلية" وغير الأهلية، لا يعودون إلى الأماكن التي هجّروا منها. هذا ما حصل مع ملايين المهجّرين خلال الحربين العالميّتين، ومع ملايين المهجّرين خلال الحروب الأهلية في البلقان ويوغوسلافيا. وهذا أيضاً ما هو حاصل حتّى اللحظة مع هذا الشرق المأزوم بمنارته المهزوم بحضارته.
ولأنّ الجراح في هذا المعمار البلدي، الجسدي والعاطفي، قد بلغت هذا القدر من الهول فهي لا يمكن أن تندمل بسرعة، بل ستحتاج إلى عقود طويلة، وقد تطول لتبلغ قروناً. فما كان كان، قد ولّى وانقضى ولن يعود إلى سابق عهده. ولهذا يمكننا القول إنّ هذه "السورية" التي عرفناها انقرضت وأضحت رميماً. ولا يسعنا سوى أن ندعو لأهلها، على اختلاف مللهم ونحلهم، والمشتّتين في جهات الأرض الصبر والسلوان.
كلّ من يعتقد أنّه يمكن للعجلات السورية أن تدور للوراء وكأنّ شيئاً لم يكن في كلّ هذه الأعوام هو مُخطئ في تقديراته، وأنكى من ذلك وأخطر أنّه يبيع الناس الهائمين على وجوههم بعيداً من الأوطان أوهاماً بلاغية فقدت صلاحيتها، مُبقياً ايّاهم في مخيّمات اللجوء على مرّ الأزمان. كلّ من يبحث عن حلّ عليه أن يبدأ الانطلاق من هذه النقطة، عليه أن يتخلّى عن أوهام الماضي الذي لن يعود، فهذه هي عجلة التاريخ وهكذا سارت عجلاته ودارت على مرّ التاريخ. ومن يعِش يرَ.