الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سورية ‘كلنا أمام قدر صامت.. ويلنا إذا نطق’

سورية ‘كلنا أمام قدر صامت.. ويلنا إذا نطق’

14.11.2013
أحمد فيصل الحطاب


القدس العربي
الاربعاء 13/11/2013
يُعقد أم لا يُعقد؟ يعقد أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي أم يؤجل إلى بداية العام المقبل، أم لا يُعقد ربما أبداً؟ هل يتوجب على قوى الثورة والمعارضة السورية، قوى المقاومة المدنية والعسكرية، حضور هذا المؤتمر، أم مقاطعته؟ الكل مشغول بهذه الأسئلة وغيرها كثير حول مؤتمر جنيف 2.. والكلُّ يقدم اجتهادات تنسحب على مسافة واسعة تبدأ من نقطة ضرورة المصالحه مع النظام القاتل باسم التسوية التاريخية، لتنتهي بضرورة إدارة الظهر كلياً للنظام وللمجتمع الدولي وللعالم برمته، والاعتماد على الذات حتى تحقيق أهداف الشعب السوري في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ونسي الكل للحظة، بمن فيهم كاتب هذه السطور، أن القرار ليس في جنيف، إنما هو إذا صح التعبير في لوزان، إنه في مكان آخر، ومؤتمر جنيف هذا إذا تم يوماً لن يكون سوى محفل لتقريب القرار إلى الأفهام.
يستطيع النظام أن يتخذ هذا القرار أو ذاك، وتستطيع المعارضة أن تتخذ هذه المبادرة او تلك، ويستطيع الروس صياغة هذه المعادلة أو تلك، وبإمكان الأمريكان بلورة هذه الخطة أو تلك، لكن القرار النهائي يبقى في يد من سأطلق عليه مجازاً اسم ‘المعلم الأعظم’، والمعلم الأعظم هذا ليس أسطورة، كما يظن البعض، بل هو حقيقة سياسية اقتصادية عالمية تتمتع بقدرات أسطورية.
إنها قوة مجهولةٌ، معلومة كشفت الكثير من إمكاناتها في سياق المسألة السورية. وفي هذا السياق بالذات نبادر فوراً إلى محاولة الإجابة على السؤال الرئيسي المطروح الآن: بعد قرابة الثلاثة أعوام من المعاناة والدماء، سورية اليوم إلى أين؟
المراحل الثلاث والاحتمالات الثلاثة
إذا كان العقل في بعض تعريفاته، يقوم على الإصابة بالحدس، ومعرفة ما سيكون بما قد كان، فيمكن القول ان سورية مقبلة عموماً على مراحل ثلاث هي التعبير الواقعي عن احتمالات ثلاثة لها أرجحيةٌ شبه متساوية:
المرحلة الأولى وتتمثل باستمرار الوضع القائم (الستاتيكو) من الآن وحتى أواسط العام المقبل 2014، أي موعد نهاية تدمير الأسلحة الكيميائيه ونهاية ولاية رئيس النظام السوري الحالية. إنها مرحلة عنوانها، الاستنزاف والاستنزاف المعاكس للقوى المتواجهة سياسياً وفي الميدان، وبعبارة أخرى استمرار تدمير سورية، بنية تحتية وبنى فوقية، تاريخا وأرضاً وشعباً ووحدة وطنية. إن التقييم الذي توصل اليه العملاقان الروسي والأمريكي يتلخص في أن النظام عاجز عن هزيمة المعارضة بالضربة القاضية، كما أن المعارضة غير قادرة على هزيمة النظام بضربة واحدة، وبناء على هذا التقييم بنى الروس والأمريكان استراتيجيتهما في التعامل مع المسألة السورية، وتم التوصل بين الطرفين إلى معادلة فرضت نفسها بقوة على الأرض: لا لانتصار النظام.. ولا لهزيمة المعارضة، أو لا لهزيمة النظام.. ولا لانتصار المعارضة.
بعبارة أخرى استمرار الحرب والدموع والدماء، وهذه معادلة تبدو ظاهرياً أنها تتسم بالحياد ولكنها في الحقيقة والواقع هي منحازة للنظام، فمن الناحية الأخلاقية والواقعية والديمقراطية كان يجب أن تكون المعادلة: لا لانتصار النظام الفاشي.. نعم لانتصار الشعب السوري على طريق أهدافه في الحرية والكرامة، ربما يرد البعض هنا بالقول إن السياسة شيء… والأخلاق شيء آخر، وربما يكون أفضل رد على هذا مقولة شهيرة للجنرال ديغول: ‘ربما ليست هنالك أخلاق في السياسة.. ولكن ليست هنالك سياسة حقيقية ومجدية على المدى الطويل بدون أخلاق’. وغني عن البيان هنا أن هذه المرحلة من الاستنزاف السوري العميق هي في المحصلة هدية ‘المعلم الأعظم ‘ لدولة إسرائيل.
المرحلة الثانية: في شهر حزيران/ يونيو عام 2014 سوف يحل موعد مفصلي مهم، يتمثل بانتهاء ولاية رئيس النظام الحالي، هذا إذا لم تحصل من الآن وحتى ذلك التاريخ مفاجآت من العيار الثقيل: اغتيال، انقلاب، سقوط دمشق بيد الثوار على سبيل المثال. هذا الموعد سوف يشكل علامة فارقة بين زمنين، نقطة علام باللغة العسكرية، مؤشراً وكشافاً حقيقياً للمسار وربما للمصير السوري برمته.
من المحتمل أن يستمر ما يسمى بالمجتمع الدولي بالاكتفاء بإدارة الأزمة من الآن وحتى حلول ذلك التاريخ، ولكنه يومذاك سوف يجد نفسه أمام الاستحقاق الكبير وتقديم الجواب القاطع على السؤال: هل تترك الأزمة تستمر إلى ما شاء الله، أم يتم العمل على حسمها وحلها بطريقة واقعية عقلانية؟ فإذا كان لكل مشكلة سبب رئيسي وأسباب ثانوية، فمن الواضح أن السبب الرئيسي للأزمة السورية، للمشكلة العويصة يكمن في جوهر النظام المسلط على السوريين منذ أربعة وأربعين عاماً، وبالتالي فإن الحل لن يتم إلا برحيل هذا النظام برموزه وأركانه وممارساته، وطي صفحته مرة واحدة نهائياً وإلى الأبد، وفتح صفحة جديدة لسورية جديدة يسود فيها القانون والعدل والحرية والكرامة.
إن استمرار هذا النظام، وكل نظام يخرج من ضلعه الأيسر، كما أشباهه، يعني بكل بساطة استمرار المشكلة ودوام الأزمة واستمرار المذبحة. كما أن أي مصالحة أو سلام لا يمكن أن يقوم إلا على العدل، ومن هنا ضرورة المساءلة والمحاسبة، كي لا تتكرر الظواهر الإجرامية في المستقبل، ضمن مفهوم عدالة انتقالية شفافة، عدالة انتقالية وليس انتقامية.
ولعله من المفيد عند هذه النقطة، التذكير بأنه سيكون خطأً فادحاً ربما إجراء انتخابات في سورية آنذاك، لأن أياً من الظروف الموضوعية غير مهيأة ولا ناضجة لتنفيذ هذا الاستحقاق الوطني المهم. كيف يمكن أن تجري انتخابات نزيهة وشفافة في ظل نظام أدمن منذ عقود التزوير والتضليل، الترغيب والترهيب، كيف يمكن القيام بذلك تحت سماءٍ تمطر حديداً وناراً، وفوق أرض تسيل دموعاً ودماء؟ وملايين هائمة على وجهها في أربعة أركان الأرض؟ إن ذلك حتى لو توفرت بعض الضمانات الدولية يبدو أمراً شبه مستحيل.
الحل ليس في انتخابات، إنما في استفتاء سؤال واحد وجواب واحد بلا أو نعم؛ هل تؤيد استمرار النظام وبقاء رئيسه الحالي؟ أم تؤيد التغيير ورحيل النظام الحالي؟
إذا كان العرف في كل دول العالم المتحضر أنه عندما يحصل انقسام وطني واسع حول مسألة مهمة، يتم استفتاء الشعب في الأمر، كي يقول فيها كلمة الفصل، والتاريخ السياسي الحديث في العالم مليء بالأمثلة على ذلك: الاستفتاءات حول الاجهاض، الاستفتاء حول العقوبة القصوى للمجرمين، قانون الإعدام في الولايات المتحدة الأمريكية، الاستفتاءات حول حق تقرير المصير لبعض المقاطعات.. إلخ.
وعلى اعتبار أن المجتمع الدولي لا يقارب ما حدث في سورية على أنه ثورة شعب ضد نظام فاسد، وهذا تحريف بالطبع ويصور الأمر على أنه أزمة وطنية عميقة، انقسامٌ وطني حاد بين شرائح اجتماعية مؤيدة للنظــــــام وأخــرى معارضة له، فلماذا يا ترى لا يتم اللجوء إلى استفــــــتاء هذا الشعب لاعطاء رأيه، بطرح السؤال الرئيسي عليه: هل أنت مع بقاء النظام ورئيسه؟ أم مع التغيير؟ وفي ضوء الجواب بالسلب أو الإيجاب، يكون بعدها لكل حادث حديث. إن القوى المؤثرة في العالم، تعلم علم اليقين أن أغلبية الشعب السوري تريد الخلاص من هذا النظام الدكتاتوري القاتل. وإذا كانت جادة فعلاً في إيجاد الحل فعليها الاستجابة بطريقة سياسية لمطالب هذا الشعب وتأمين انتقال سلس وسلمي للسلطة من نظام فئوي دكتاتوري إلى نظام وطني ديمقراطي. وموعدنا جميعاً وموعدها أواسط العالم المقبل. أما إذا لم يتم ذلك في ذلك التاريخ فهنا سوف تشرع الأبواب على مصراعيها أمام المرحلة الثالثة أمام الاحتمال الثالث المريع.
المرحلة الثالثة: حرب المئة عام
إن من تابع حركة الأحداث في سورية، في انعطافاتها وتعرجاتها المتعددة منذ ثلاثة أعوام لاحظ ولا ريب، دخول عوامل غير سورية، وغير ثورية في حلبة الصراع. عوامل إثنية ومذهبية. والمثال الأبرز والأخطر على ذلك ظهور خط انقسام حاد مذهبي سني شيعي في سورية وخارج سورية. في العالمين العربي والإسلامي.
حزب الله، لواء أبو الفضل العباس، عصائب الحق الحوثيون من طرف وعلى الطرف المقابل القاعدة ودولة العراق والشام الإسلامية. وبين الطرفين حرب إعلامية، فقهية والأخطر اليوم حرب حقيقية ومواجهة مسلحة تسيل فيها الدماء مدرارا، ضمن مناخ عام من التجييش والاحتقان والعصبية العمياء. ويكفي اليوم أن تشعل شرارة هنا وشرارة هناك كي يشتعل الحقل كله، والحقل هذا يمتد من دمشق الشام حتى بلاد الأفغان، كل شيء جاهز ومهيأ موضوعياً للمذبحة الكبرى للحريق الكبير لما سميناه حرب المئة عام، في إشارة تاريخية إلى حرب المئة عام بين الفرنسيين والإنكليز، التي دامت في الحقيقة مئة وستة عشر عاماً على مدى القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وانتهت بدون انتصار حاسم لأي من الطرفين، وهنا يطرح السؤال المأساوي: هل تترك القوى العظمى، قوى الهيمنة والاستعمار والنفوذ، وفي مقدمتها اللوبي اليهودي العالمي المؤيد لإسرائيل هذه الفرصة تمر بدون استثمار، إنها فرصةٌ ذهبية لا بل ماسية، يمكن ألا تتكرر أبداً في المستقبل فهل يتركها أعداءالسوريين والعرب والمسلمين تمر هكذا مر السحاب.
من المسموح هنا لأي امرءٍ ملم بأبسط قواعد السياسة الدولية، أن يتشكك في الأمر، تلك إذن، بالنسبة للمستقبل هي المسألة. ولا يظنن أحدٌ أن هذا الأمر من باب الخيال الواسع والأوهام. من يقرأ بإمعان الوثيقة التاريخية التي سلمها في الخمسينات من القرن الماضي الصحافي الهندي ر. ك كارانجيا للزعيم الراحل جمال عبد الناصر، والتي نشرت بعنوان: ‘خنجر إسرائيل’، ومن قرأ الوثيقة التي نشرت في السبعينات تحت عنوان ‘الخطة الصهيونية للشرق الأوسط’ سوف يدرك أن الأمر ليس ضرباً في الرمل، أو قراءة فلكية في الفنجان إنه حقيقة، احتمالٌ مدروس قد يتحول إلى واقع كارثي. أضف إلى ذلك أننا إذا توقفنا بالتأمل والتحليل عند قوة اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، وهـــي منظمة من مجموعات ضغط متعددة، سنرى أنها تمارس نفوذاً وهيمنة واضحة في المجال الإعلامي والسياسي والاقتصادي وحتى على مستوى اتخاذ القرار على أعلى مستوى.
إن قوة اللوبي المؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة لم تعد تحتاج إلى دليل، فالسياسة الخارجية للإدارات الأمريكية المتعاقبة، جمهورية كانت أم ديمقراطية تقدم لنا كل يوم الدليل تلو الآخر على قوة مجموعات الضغط اللامتناهية هذه. نعوم تشومسكي المفكر اليهودي الأمريكي المعروف، وفي كتاب له بعنوان ‘قراصنة وأباطرة’ ينقل لنا هذه الشهادة عن مسؤول إسرائيلي سابق: ‘يهود أمريكا أكثر إسرائيلية من الإسرائيليين’ إن الكثيرين باتوا يدركون اليوم هذا الأمر بشكل جيد. ولكن الكثيرين ربما لا يدركون قوة اللوبي المؤيد لإسرائيل على الضفة الأخرى المقابلة، الاتحاد الروسي. قوة اللوبي المؤيد لإسرائيل هناك زادت أضعافاً مضاعفة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، حيث ظهر في مقدمة المسرح في روسيا عدد من أصحاب المليارات، مثل غودروكوفسكي ليونيد نيفزلينوآبرهاموفيتش، هذا إضافة للحزب الروسي المهيمن داخل إسرائيل بالذات، الذي يشكل نوعاً من الجسر الرابط بين المصالح الروسية والمصالح الإسرائيلية.
إذا لاحظنا قوى الضغط والنفوذ في الاتحاد الروسي والولايات المتحدة في كلٍ من موسكو وواشنطن عرابتي الحل السوري سوف ندرك جيداً دقة الأمر وخطورته.
والخلاصة اننا جميعاً أمام فخٍ تاريخي كبير لن يقتصر ضحاياه على السنة والشيعة، بل سيشمل الكل بلا استثناء ومن يترك نفسه من السنة والشيعة على السواء أو من محازبيهم يسقط في هذا الفخ فإنه رغم كل الدعاوى والفتاوى والشعارات الجوفاء، يكون ينفذ مخطط الأعداء. من الممكن أن ينتصر الشيعة على السنة أو السنة على الشيعة، لكن الخاسر الأكبر سيكون الإسلام وكذلك حركة التقدم لشعوب المنطقة. إننا نقرع أجراس الإنذار بكل قوة ونصرخ بملء صوتنا: حذارِ…حذارِ من السقوط الحر في أعماق الهاوية.
بلى نحن اليوم في سورية والعالمين العربي والإسلامي، وكما أنذر واحد من كبار رجالات العرب في القرن الفائت، ‘كلنا أمام قدرٍ صامت… ويلنا إذا نطق’.