الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سياسة «النأي بالنفس» وفيضان المُستنقع الأسدي

سياسة «النأي بالنفس» وفيضان المُستنقع الأسدي

06.05.2013
د.خالد الحروب

الشرق القطرية
الاثنين 6/5/2013
من ناحية نظرية بحتة وفي مواقف وقضايا سياسية كثيرة تبدو سياسة "النأي بالنفس" حكيمة ومُتصفة بالحصافة. وعندما تتعقد الجوانب وتتفاقم المخاطر المحتملة من أزمة سياسية ما فإن الحياد الذي تلتزمه بعض الدول والأطراف والمنظمات. خاصة في الجوار الجغرافي الأقرب. يكون مفهوما بل ومُحبذا. وعندما يكون الصراع المُحتدم أكبر بكثير من طاقة تحمل دول الجوار الصغيرة فإن "النأي بالنفس" يُصبح إستراتيجية دفاع وبقاء. الشرط الأولي والأهم لنجاح هذه الإستراتيجية هي وجود حد أدنى من العقلانية والبراجماتية السياسية عند الأطراف المتخاصمة بحيث تنأى هي الأخرى بنفسها عن أطراف "النأي بالنفس". لأن في ذلك تحقيق لمصلحة المتخاصمين. ذلك أن كلا منهم يقر بأن بقاء طرف ما على الحياد أفضل من انحيازه للخصم. لكن عندما ينعدم الرشد تماما عند أحد الأطراف المتخاصمين من خلال تصميمه على توريط الآخرين في الدم وتصدير الأزمة إليهم. أو عندما تفيض الأزمة عن حدودها الجغرافية ويشكل استمرارها تهديدا إستراتيجيا وأمنيا لأحد الأطراف المحايدة فإن إستراتيجية "النأي بالنفس" تصبح انتحارا سياسيا.
النظام الأسدي هدد كثيرا. وها هو الآن قيد تنفيذ تهديداته. بإغراق المنطقة في مستنقع من الفوضى والحرب والدم. كل دول الجوار سوف تدفع الثمن. ولن تهنأ دولة بالأمن طالما أمن العصابة الحاكمة في دمشق مُهدد. هذا هو جوهر إستراتيجية "أنا أو الدمار الإقليمي الشامل" التي يتبناها الأسد. معالم هذه الإستراتيجية وإعلاناتها تتكرر يوميا. إن على شكل تصريحات أو ممارسات وتعديات ومحاولات تصدير على الحدود التركية واللبنانية والأردنية. الإطار الأعم للإستراتيجية هو تحويل المعركة العادلة للثورة السورية المُنتفضة على نظام إقطاعي ومُستبد وفاسد إلى معركة "نضال إقليمي" يتورط فيها الجميع وتصبح مصلحة الكل مرهونة بالحفاظ على نظام الأسد وإجهاض الثورة. ليس هناك ذكاء خارق في اجتراح هذه الإستراتيجية إذ لولا انحياز روسيا بوتن المتوترة والباحثة عن دور في السياسة الدولية. ولولا انحياز "دولة الثورة الإسلامية" في إيران إلى جانب "مُستكبر دمشق" ضد "مستضعفي" سوريا كلهم لما كان هناك أدنى فرصة لاستمرار النظام في الحكم حتى هذه اللحظة.
توازن. أو بالأحرى. لا توازن القوى في المعركة على مستقبل سوريا يُشير إلى أنها ستطول. وإطالتها لا تصب وحسب في مصلحة النظام الأسدي. بل وتفاقم من منعكساتها على المنطقة خاصة دول "النأي بالنفس" في الجوار. وفي مقدمتها الأردن ولبنان. فهذان البلدان هما من يعاني الآن وبشكل مباشر من مخاطر فيضان المُستنقع الأسدي وهو المقصود والمُستهدف تماما من قبل النظام. مقارنة الوضع الراهن سواء داخل سوريا أو المنعكسات الحالية للأزمة على الأردن ولبنان بما كانت عليه الأمور في الوقت نفسه من السنة الماضية تدلل على المنحى الحاد والمُتدهور وزيادة المخاطر على البلدين. والأكثر قتامة في الصورة هو أن هذا المنحى ما زال حاد الانحدار بما ينبئ بحالة أسوأ بكثير بعد عام من الآن. فإذا كانت التحديات الإنسانية والأمنية والمعيشية التي يفرضها وجود مئات الألوف من اللاجئين في البلدين تستنزف قدرات الحكومات في البلدين. فلنا أن نتوقع الحال عندما تتفاقم هذه الأعداد. وهو الأمر المرشح حدوثه في ظل استعار المجازر التي يقوم بها النظام في كل أرجاء الوطن السوري.
فاتت الفرصة الذهبية في تأييد دول الجوار خاصة الأردن للثورة السورية في مرحلتها السلمية الأولى. وعندما كان الملك الأردني أول من تحدث وبجرأة عن ضرورة رحيل بشار الأسد وخضوعه لمنطق المطالبات الشعبية العارمة. ثم فاتت الفرصة الفضية اللاحقة بتأييد الثورة السورية التي أجبرت على التحول إلى مسلحة من قبل النظام. وعندما كان الجيش الحر وعلى ضعف إمكاناته هو العنوان الرئيسي للحركة المسلحة وقبل دخول جماعات التطرف والتعصب وبروز جبهة النصرة. ثم فقدان الثورة لوضوحها الأولي مع ازدياد الشحن الطائفي والثقافة القاعدية التي جاءت مع تلك الجماعات. كانت إمكانية تسليح الجيش الحر وتقويته وتوثيق هرميته مع المجلس الوطني السوري أولا ثم الائتلاف لاحقا ما زالت قائمة بحيث تقوم بنية سياسية - عسكرية موحدة تكون هي الناطق الرسمي باسم الثورة والشعب السوري. والطرف الأكثر فعالية من ناحية عسكرية.
تتحمل الولايات المتحدة والغرب المسؤولية الأكبر في التردي الذي آلت إليه أمور الشعب السوري وثورته وهي تواجه آلة الدمار الأسدي/الإيراني/الروسي. وهي مسؤولية تتمثل في وضع الخطوط الحمراء أمام تسليح الطرف الأهم في الثورة السورية. تلك الخطوط أتاحت لجبهة النصرة وغيرها أن تتمدد وتسلح نفسها وتعتمد على التدريب والتأهيل الذي يتمتع به أفرادها. وبالتالي تصدر جبهة القتال ضد النظام. لكن الدول العربية مجتمعة مع تركيا تتحمل مسؤولية لا تقل خطورة عن المسؤولية الأمريكية والغربية وتتمثل في أمرين: الأول هو الانصياع الكامل للأوامر الأمريكية بعدم تسليح المعارضة والوقوف عند النقطة التي ترسمها واشنطن ولا يتم تعديها. والثاني هو التمسك بسياسة "النأي بالنفس" عند بعض الدول العربية. خاصة دول الجوار كالأردن. رغم اتضاح مسار الأمور وفجاجة الإستراتيجية الأسدية في تصديرها الأزمة بلا تردد للجوار الإقليمي. كل ذلك صب وما زال يصب الحب في طاحونة النظام ويطيل من عمره. ويطيل بالتوازي من هول المجزرة التي يتعرض لها الشعب السوري.
والأمر الثاني هو التغافل عن أن حسابات العواصم الغربية خاصة واشنطن وبروكسل ومصالحها الحالية والمستقبلية والمحتملة في سوريا ومآلاتها تختلف عن حسابات ومصالح الدول العربية ومحددات صناعة القرار فيها. بوصلة صوغ المصلحة والسياسة الأمريكية والأوروبية إزاء سوريا هو "أمن إسرائيل". وهي البوصلة التي كانت قد حكمت تلك السياسة إزاء حكم عائلة الأسد. الأب والابن. طيلة العقود الأربعة الماضية. طالما كانت العائلة حارسة على أمن إسرائيل كان الغرب جاهزا لتقديم كل تنازل. بما في ذلك التغاضي عن ابتلاع دمشق للبنان كله لفترة مديدة من الزمن. على ذلك فإن مقدار التأييد للثورة السورية ينضبط على هذا المقياس: هل سوريا ما بعد الثورة تشكل تهديدا أكثر أم أقل على إسرائيل؟ أما الحسابات العربية فمن المُفترض أن تقودها بوصلة ثانية وهي تغول النفوذ الإيراني في قلب المنطقة العربية. أي نظام يرث النظام الأسدي سوف يكون أفضل للعرب. وأفضل لمواجهتهم مع إسرائيل.