الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سيبرنيتشا جديدة في سوريا

سيبرنيتشا جديدة في سوريا

12.10.2016
فايز الفايز


الشرق القطرية
الثلاثاء 11/10/2016
لم يكن مفاجئا ولا مستغربا أن تفُشل روسيا قرارا لمجلس الأمن يدين النظام السوري لارتكابه الفظائع في حربه التي يشنها بأبشع الأساليب ضد الشعب السوري في حلب وغيرها من المدن السورية التي تحولت إلى ركام ومقابر ، ذلك أن روسيا التي لا يرف لمسؤوليها رمش عند مشاهدتهم لصور الأطفال والنساء تحت ركام بيوتهم ، لا تهتم أصلا بالأعداد أو التصنيفات الوطنية و المرتزقة أو بحقوق الإنسان المدني ، بل هي تعتبر أن دعمها للنظام السوري هو مباراة شطرنج لا يمكن لها ان تخسرها حتى لو استمرت سنوات عديدة .
فإذا كان هناك دول ورؤساء عرب وفئات من شعبنا العربي لا يهتمون أطلاقا لكل ما يجري هناك من عمليات قتل وتهجير ممنهجين ذهب ضحيتهما ما يقارب عشرة ملايين سوري تشردوا في اصقاع العالم، بل إن صمتهم على جرائم النظام والمليشيات الطائفية والمشاركة الروسية الداعمة للعمليات الجوية والبرية والدعم اللوجستي والحربي الإيراني يكشف مدى حجم المأساة التي تعيشها الشعوب العربية المعرضة في أي وقت لذات العذاب والتنكيل والقتل لو ثار الشعب ضد الأنظمة ، ما يجعل الجميع مشاركا في مأساة الشعب العربي من خلال صمتهم على جرائم الحرب و عمليات التطهير الطائفي للعرب السنة في سوريا والعراق .
وهنا إذ تعود بِنا ذاكرة التاريخ إلى الحرب في البلقان ومذابح المسلمين في البوسنة والهرسك ، سنجد أن إرهاصات حرب البوسنة هي ذاتها ما يجري في سوريا ، فالمسلمون هناك رغم أنهم ينادون بهويتهم البلقانية والبوسنية وخروجهم من تحت عباءة الخلافة العثمانية لما يزيد على ثمانين عاما ، تم تقتيلهم وتشريدهم في عمليات جرائم إبادة بشعة ، فضحت المدنية الغربية والأوروبية ، وانتظرت كل الدول المنخرطة في القضية اليوغسلافية حتى وقعت المذابح الكبرى ضد المسلمين وجزء من الكروات ، وكان أبشعها مذبحة سبرينتشا التي قادها الجيش والمليشيات الصربية ضد المدنيين والنساء منهم والأطفال وحتى الحيوانات وعمليات الاغتصاب التي طالت ما يزيد على ستين الف امرأة وقتل فيها ثمانية آلاف مدني في غضون ساعات ، ثم بعد ذلك جاء الناتو لينظف القذارة .
لقد كانت حرب التطهير العرقي والديني التي وقعت منتصف التسعينات من القرن المنصرم ضد مسلمي أوروبا رغم أنهم غير أصوليين ، كانت واحدة من أبشع صور الانكشاف للنظام العلماني المتمدن المتوحش غير القابل للاندماج مع الآخر ، ولعبت فرنسا تحديدا الدور الكبير في التسويف والمماطلة وإتاحة الوقت للقوات الصربية للقيام بالعمليات العسكرية المتوحشة ضد سكان البوسنة والهرسك وكرواتيا المسيحية الأرثوذكسية ، وكانت غايتها فك ارتباط تلك المناطق والدول الصغيرة بألمانيا التي كانت هي الأخرى صاحبة مطامح ومصالح سياسية واقتصادية هناك ، ومع هذا لم يستطع العالم المتمدن أن يخفي وجهه البشع وأنيابه المدماه ، فلم تتحرك المنظمة العالمية الكبرى وهي هيئة الأمم المتحدة ولا مجلس الأمن لفعل أي شيء يمنع وقوع الكارثة .
وها هي حلب التي باتت صورة أكبر بشاعة وأكثر مأساوية من سبرينيشا ، وقبلها حمص وأدلب والغوطة الشرقية وغيرها من مدن سوريا ، ها هي تعيد الذاكرة السياسية إلى التاريخ القذر للسياسات العالمية التي تقودها مجموعة الدول الخمس المتحكمة بالمنظمة الأممية ومجلس الأمن ، فالفيتو الروسي رغم أنه لن يغير شيئا على أرض الواقع ورغم الإدانة للنظام السوري ، ولكنه فضح النوايا علنا ويمكن فهمه بوضوح ، بأن سوريا لم تعد دولة ذات سيادة ونظام حاكم وشعب يمكنه ان يختار من يشاء ، أكان رئيسهم الفاقد للشرعية والصلاحية أم أي بديل آخر ، فالقرار والخيار بيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ، وسوريا باتت ميدانا خلفيا ستجري على أرضها كل التسويات السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط ، ومن هناك يمكن للجميع التفاهم على تغيير وجه هذه الجغرافيا والديموغرافيا وإعادة رسم الخارطة الجيوسياسية للعالم العربي ، بحيث لن يكون للشعوب العربية ولا أنظمتهم أي تأثير يذكر في تحديد مستقبلهم السياسي والثقافي والاقتصادي .
عندما تدخلت الولايات المتحدة في حرب البوسنة وقاد الرئيس بيل كلنتون حلف شمال الأطلسي لضرب القوات الصربية متأخرا ، لم يكن ذلك انتصارا للمسلمين الذين زاد عدد قتلاهم هناك على ثلاثمائة ألف إنسان وعشرات الآلاف من النساء المغتصبات والأطفال المفقودين ، بل كان بناء على إعادة هيكلة العلاقات الأمريكية في شرق أوروبا ، وإزاحة فرنسا عن الساحة الجديدة لما تبقى من دول الاتحاد السوفييتي المنحل ، وكانت الإدارة الأمريكية قد أدركت أن ابتعادها عن تلك المنطقة سيترك المجال مفتوحا للمزيد من السيطرة الأوروبية وبدت ألمانيا مثالا لها على الدول الناشئة ، ولذلك كان تدخلا مصلحيًّا ، ووضع قدم لنفوذها في شرق أوروبا الجنوبي ، وهذا ما لم يحدث حتى الآن في سوريا ، فبدل واشنطن كانت موسكو ، ومحل كلينتون جاء ديمقراطي آخر هو أوباما، ولكن روسيا فازت بالرئيس بوتين العنيد الذي تجاوز عناده و دهاؤه ما كان عليه بوريس يلتسين ،
في ظل كل هذا الصراع ، وجرائم الإبادة الحربية التي تقع على المدنيين في المدن السورية ، وسلسلة التهجير البشرية الطويلة وإحلال الطوائف محل السكان الأصليين في العاصمة دمشق والمناطق الأخرى ، لن يتحرك أحد في هذا العالم لإنقاذ ما تبقى من سوريا الحضارة والشعب والمستقبل ، بل إن الجميع يجلس في مقاعد السينما العالمية الجديدة بانتظار مفاجأة المخرج الخفي الذي سيقرر النهاية بعد إبادة العرق العربي هناك ، ولن ينفعهم كل تلك التصريحات والاجتماعات والمفاوضات ولا قيادات المعارضة ولا فرق الإنقاذ التي ليس لها سوى إخلاء القتلى وإحصائهم ، وحتى يتفق حكام العالم ويستيقظ فجأة ضمير العالم العلماني المتمدن ،ستبقى سوريا وشعبها يذبحان ، وحتى ذلك الوقت غير المعلوم والوضع غير المفهوم ، سيبقى عالمنا العربي خائفا مرتعدا ينتظر كيف ستنتهي مأساة هذه الأمة بعد مائة عام على وصول طلائع الاستعمار الغربي الذي شتت شملهم .