الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سيكولوجيا الحرب في العالم العربي

سيكولوجيا الحرب في العالم العربي

04.10.2016
د. طيب تيزيني


الاتحاد
الاثنين 3/10/2016
إن إحدى ظاهرات الحروب الراهنة في العالم العربي أدت وتؤدي إلى نتيجة عاشتها البشرية، وتتمثل في تفكيك البناء الأخلاقي الإنساني على صعيد العالم، مع إخلاء شبه كامل لاحتمالات اللجوء إلى حلول سياسية في الساحة الملتهبة. لقد أخذ العنف، حتى الآن، كل احتمالات الحلول المذكورة، وراح السلاح المادي العسكري يبدو كأنه هو الخيار الوحيد في معالجة الصراعات الدامية، كالتي نعيشها الآن.
ولما كان الأمر قد وقر في أذهان الأكثرية من سكان العالم العربي بمثابته غير مسبوق، فقد أخذت حالة نفسية جديدة تحفر لنفسها حضوراً كثيفاً وقائماً على إنتاج أنماط من المرض النفسي، يبرز في مقدمتها الاعتقاد بدخول الناس في عالم "العصاب الصدمي الجماعي" والفردي. ولعلنا نذكر هنا أن اتساع هذا الأخير يتيح له الانتقال من كونه ظاهرة فردية نفسية إلى كونه حالة اجتماعية عامة. بل نحن نعمّم إذ نعلن أن الظاهرة تلك حالة اجتماعية عامة، وإذ ذاك نكون قد لامسنا ما نسمع به أو نشاهده في أصقاع العالم من صدامات تُنتج العنف والعنف المضاد، خصوصاً في ما يتعلق بمسألة التعددية والعمل على وأدها ليس في حقل الأيديولوجيا الدينية فحسب، بل كذلك على أصعدة عرقية إثنية وشعبوية وطائفية وغيرها.
لقد أخذت في التفكك والتصدع العائلة والمدرسة والجامعة والمؤسسة السياسية والإنتاجية، يداً بيد مع توغل الاستبداد والظلامية في بعض المجتمعات العربية، خصوصاً في تلك التي حُكمت بأيدٍ فولاذية، تحولت شيئاً فشيئاً إلى حاضنات إلى كل ما يُفضي إلى ابتلاع كرامة البشر وحرياتهم وكفايتهم المادية وحقوقهم الآدمية الإنسانية. أما ظاهرة استهداف الأطفال تجويعاً وتهجيراً وحرقاً في بيوتهم وتحت أنقاض بيوتهم وغيره، فقد راح يحفز على البحث عن مكامن الأمن والأمان في تواريخهم الخاصة والعامة، علّهم يعثرون فيها على نسمة من الطمأنينة والسلم. فقد راح أولئك يحفرون في ذاكراتهم العائلية والوطنية والمجتمعية العامة، باحثين فيها عما يمنحهم القوة على مواجهة "الليل" الذي قد يكون طويلاً، خصوصاً أن الأمراض والعلل النفسية والعضوية راحت تجتاح حياتهم، مع غياب "المؤسسة المدنية" خصوصاً، التي تطرح مشروع "إعادة بناء آدميتهم" وما يتصل بها مما سحقته الحرب الدائرة وهشّمته.
وإذا عدنا إلى ما يجتاح العرب في تجلياتهم القُطرية، فإننا نضع يدنا على ظاهرة "العنف الإعلامي والدموي"، فهذان يفضيان كلاهما إلى إنتاج "ضحايا الحروب العربية" بقدر ما يقودان إلى ولادة "أثرياء هذه الأخيرة ومستقبلها"! ومع بعض التخصيص، نلاحظ أن مرض "العُصاب الصدمي"، بما اكتسبه من صيغ جماعية ماحقة، أصبح واقعاً مشخصاً. أما تعبير "أثرياء الحروب" هنا فلا يقتصر على البعد المادي المالي، وإنما هو يحتاج إلى القلوب والنفوس والأجساد، بهدف تحويلها إلى سلع يتم تحصيلها في قاعات ومعارض البيع والشراء. وفي سياق تشييد عملية التحويل تلك، يكون البشر (العرب وغيرهم) قد انطلقوا باتجاه عالم "الكونية" الجديدة القائمة على السلع والمال، خاضعين في سياق ذلك لكل مستلزمات تلك الكونية العولمية.
في هذه الحال تتضح معالم ظاهرة "العُصاب الصدمي" في حيز محدد، هو الترصد لكل ما يواجهه أولئك، وخصوصاً "الخوف الفردي والجماعي"، الذي يُنتج في شخصيات السائرين هنا وهناك "اضطراباً عصبياً وظيفياً"، دون أن يكون هذا الأخير سائراً باتجاه تغير ملحوظ في بنية الجهاز العصبي، وإنما عبر تشكل حالات من التأهب الحاد والدائم، خوفاً من مواجهة أحداث ملطخة بالخوف والجريمة والدماء. ويضاف إلى ذلك ظهور عدد من الأحلام والكوابيس والقلق المستديم، بل إن الأمر يُفضي كذلك إلى نشوء كثير من الوساوس والاضطرابات المصاحبة بتمظهر عضوي لا يجد نشأته في أحوال فيزيولوجية كالآلام في المعدة والرأس، وربما كذلك مع ظهور نمط أو آخر من الشلل خصوصاً لدى الأطفال.
إن ذلك وغيره انفتحت أمامه حاضنة فسيحة خصوصاً في اتجاه البحث عن الخلاص والمخلص.
ها هنا نضع يدنا على مثل النداءات التالية ليس في الوسط الشعبي فحسب، بل كذلك على صعيد "الطبقات الوسطى" التي هاجرت نسبة ضخمة من أبنائها، وضمن تلك النداءات تبرز التالية: يا الله ما لنا غيرك يا الله، واللهم آمنا بأوطاننا، ما في بعد الصبر إلا القبر! ويلاحظ أن الفئات والطبقات الوسطى، أخذت في الانفراط، لتجتمع أنساقها ثانية في بلاد المهجر المريرة، وقد نرى أخيراً أن الشعوب العربية تمر بأعظم محنة مرت عليها في التاريخ، أما القادم فلعل ظهوره وتبلوره سيكوّنان حالة فارقة هائلة، خصوصاً لدى أولئك الذين رأوا بأمّ أعينهم طفلاً حياً يحدق تحت الأنقاض.