الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سيناريوهات المنطقة الآمنة في شرق الفرات

سيناريوهات المنطقة الآمنة في شرق الفرات

21.03.2019
مركز حرمون للدراسات


 مركز حرمون وحدة دراسة السياسات
الاربعاء 20/3/2019
المحتويات
أولًا: مقدمة
ثانيًا: أهم نماذج إحداث مناطق آمنة
ثالثًا: التفاعلات التركية – الروسية – الأميركية حول المنطقة الآمنة
رابعًا: رهانات (قوات سوريا الديمقراطية) “قسد
خامسًا: التشكيك المتبادل الأميركي والروسي
سادسًا: التجاذبات الإقليمية حول المنطقة الآمنة
سابعًا: السيناريوهات المحتملة لمستقبل المنطقة الآمنة في شرق الفرات
ثامنًا: خاتمة
أولًا: مقدمة
فتح قرار الرئيس الأميركي، في 19 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، سحب القوات الأميركية من سورية، أبوابًا واسعة أمام سيناريوهات عديدة لمستقبل منطقة شرق الفرات التي تحولت إلى مسرح تصفية حسابات إقليمية ودولية، وساحة صراع مفتوح على احتمالات عديدة. وفي هذا السياق، تتكثف المشاورات الإقليمية والدولية، في محاولة للتوصل إلى تفاهمات حول مستقبل المسألة السورية، بدءًا من المنطقة الآمنة، التي تصرُّ تركيا على إقامتها في شمال شرقي سورية تحت إشرافها، مرورًا بمصير مدينة منبج، وصولًا إلى وضع محافظة إدلب في ضوء اتفاقية سوتشي بين الرئيسين التركي والروسي، ونهاية بلجنة إعداد الدستور.
يبدو أن الجدل الجاري حول المنطقة الآمنة قد يجعل منها مجرد دعوة لا أكثر، في ضوء عدم الوضوح الأميركي لماهيتها، وكذلك المواقف المتباعدة للأطراف المؤثرة في المسألة السورية. ولعل دعوة روسيا إلى العودة لاتفاق أضنة بين الحكومتين السورية والتركية في عام 1998، لا يلغي احتمال إقامة المنطقة الآمنة في شرق الفرات فحسب، بل يدفع أيضًا في اتجاه عودة تركيا وكرد سورية إلى سابق علاقتهم بالنظام السوري.
ثانيًا: أهم نماذج إحداث مناطق آمنة
شهدت تسعينيات القرن الماضي عدة نماذج لإحداث مناطق آمنة: في العراق، في عقب حرب الخليج الثانية “عاصفة الصحراء” عام 1991، وفي البوسنة والهرسك عام 1993، وفي رواندا عام 1995. وقد أُطلقت أسماء عديدة على هذه التجارب، منها: المنطقة الآمنة، المنطقة العازلة، منطقة حظر جوي، الممرات الإنسانية، الملاذات الآمنة. كلها تحت عنوان “حماية المدنيين” في المناطق التي تشهد حروبًا وصراعات.
في شرق الفرات يجري الحديث عن “منطقة آمنة” أو “منطقة عازلة”، على الرغم من التداخل بين المفهومين، إذ إن أولهما يشير إلى بعد إنساني، بينما يشير ثانيهما إلى بعد عسكري. وفي واقع القانون الدولي لا يوجد مصطلح “المناطق الآمنة”، وإنما “مناطق محايدة” و”مناطق منزوعة السلاح” بين دولتين متحاربتين، وغالبًا ما تتم بقرار من هيئة الأمم المتحدة. وما تزال طبيعة هذه المنطقة وحدودها وطبيعة الدور التركي فيها غير واضحة، تتجاذبها رؤى مختلفة: روسيا تعتبر أن وجود قوات نظام بشار الأسد في الشريط الحدودي التركي – السوري، سيمثل عازلًا ترضى عنه تركيا، ما دام سيحد من طموحات الانفصاليين الأكراد، ويضعف الإدارة الذاتية الكردية المستقلة عن دمشق. بينما تريد روسيا أن تكون هي الضامنة للمنطقة العازلة، إذ قال وزير الخارجية الروسي، في مقابلة مع التلفزيون الفيتنامي وتلفزيون الصين المركزي، قبيل زيارته إلى الصين وفيتنام، في 24 شباط/ فبراير الماضي “لدينا خبرة في دمج اتفاقات وقف إطلاق النار وإجراءات السلامة وإقامة مناطق خفض التصعيد بنشر الشرطة العسكرية الروسية، وهذا الاحتمال قائم بالنسبة إلى هذه المنطقة الآمنة”. أما أميركا، فلا تفضل دخول القوات التركية، وتريد أن تكون المنطقة العازلة تحت إشراف قوات محايدة، أوروبية وعربية على الأرجح.
ثالثًا: التفاعلات التركية – الروسية – الأميركية حول المنطقة الآمنة
يستحوذ موضوع المنطقة الآمنة على جزء كبير من التفاهمات الروسية – التركية، إذ إن موسكو –بدعوتها إلى إحياء اتفاقية أضنة لعام 1998– تريد أن تعطي تركيا غطاءً قانونيًا لتمددها في شمال سورية، شريطة أن يتم ذلك بالتفاهم بين الحكومتين التركية والسورية. وقد قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في 28 كانون الثاني/ يناير الماضي “نحن نعتبر أنه من الممكن تمامًا لتركيا وسورية استخدام اتفاق أضنة لتوفير الأمن على الحدود المشتركة”، ما يشير إلى العودة للأوضاع التي كانت سابقًا، أي سيطرة نظام بشار الأسد على شمال سورية، وعودة العلاقات التركية – السورية، من بوابة التنسيق والتعاون الأمني لتنفيذ الاتفاقية.
وكان موقفًا لافتًا، عشية قمة سوتشي لثلاثي آستانة، إعلان المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، في 13 شباط/ فبراير الماضي، ردًا على سؤال بشأن خطة المنطقة الآمنة التركية، إذ قالت “إن مسألة وجود قوة عسكرية تعمل بتعليمات من بلد آخر على أرض دولة ذات سيادة يجب أن تحسمها دمشق مباشرة. هذا هو موقفنا الأساسي”. ويبدو واضحًا أن روسيا تستخدم ورقة اتفاق سوتشي، حول إدلب، لابتزاز تركيا في ملف المنطقة الآمنة، بهدف إعادة ضبط القوى المؤثرة في سورية، وهي تدرك أن تركيا لاعب أساسي في الشمال السوري.
إن الحسابات الروسية تدفع -دائمًا- في اتجاه السعي لانتزاع تركيا من الحلف الأطلسي، وإبعادها عن الولايات المتحدة الأميركية. بينما الحسابات التركية، من خلال الموافقة على إحياء اتفاقية أضنة وتطويرها في حال حصولها، تقوم على شرعنة الوجود التركي وسياساته في الشمال السوري. ويكمن الخلاف الروسي – التركي في تفاصيل المنطقة الآمنة، إذ يريدها الأتراك بطول 460 كم، لتحقيق الاستقرار من خلال تعميم نموذج الإدارات المحلية، بواسطة العشائر العربية والأطراف الكردية المقبولة من طرفهم، بما ينسجم مع توجهات الإدارة الأميركية، إضافة إلى تقديرات مركز التفكير الأميركي “راند” التابع لوزارة الدفاع “البنتاغون”، في ترتيب ملء الفراغ ومنع إيران من التمدد.
ويبقى السؤال: هل ستقبل أميركا أن يتم الاتفاق بين روسيا وتركيا لملء الفراغ في شرق الفرات، في الوقت الذي بإمكانها أن تستفيد من الانسحاب لإعادة تركيا إلى الحلف الغربي؟
في هذا السياق، تُحاول الإدارة الأميركية إغراء تركيا بإقامة “منطقة أمنية عازلة” داخل الأراضي السورية، مقابل القبول التركي بإبقاء الأكراد في المناطق التي يُسيطرون عليها، بقيادة قوى كردية غير معادية لتركيا، وحليفة لأميركا، على غرار علاقة الطرفين بإقليم كردستان العراق. ويبدو أن تركيا قد حصلت على “تفويض” من الرئيس الأميركي لحماية المصالح الأميركية ومصالح حلفائها في سورية، بوصفها الطرف الفائز من الانسحاب الأميركي، ما يساعدها على إعادة حساباتها مع روسيا. لكن تركيا تنظر إلى المنطقة الآمنة أو العازلة بوصفها تنطوي على إبعاد وحدات “قسد” العسكرية عن الحدود التركية، وتقطيع أوصال مشروع الإدارة الذاتية لـ “مسد”.
بحث الرئيسان التركي والأميركي، عبر مكالمة هاتفية في 21 شباط/ فبراير الماضي، تطورات المسألة السورية، ولا سيما ما يتعلق بتقليص الوجود العسكري الأميركي إلى حدود 200 جندي فقط في شرق الفرات، وإمكانية إنشاء منطقة آمنة. وبحسب ما أوردته وكالة “الأناضول” التركية، فإن الرئيسين اتفقا على تنفيذ عملية الانسحاب الأميركي من سورية، بما يتماشى مع “المصالح المشتركة”، كما أكدا على دعم العملية السياسية في سورية، بينما أعلن البيت الأبيض اتفاق الرئيسين على “مواصلة التنسيق بشأن منطقة آمنة محتملة”، إلا أن تركيا تدرك أن أميركا تريد توكيل مهمات “حفظ الأمن” لطرف آخر غير تركيا، بهدف عرقلة أي عملية عسكرية تركية في شرق الفرات، وأن تقود، مع بريطانيا وفرنسا وألمانيا، خطة منطقة عازلة توفر حماية وحدات “قسد”، وتضمن الدور الفاعل في مستقبل سورية. وكان وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، واضحًا في التعبير عن المخاوف التركية، في كلمة له ضمن مؤتمر ميونيخ للأمن، فقد قال “إن إخراج تنظيم الوحدات الكردية من منطقة شمالي سورية، يشكل القضية الأكثر أهمية بالنسبة إلى أمن حدودنا وشعبنا.. يجب ألا يتحول الفراغ الذي سيحدث في عقب الانسحاب الأميركي إلى منطقة آمنة للإرهابيين”.
لا شك في أن تركيا تواجه ظروفًا دقيقة، تدفعها لإعادة صوغ دورها الإقليمي، انطلاقًا من شمال سورية؛ لذلك تحاول اللعب على حبال التناقض الأميركي – الروسي، باحثة عن مصالحها القومية العليا، وتحاول أيضًا معرفة حدود التفاهمات الأميركية – الروسية بشأن مستقبل سورية، وكذلك مدى حرص الطرفين على العمل مع تركيا، والحصول على موافقتها، بعد أن أضحت لاعبًا أساسيًا في سورية. ومن هنا يمكن الحديث عن حل وسط حول إدارة المنطقة الآمنة، ومدى عمقها، إذ تدرك تركيا أنه ليس بإمكانها لوحدها إقامة هذه المنطقة، وأن من مصلحتها التوافق مع الطرفين، إذا أرادت أن تسير أمور المنطقة الآمنة بسلاسة، وأن التصادم مع أي منهما سوف يخلق لها صعوبات أمام تحقيق أهدافها، ويبدو أن الأمر يعتمد على مدى قدرة الدبلوماسية التركية على النجاح بين قوتين لدولتين مؤثرتين في الملف السوري.
رابعًا: رهانات (قوات سوريا الديمقراطية) “قسد
قبل أن تتضح تفاصيل إنشاء المنطقة الآمنة، من حيث آليات تنفيذها والقوى التي ستديرها، وبعد أن أبدت أوساط من (قوات سوريا الديمقراطية) “قسد” و(مجلس سوريا الديمقراطية) “مسد” تخوفها من صفقة أميركية – تركية، تنطوي على تخلّي الإدارة الأميركية عنهم، توزعت رهاناتهم على ثلاثة خيارات: أولها، متابعة المفاوضات مع نظام بشار الأسد، اقتناعًا منهم بأنه لا يمكن أن يعود إلى ما قبل سنة 2011. وثانيها، الترحيب  بالدعوة إلى إنشاء منطقة آمنة، شريطة ألا تكون تحت سيطرة تركيا. وثالثها، حل وسط مع تركيا، تحت إشراف أميركي، وهذا الخيار أعلنته رئيسة الهيئة التنفيذية لـ “مسد”، من واشنطن في 1 شباط/ فبراير الماضي، خلال ندوة في مركز الشرق الأوسط للأبحاث، إذ أعلنت الاستعداد لمباحثات مع تركيا، وقالت “نحن لسنا طرفًا في الصراع الدائر في تركيا”. كما تم ترويج استعداد ” قسد ” للتخلّي عن مشروع الفدرالية، في مقابل اللامركزية الإدارية.
وفي هذا السياق، رحب ممثلو “قسد” بالإعلان الأميركي عن إبقاء 200 جندي، ومحاولة إقناع الأوروبيين بالمساهمة بنحو 800 – 1500 جندي لإقامة المنطقة الآمنة ومراقبتها. وقد أعلن الرئيس المشترك لمكتب العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية، عبد الكريم عمر، في 22 شباط/ فبراير الماضي، “يمكن لهذا القرار أن يشجع الدول الأوروبية على الاحتفاظ بقوات لحماية المنطقة”. وقد جاء هذا الترحيب الكردي بعد تهديد المبعوث الأميركي، جيمس جيفري، في مؤتمر ميونيخ للأمن، بأن الاتفاق مع نظام بشار الأسد أو روسيا سيؤدي إلى عدم الدعم الأميركي للأكراد.
خامسًا: التشكيك المتبادل الأميركي والروسي
بعد أن أقامت روسيا قواعد لها في ريف دير الزور الشرقي جنوب نهر الفرات، مقابل القواعد الأميركية، لم يعد التنافس خفيًّا بين روسيا وأميركا على النفوذ في سورية. وفي هذا السياق، شكك الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في جدية الانسحاب الأميركي من سورية، إذ قال “إن الخبرة في التدخلات الأميركية تؤكد أن القدم الأميركية لم تطأ مكانًا وانسحبت منه”.
وفي ما يتعلق بالمنطقة الآمنة، حذر وزير الخارجية الروسي، على هامش مؤتمر “فالداي” في 19 شباط/ فبراير الماضي، واشنطن وحلفاءها، إذ قال “لا أعتقد أن الولايات المتحدة لديها آفاق عندما تتحدث أنها ستقرر من سيوفر الأمن في ما يسمى بالمنطقة العازلة. إنها تصريحات غير قانونية، وأنصح جميع أولئك الذين تريد الولايات المتحدة زجهم هناك، أن يفكروا ثلاث مرات قبل الذهاب إلى هذا العمل غير القانوني”.
وفي المقابل، لم يكن الإعلان الأميركي عن الانسحاب من سورية، ومن ثم الحديث مع تركيا عن إنشاء منطقة آمنة، سوى محاولة لخلط الأوراق في منطقة تتسم بالتعقيد، بما يخدم الأهداف الأميركية، خاصة ابتزاز القوى الحليفة، الأوروبية والعربية، للقيام بواجبها تجاه تكاليف حماية الحلفاء الأكراد، وبالتالي وضع تركيا في مواجهة الحليفين الروسي والإيراني، لزعزعة توجّه روسيا لفرض مسار آستانة، ومحاولتها إعادة تأهيل نظام بشار الأسد، تحت عنوان “عودة سيطرة الحكومة السورية على كامل أراضيها”.
ويبدو أنه لن يطول الوقت قبل أن يحصل اتصال أميركي – روسي، تعرض واشنطن خلاله سياساتها، وتترك لروسيا حسم خياراتها حول: احتواء النفوذ الإيراني في سورية، إنشاء منطقة آمنة لضمان حماية الأكراد، تحمّل مسؤولية إنجاز عملية الانتقال السياسي في سورية. وتعكس هذه الخيارات إعادة جدولة الولايات المتحدة الأميركية لأولوياتها، والأدوار المنوطة بكل الأطراف المنخرطة في الصراع السوري.
ويبدو أن المنطقة الآمنة ما زالت مجرد افتراض، مرهون بكفالة روسية – أميركية، وبمدى قدرة الطرفين على تعميق الشراكة مع تركيا بوصفها لاعبًا مهمًا في شمال سورية.
سادسًا: التجاذبات الإقليمية حول المنطقة الآمنة
إن تقليص عدد القوات الأميركية في شرق الفرات، إضافة إلى طرح فكرة إنشاء المنطقة الآمنة هناك، سيساهمان بتغيير ميزان القوى الإقليمي، ويخلقان وقائع جديدة على الأرض. إذ يبدو أن التوافق التركي – الأميركي، حول إقامة المنطقة الآمنة، سيزعزع تحالف آستانة الثلاثي. أما نظام بشار الأسد، الذي يولي منطقة شرق الفرات أهمية قصوى، بسبب مخزونها النفطي والزراعي والحيواني، فإنه يتحين الفرص للعودة إلى المنطقة، لكنه لا يملك نقاط قوة كافية، في ظل فيتو أميركي يحول دون عودته. لذلك يعمل، مع حلفائه الروس، على استدراج ” قسد ” لصفقة يلبي فيها بعض شروط مفاوضيه الأكراد.
ومن جهة أخرى، وجد النظام في الطرح الروسي لاتفاقية أضنة فرصة لإدانة السياسة التركية في القضية السورية، ورأى أن تطبيق الاتفاقية بين الطرفين يعني العودة إلى ما كان عليه الحال في سنة 1998، وفي سنة 2010 حين وُقّعت المعاهدة بين وزارتي خارجية البلدين، بما يعني خروج القوات التركية من مناطق نفوذها في شمال سورية. وقد أعلنت وزارة خارجية النظام، في 26 كانون الثاني/ يناير الماضي، الآتي: “بعد التصريحات المتكررة وغير المسؤولة من قبل النظام التركي حول النيات العدوانية التركية في سورية، تؤكد الجمهورية العربية السورية أنها ما زالت ملتزمة بهذا الاتفاق والاتفاقات المتعلقة بمحاربة الإرهاب بأشكاله كافة من قبل الدولتين، إلا أن النظام التركي، منذ عام 2011، لا يزال يخرق هذا الاتفاق”.
يدرك نظام بشار الأسد أنه لا توجد مطامع طويلة الأمد لتركيا في سورية، وأنها ستنسحب حالما يتم التوصل إلى حل سياسي، يضمن نفوذها في مستقبل سورية، ولكنه يدرك أيضًا جوهر الموقف التركي المناهض لحكمه. وربما يعتمد على حليفيه، روسيا وإيران، شريكي تركيا في مسار آستانة، للعثور على صفقة تسهّل التعايش بين الدولتين.
أما “إسرائيل”، التي تخوفت من أن يؤثر الانسحاب الأميركي في أمنها القومي، فإن كل ما يهمها هو بقاء التفاهمات الأميركية – الروسية، التي تمت في هلسنكي في تموز/ يوليو 2018، التي تركز على حماية أمن ومصالح “إسرائيل”، من خلال غض طرف موسكو عن الضربات الإسرائيلية ضد المصالح الإيرانية، ومنع إيران من الوصول إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط عبر العراق وسورية.
رأت إيران أن الانسحاب الأميركي ورقة رابحة لها، لكنها توجست من تفاهمات أميركية – روسية – تركية – إسرائيلية على حسابها، خاصة بعد الحديث عن المنطقة الآمنة، وما تنطوي عليه من اقتسام للنفوذ في منطقة شمال شرقي سورية، الحيوية لهلالها الشيعي. كما بدأت دول عربية، خاصة السعودية والإمارات، تولي منطقة شرق الفرات أهمية كبيرة، إذ بات واضحًا دعمهما لـ “قسد”، لمواجهة الخطر الإيراني من جهة، ومحاولة إقلاق تركيا من جهة ثانية، والبحث عن دور في المنطقة الآمنة التي يُزمع إنشاؤها في شرق الفرات من جهة ثالثة.
سابعًا: السيناريوهات المحتملة لمستقبل المنطقة الآمنة في شرق الفرات
لا تزال عملية خلط الأوراق في سورية جارية، فقد نجحت الإدارة الأميركية، من خلال طرحها للانسحاب وإحداث المنطقة الآمنة، في خلط أوراق اللاعبين الإقليميين والدوليين في المسألة السورية، وأعادت مسك أوراق اللعبة بين يديها، في أغلب السيناريوهات المحتملة لمستقبل المنطقة الآمنة في شرق الفرات، ويبدو أن تركيا ستكون محور أغلب هذه السيناريوهات، بشكل يحافظ على تركيا حليفًا استراتيجيًا لواشنطن، ولا يتخلى عن الأكراد كـ “حليف ميدان” في محاربة “داعش”.
إن كل السيناريوهات المحتملة تصب في العودة إلى مشروع تركي قديم، يقوم على إنشاء منطقة آمنة بعرض 32 كم على الحدود التركية – السورية، تضمن، كما قال وزير الخارجية الأميركي بومبيو “الحماية للأكراد في سورية، مع السماح للأتراك بالدفاع عن بلادهم من الإرهابيين”. وهكذا، من المتوقع أن تكون السناريوهات المتوقعة ضمن جدول أعمال المفاوضات الأميركية – التركية، وعليه يمكن تصوّر السيناريوهات التالية:
1لعل المفاوضات الأميركية – التركية بشأن ترتيبات المنطقة الآمنة، وزيارة الرئيسة المشتركة لـ “مسد” إلى واشنطن ولقاءها بالرئيس الأميركي ومسؤولين في الإدارة، يندرجان في إطار المسعى الأميركي للتوفيق بين الطرفين، بما يفرز السيناريو الأرجح. بحيث يتم التفاهم بين الأكراد وتركيا، طبقًا لاتفاق يطمئن تركيا ويحمي قوات “قسد”، من خلال وجود قوات عازلة على الأرض، قوامها يتكون من “البشمركة السورية” التي دربتها “البشمركة العراقية”، ومن قوات عربية يتم الاتفاق عليها، بعد انسحاب قوات “قسد”، وإنشاء نقاط رقابة تركية لمنع تسلل قوات “قسد” إلى المنطقة، كل ذلك تحت رقابة قوات غربية، أميركية – فرنسية – بريطانية – ألمانية، ويفترض أن تنتشر هذه القوات على طول المنطقة المحاذية للحدود التركية – السورية، من فش خابور على نهر دجلة في أقصى الشرق السوري، وصولًا إلى أطراف جرابلس على نهر الفرات، بحيث تنتشر القوات العربية في المدن والمناطق ذات الأغلبية العربية، فيما تنتشر قوات البشمركة في المناطق ذات الأغلبية الكردية.
في هذا السياق، يجري الحديث عن تحالف بين البشمركة السورية وقوات “النخبة” التابعة إلى (تيار الغد السوري) بقيادة أحمد الجربا، المرضي عنه أميركيًا وروسيًا وتركيًا وعربيًا، لسد الفراغ الأمني في شرق الفرات، بحيث لا يكون لهذه القوات دور في إدارة المنطقة، وإنما يترك الأمر لإدارة المجالس المحلية المشكلة من جميع المكونات الاجتماعية للمنطقة.
يبدو أن هذا السيناريو هو ما قصده الرئيس الأميركي عند حديثه عن ضرورة إدارة المنطقة من قوى محلية، كحل وسط يرضي الطرفين التركي والكردي، بما يطمئن الجانب التركي الرافض لأي دور لـ “قسد”، ويُبدِّد مخاوف الجانب الكردي من عمل عسكري تركي، ينتهي بالقضاء عليها كما حدث في عفرين. كما يبدو أن جميع الأطراف، المحلية والإقليمية والدولية، موافقة على هذا السيناريو، الذي ينطوي على إمكانية توفير الاستقرار في المنطقة، وبالتالي تقديم نموذج لبقية المناطق السورية.
2في حال عدم تحقّق السيناريو الأول، من المحتمل أن يتابع ممثلو “قسد” مفاوضاتهم مع نظام بشار الأسد، برعاية روسية، وفق صفقة تعكس رهانات كل منهما على تغيّرات ميدانية وتجاذبات القوى الإقليمية والدولية، وتتيح لكل منهما دورًا في مناطق شرق الفرات، مثل إشراف النظام على عمل الإدارة الذاتية، مع احتفاظها بشيء من استقلاليتها. إضافة إلى إعادة صوغ الترتيبات الأمنية، بحيث تضم وحدات من البشمركة السورية، التابعة للمجلس الوطني الكردستاني، إلى جانب قوات “قسد”، بما يوفر للنظام إمكانية تأليب أكراد سورية على تركيا.
3قد تكون اتفاقية أضنة لعام 1998، بعد إضافة ملاحق جديدة عليها، أحد السيناريوهات المحتملة. خاصة بعد تواتر الحديث عن لقاءات أمنية سورية – تركية، بما فيها زيارة رئيس جهاز الأمن الوطني السوري، اللواء علي مملوك، إلى مدينة أنطاليا/انطاكيا الساحلية التركية، حيث التقى فيها وفدًا من الاستخبارات التركية، ولم تخفِ قيادات تركية عديدة الاتصالات الأمنية بين الطرفين. وفي هذا السياق، يُحاول طرفا آستانة الآخرين، روسيا وإيران، محاصرة تركيا بخيار الانفتاح على نظام بشار الأسد، بحيث يصمت الأتراك تجاه دخول قوات النظام إلى شرق الفرات، مقابل التزامها بحماية أمن تركيا، وتفعيل اتفاقية أضنة المطوّرة.
4إرسال قوات عربية إلى سورية، إذ يرحب نظام بشار الأسد وحليفه الروسي بهذا السيناريو، ما دام يساهم في إعادة تأهيل النظام، و”إنعاش شرعيته” عربيًا، لاستعادة مقعده في جامعة الدول العربية. إضافة إلى ما ينطوي عليه وجود قوات عربية من قطع الطريق على التغلغل الإيراني والتركي، والحد من هيمنة (قوات سوريا الديمقراطية).
5تمكّن تركيا وحلفائها من المعارضة العسكرية السورية من السيطرة على منطقة شرق الفرات، وهو سيناريو بعيد التحقق، بسبب الرفض الأميركي – الروسي المشترك. بالنسبة إلى أميركا، فإن السيطرة التركية تعني القضاء على حلفائها الأكراد، وعلى تجربة الإدارة الذاتية، التي نظّرت لها مؤسسة “راند”، وما ينطوي عليه ذلك من دفع “قسد” و”مسد” إلى الاستنجاد بنظام بشار الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين. وبالنسبة إلى روسيا، فإن تركيا تشكل خطرًا على مصالحها، فيما إذا تمددت على كامل الشمال السوري.
6مبادرة من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD)، تعلن الانفكاك عن حزب العمال الكردستاني التركي (PKK)، طبقًا لما أعلنته إلهام أحمد في واشنطن، بما يفتح في المجال لإدارة ديمقراطية لمنطقة شرق الفرات، على أساس نظام اللامركزية الإدارية الموسّعة الجغرافي وليس القومي، تشترك فيه جميع مكوّنات الشعب السوري في المنطقة، يكون نموذجًا لسورية المستقبل، بديلًا عن نموذج “الإمارات المتطرفة” فيما يسمى “المناطق المحررة”.
ثامنًا: خاتمة
إن ما يجري مع تركيا جزء من التعقيدات المتوقعة لتوزيع النفوذ والأدوار، إذ إن الولايات المتحدة الأميركية تتحكم وتشرف على رسم خريطة مستقبل سورية، وترهن الدور التركي بمدى بقائه في المحور الغربي – الأطلسي، وابتعاده عن المحور الروسي – الإيراني، بما لا يخلُّ بالمعادلة الأميركية لسورية المستقبل.
ويبدو أن المعارضة السورية بقيت خارج التأثير، إذ لا تملك أي وجود عسكري أو سياسي في منطقة شرقي الفرات،  التي باتت ميدانًا لصراع القوى الإقليمية والدولية، تحدد نتائجه مستقبل سورية.
وهكذا، تشير تطورات المسألة السورية إلى تأخر الفاعل السوري في بلورة خريطة طريق، واقعية وعملية، كفيلة بتجاوز تعثرات عملية الانتقال السياسي من الاستبداد إلى الديمقراطية، وإلى تعقّد الوضع في منطقة شرق الفرات، بسبب دخول أطراف إقليمية ودولية عديدة، استحال معها إيجاد حل سوري مستدام، يفتح الأفق لتحقيق أهداف الشعب السوري في الحرية والكرامة.