الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سيناريوهان أميركيان وتسعة أهداف للولايات المتحدة في سورية

سيناريوهان أميركيان وتسعة أهداف للولايات المتحدة في سورية

14.12.2019
محمد السلوم


جيرون
الخميس 12/12/2019
قبل يومين من بدء عملية التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر 2019، أي عملية “نبع السلام” المشتركة بين الجيش التركي والجيش الوطني السوري، أمر الرئيس الأميركي دونالد ترامب برحيل عدد قليل من قواته التي كانت لديه في المنطقة، كي لا يكون الضحايا أميركيين، في مواجهة ذهول خصومه في الكونغرس والبنتاغون، لأنه قدّم هذه المنطقة الإستراتيجية إلى حليف الناتو “الضّال”، بحسب وصف تركيا من قبل بعض الكتّاب الغربيين، وقد برر ترامب خطوته تلك بأعذاره الخاصة.
العذر الأول: لم يساعد الأكراد الولايات المتحدة في إنزال النورماندي في الحرب العالمية الثانية، لذلك ليس هناك ديون تاريخية لهم، بل على العكس تمامًا، فقد تلقوا ملايين الدولارات والمعدات العسكرية للدفاع عن “أراضيهم”، لا عن أراضي الولايات المتحدة.
العذر الثاني: كان سبب وجود القوات الأميركية في سورية هو إنهاء (داعش)، وهو أمر تم تحقيقه بالفعل، وفي حال ظهور الجماعة الإرهابية مجددًا، فعلى بلدان المنطقة مواجهتها.
العذر الثالث: مع هذا الانسحاب “الصغير جدًا”، تُوفر الولايات المتحدة “الكثير من المال”، وتنهي إحدى “الحروب السخيفة” الكثيرة التي شاركت فيها. لكن الرئيس الأميركي لا يفسّر سبب إعلانه في اليوم نفسه إرسال ثلاثة آلاف جندي أميركي آخرين إلى المملكة العربية السعودية، لمواجهة إيران.
ومع ذلك، يضيف: “بعد قول كل هذا، نحن نحب الأكراد”، وترك الباب مفتوحًا لإنقاذهم، ومنع في الوقت ذاته في مجلس الأمن، إضافة إلى الصين وروسيا، إدانة العملية التركية في دولة “ذات سيادة تابعة للأمم المتحدة”، وعبّروا عن قلقهم فحسب.
لكن ترامب أوفد نائبه مايك بنس إلى أنقرة، حيث تم الاتفاق على نشر القوات التركية والجيش الوطني السوري في “المنطقة الآمنة”، بعد إعلان وقف لإطلاق النار وتسليم الانفصاليين أسلحتهم الثقيلة، والانسحاب من تلك المنطقة، على إثر تمسك تركيا بموقفها والضغط الداخلي الأميركي.
أهداف الولايات المتحدة التسعة لوجودها العسكري في سورية:
إن وجود القوات الأميركية على الأراضي السورية هو أمرٌ غير قانوني، بحسب معايير القانون الدولي، فليس لديه إذن من رأس النظام السوري القابع في دمشق أو من الأمم المتحدة أو من الكونغرس الأميركي. كما أنه لن ينسحب من سورية، بل من منطقة في أقصى شمال هذا البلد. فبفضل الحرب، صار لدى الولايات المتحدة، لأول مرة في تاريخها، عشرون قاعدة عسكرية في سورية، بالطريقة التي لم تسحب فيها قواعدها من اليابان أو ألمانيا، بعد 74 عامًا على نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم تطالب تلك الدولتان المهزومتان في الحرب العالمية بطرد تلك القواعد، إضافة إلى ما تتمتع به سورية من موقع، كونها تقع في قلب منطقة أوراسيا.
لم تحقق الولايات المتحدة جميع أهدافها في سورية وهي:
كسر ما يسمى “محور المقاومة“ ضد “إسرائيل”، الذي يتكون من سورية وإيران و”حزب الله” و(حماس).
القضاء على الحليف الوحيد لإيران بالمنطقة وفي العالم -أي سورية– وهي “جائزة” حروبها في المنطقة، وتضم إيران أوّل احتياطي للغاز في العالم وثالث احتياطي للنفط.تفكيك دولة عربية أخرى، بعد تحويل العراق وليبيا إلى رماد، وهذا ما يجعل سورية فخًا قاتلًا لمنافسي “إسرائيل”.
تقسيم سورية إلى دويلات صغيرة، من أجل السيطرة عليها بسهولة في المستقبل، وقد اعترف ترامب بالفعل بهيمنة “إسرائيل” على جزء من سورية، في مرتفعات الجولان.
فرض حرب طويلة والعيش على تجارة الأسلحة للدول المتصارعة على سورية.
السيطرة على “قلب” أوراسيا أو “منطقة محورية” من سورية.
قطع طريق الحرير السوري على الصين.
منع بناء خط أنابيب الغاز والنفط بين إيران والعراق وسورية والبحر المتوسط.
الاستمرار في إعادة تكوين خارطة “الشرق الأوسط الجديد” لتناسب اهتمامات الولايات المتحدة، بعد قرن من قيام كل من فرنسا والمملكة المتحدة بذلك الأمر، ما أدى إلى تفكك الإمبراطورية العثمانية. وإنشاء دولة “فرانكشتاين” كردية من أحشاء سورية والعراق، وهو ما كان أحد أهم مشاريع واشنطن، وعلى الرغم من استحالة ذلك، ونهايته الحتمية إثر عملية (نبع السلام)، ستستمر الحرب ضد سورية وثورتها وشعبها.
الفرضيتان الأساسيتان لسيناريوهين أميركيين ما بعد عملية (نبع السلام) في سورية، بحسب المحللين الغربيين
حاول بعض المحللين الغربيين الوصول إلى الطوابق السفلية المظلمة في البيت الأبيض والبنتاغون، لمعرفة ما قاموا بطبخه، تاركين خيالهم يطير بحثًا عن إجابات لهذا الإجراء الغامض لترامب، مستندين إلى إحدى فرضيتين:
الفرضية الأولى: أن الرئيس الأميركي ينفذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، ويعتبر أن الوقت قد حان لبلقنة سورية، نتيجة إخفاقاتها العرقية والدينية والطائفية، في ظل نظام ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وفي بيانه، يزعم البيت الأبيض أن تركيا ستستولي على سجناء (داعش) الموجودين في معسكر الهول بالحسكة قرب العراق، ما يعني أن الأمر لا يتعلق بإنشاء منطقة عازلة على الحدود التركية السورية، لكن الأتراك فعليًا يسيطرون على جزء كبير من شمال شرق سورية، لإعادة اللاجئين السوريين، بعد فشل إقامة جدار عازل يمنع حركة اللجوء أو يمنع التحركات الإرهابية لحزب العمال الكردستاني الذي يهدد أمن تركيا، فيما ترى الولايات المتحدة أن هذا الهجوم خطير ومكلف، لكنها تراجعت بوقت لاحق واتفقت مع تركيا على تلك المنطقة التي ستعيد على الأقل مليون لاجئ سوري لديارهم.
فقد تسببت الولايات المتحدة في خلق وضع مشابه في العراق عام 1991، في إثر عملية عاصفة الصحراء، المتزامنة مع نهاية الاتحاد السوفييتي، إذ قامت بدفع الأكراد العراقيين شمال العراق، والعرب الشيعة جنوبه، إلى التمرد على نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين المركزي في بغداد، لكن الرئيس الأميركي جورج بوش الأب آنذاك تخلى عنهم، وتركهم لمصيرهم في مواجهة السلطة المركزية في بغداد. كان الاحتجاج العالمي على هذه “الخيانة” ذريعة للولايات المتحدة، لإنشاء منطقتي الحظر الجوي، شمال وجنوب العراق، وحماية المنطقتين لإخراجهما من سيطرة المركز، وإضعاف الدولة، عبر التفجيرات المستمرة، والحصار الخانق، حتى أطاحت نظام صدام حسين عام 2003، بناءً على سبعة أكاذيب آنذاك، أبرزها استحواذ العراق على أسلحة كيمياوية. فأنشأت الولايات المتحدة منطقة الحكم الذاتي الكردي، من برلمان وجيش ونشيد وعَلم، واعترفت بها الحكومة المركزية في بغداد عام 1993، وحولت الولايات المتحدة بموجب ذلك “كردستان العراق” إلى إحدى أهم قواعدها الرئيسية بالمنطقة.
ربما تقوم الولايات المتحدة بالخطوات ذاتها في سورية، وربما ستقوم بتطبيقها فيما بعد في تركيا وإيران، فستصور العملية التركية بأنها مذبحة مروعة للأكراد، وتختلق وجود أزمة إنسانية مروعة، ليتم بثها على نطاق واسع (على عكس الفظائع التي ترتكبها روسيا شمال إدلب، وما ارتكبته إيران بالغوطة الشرقية، والولايات المتحدة والسعودية في اليمن). فبعد أن ظهرت (داعش) من خلال سلسلة إصدارات قطع الرؤوس أمام الكاميرات عام 2014، ظهر بالمقابل جيش من المرتزقة تحت مسمّى (قسد)، كانت مهمته العمل كجرافة، لتمهيد الطريق لهيمنة الولايات المتحدة على سورية، دون أن تخسر جنديًا واحدًا، نتيجة الدروس التي تلقتها في فيتنام والعراق وأفغانستان. الخطوة التالية يأتي دور ما يسمّى “المجتمع الدولي” الملتزم بأخلاقيات ومبادئ “الأمم المتحدة”، والقيام بإرسال قوات “سلام” مكونة من العرب والأتراك والأوروبيين، إلى الشمال السوري، حيث لديها احتياطياتها من النفط والماء، لفصلها عن بقية سورية. لكن المفاجأة هي اتفاقية أنقرة، يوم الخميس 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، التي أقرت فيها الولايات المتحدة بالمنطقة الآمنة، ووضعت المسمار الأخير في نعش ما يسمى منطقة “روجآفا”. وبالتالي تغيّر السيناريو الأول، بسحب فتيل الأزمة والتأكيد على استمرار التواجد الأميركي شرق الفرات، وإيقاف اندفاع النظام السوري وحلفائه للسيطرة على منبج والرقة ودير الزور، وإرسال رسالة إلى الروس بأن تركيا ما زالت حليفًا للولايات المتحدة الأميركية.
الفرضية الثانية: القائمة على استراتيجية بقاء دونالد ترامب في السلطة، وقد حاصره كل من “الدولة العميقة” والديمقراطيون، الذين حاولوا عزله أخيرًا، بعد فضيحة أوكرانيا وقبلها “روسيا غيت”، وتصاعد حملة “مي تو” لعزله، كل ذلك دفعه إلى التصعيد مع إيران من جهة، والضغط عليها عبر حرب الناقلات، وآخرها تدمير ناقلة نفط إيرانية في البحر الأحمر، بحسب المزاعم الإيرانية، والتهديد بالاستيلاء على الناقلة أدريان داريا، بعد نقلها النفط إلى سورية بالبحر المتوسط، وضرب (أرامكو) رئة النفط العالمي في السعودية، وتوجيه أصابع الاتهام إلى إيران. إضافة إلى إمكانية استثمار الولايات المتحدة لثورتي العراق ولبنان في الضغط على إيران وحلفائها، فلبنان يتحول شيئًا فشيئًا إلى فنزويلا الشرق، من ناحية انهيار عملته وإفلاس مصارفه، وبالتالي إفلاس النظام السوري بدمشق التابع لإيران، وخصوصًا أن لبنان والعراق هما مضختا العملة الصعبة للنظام السوري، من بعد تراجع دول الخليج العربي عن دعمها للنظام منذ بداية الثورة السورية، على الأقل علنًا.
ولكن بعد فضيحة تدخل ترامب بانتخابات أوكرانيا في 26 أيلول/ سبتمبر 2019، اقترحت عضو الكونغرس الديمقراطية نانسي بيلوسي، البدء بإجراءات عزل الرئيس الأميركي، وتسليم نائبه مايك بنس السلطة، حتى إجراء الانتخابات الرئاسية في 2020.
والفرضية تقول إن ترامب اتصل بالرئيس التركي رجب طيب أروغان، لإنقاذه من وضعه الداخلي والهروب للأمام لكسب الوقت، وعرقلة إجراءات العزل، طالبًا منه الهجوم على الشمال السوري، ليعلن في الوقت ذاته انسحاب عدد قليل من قواته من قاعدة عسكرية قرب الحدود السورية التركية، وقد فاجأ ذلك الأمر مارك بومبيو وزير خارجية ترامب الذي ادعى أن الولايات المتحدة لم تمنح “إذنًا” مطلقًا لتركيا، لشن هذه العملية العسكرية ضد الأكراد. وكما يبدو أن بومبيو قد يسقط قريبًا، بعد إسقاط جون بولتون مستشار الأمن القومي السابق. وتم نقل القوات الأميركية لحماية منابع النفط السوري، والسيطرة عليها، ومنع نقلها إلى النظام السوري، بعد أن تكفل بنقلها (داعش) ثم (قسد) في السنوات الخمس الماضية.
يواصل ترامب لعب دوره كقائد للقوات المسلحة الأميركية، بمهمة التراجع عن الإنجازات الإمبريالية “للدولة العميقة”، وربما سيكون قادرًا على تفكيك ما يقرب من 800 قاعدة عسكرية أميركية منتشرة في جميع أنحاء العالم، وإعادة عشرات الآلاف من الجنود إلى وطنهم، وبذلك يوجه ضربة قاسية للبنتاغون والمجمع العسكري الصناعي، وفي هذه الحالة ستكون نيته القيام بتبادل الأدوار مع أعدائه، الذين سيعقدون نوعًا من السلام معه، كما لن يرفض نتائج سنوات حروب التوسع الأميركية في الشرق الأوسط.
في الوقت الحالي، لم يتضح بعدُ مَن الفائز من “نبع السلام”، أهو ترامب أم بوتين أم الأسد أم أردوغان! وعلى الرغم من تمكن ترامب -من خلال هذه الفوضى في البداية- من تحويل الأنظار من فضيحته الأوكرانية إلى “وحشية” الأتراك و”مأساة” الأكراد في سورية، عبر ماكينة إعلامية غربية هائلة تدعم هذا التوجه، وفي الوقت نفسه، بعد تمرد حزبه الجمهوري عليه، أوقف إجراءات العقوبات ضد تركيا، وعقد اتفاقًا معهم، ولكنه مع ذلك كسب الوقت لتأجيل إجراءات عزله، حتى تبدأ حملة الانتخابات الرئاسية المقبلة.